د. سمير ساسي: وحدة البحث “الظاهرة الدينية في تونس” بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة / تونس
ثار جدل كبير في الساحة السياسية والإعلامية في تونس بعد قرار حركة النهضة ترشيح تونسي يعتنق الديانة اليهودية على رأس قائمتها الانتخابية في مدينة المنستير شرق تونس مسقط رأس الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة مؤسس الدولة التونسية ،وهي المدينة التي تعتبر تاريخيا معقلا للحزب الدستوري الخصم الرئيسي لحركة النهضة ولا تجد النهضة داخل هذه المدينة موطئ قدم يذكر
هذه الخطوة غير المنتظرة من حزب ذي مرجعية إسلامية كانت صادمة للجميع بدءا بأنصار النهضة أنفسهم الذين اختلفوا حول القرار بين مرحب ورافض
الثابت أن هذا القرار النهضوي لم يترك لكل الفاعلين السياسيين فرصة للمناورة فكل خطوة قد تتخذها الأحزاب الأخرى في اتجاه المواطنين التونسيين من أصحاب الديانة اليهودية سيعدّ من قبيل المزايدة وسيفقد المنتظر منه
فما الذي يحدث في تونس وكيف تجلت مواقف مختلف الأطراف من هذا الخيار القنبلة
نبدأ بالرافضين من أبناء حركة النهضة فهؤلاء لجؤوا لكتب الفقه التقليدية يبحثون عن مستند شرعي لرفضهم واستندوا إلى القول الذي لا يرى جواز تولية الذمي أمرا من أمور المسلمين ،وفاتهم هنا أن الوضع ليس وضع ذمي ـو أن هذا الرأي الفقهي ليس إجماعا لدى الفقهاء القدامى أنفسهم ولا حتى داخل التجربة التاريخية للجماعة الإسلامية الأولى .
أما الرافضون من داخل الحقل الإسلامي فهم من التيار السلفي الواسع وهم يشتركون تقريبا في الحجج نفسها مع الرافضين من داخل حركة النهضةوهم يتهمون النهضة علاوة على ذلك بالكفر وتحليل ما حرّم الله
بعض المهللين للقرار من داخل النهضة أيضا لم يجدوا ما يبررون قرار حركتهم سوى اللجوء إلى المنظومة الفقهية التقليدية مثلما فعل معارضوهم ولكن من زاوية البحث عن مستند يمنح القرار مشروعية
وفي الواقع ينم هذا اللجوء إلى المنظومة الفقهية التقلدية من الجهتين عن خواء فقهي ونظري يؤكد الحاجة الملحة لمزيد بذل الجهد في تجديد المنظومة الفقهية المعاصرة بما يستجيب لحاجة الوقت كما يقول علماء الأصول
ونحن لا نرى العيب في المنظومة الفقهية التقليدية بل في اللجوء إليها فهي منظومة أنتجت فقهها بحسب حاجة عصرها وأنتجت أيضا ما يسمح لغيرها بعدها أن ينتجوا فقههم الخاص بهم من خلال مفهوم”أهل الوقت “لكن هذا الغير أو الخلف أضاعوا المنهج و اتبعوا التفاصيل حتى لم يعودوا يميزون بين ما يجب وما لا يجب وتشابهت عليهم السبل فلم يلتقوا على كلمة سواء .
لا يمكن هنا أن نغفل مسؤولية حركة النهضة تجاه هذا الوضع المعقد داخليا فهو ينم عن غياب جهد مؤسساتي بتعميم ما قطعته الحركة من أشواط في تجديد رؤاها الفكرية والتأصيلية فكأننا إزاء مفارقة بين رأس الحركة وجسمها كما أنه يخفي اضطرابا داخل الرأس النهضوي نفسه الذي لم يقدم موقفا يحسم هذا الجدل الداخلي فهل كان هذا الرأس يدرك الأبعاد الفكرية والدينية للقرار ويتجاهلها عن قصد أم غفل عنها فعلا وفاتته
وفي الحالتين نحن إزاء أزمة خطاب تجلت في غياب شجاعة قيادية في التصدي لشرح الأبعاد الفكرية لهذا الموقف بمقدار شجاعة اتخاذ القرار موضوع الجدل
لكن هل يستدعي الموقف فعلا طلب هذه الشجاعة
نعتقد أن الجواب بالإيجاب فبعيدا عما يخفيه صمت النهضة عن تبرير اختيارها من ترصد لغُنم انتخابي يأتيها من خلال جعلها محور النقاش العام طيلة هذه الفترة يحتاج نظام الاجتماع السياسي في تونس إلى حسم فكري في مواجهة حالة الاحتراب الايدولوجيي الهووي الذي يهيمن عليه فالفاعلون بمختلف انتماءاتهم لم يغادروا مربع الصراع على الهوية رغم التشدق المعلن بأنها محسومة ومحل اتفاق والحديث عنها يعود بصفة أخص في المحطات الانتخابية التي تمت وقد تتم منذ الثورة
ولا يبدو أن تمسك حركة النهضة برفضها الخوض في مثل هذا النقاش الايدولوجيي سيعفيها من تبعاته في غياب بديل سياسي واقتصادي واجتماعي تتنافس عليه مكونات المجتمع المدني والسياسي وهو ما تجلى من خلال ردة فعل بقية الفاعلين على اختيار النهضة لتونسي من اليهود ضمن قائمتها الانتخابية
الخيار النهضوي كان له أثره على الفاعلين الآخرين في الاجتماع السياسي التونسي أولهم الطائفة اليهودية في تونس فقد صرح رئيس الطائفة بيريز الطرابلسي أن الطائفة غير معنية بهذا الترشيح و أن اليهودي الذي اختار مساره الانتخابي مع النهضة اختاره بصفة شخصية ،وهذا بدوره يعبر عن أزمة فكرية أخرى لدى هذه الطائفة نجملها في السؤال الآتي هل يعتبر اليهود في تونس أنفسهم مواطنين أم طائفة ؟تبدو الإجابة أقرب للنفي من خلال تحليل خطاب رئيس الطائفة فقد كان أولى به أن ينظر إلى الأمر كفعل مواطني ضمن الحقل السياسي وليس فعلا تعبديا يخالف الشريعة التوراتية التي مازال يهود تونس يحتكمون إليها في أحوالهم الشخصية خلافا لما يفترض أن يكون في دولة يقول دستورها إن الجميع متساوون أمام القانون
إن موقف الطائفة اليهودية يلتقي من حيث لم يرد مع الرافضين للقرار من داخل حركة النهضة وفي أوساط التيار السلفي إذ هو موقف يعيد السؤال عن معنى المواطنة لدى هذه الطائفة و يمنح المعترضين على ترشيح يهودي على قائمة حزب إسلامي مشروعية لرفضهم ذلك أنه يرسم العلاقة داخل الدولة على أساس عقائدي ديني ومن البديهي أن يرى المتمسكون بالرفض أن إسلامية الدولة التي ينص عليها الدستور تمنحهم الحق بناء على هذا المنطق الذي أسس له خطاب رئيس الطائفة اليهودية أن يرفضوا تولية يهودي على أمر من أمور المسلمين مثلما قرؤوا في فقه السياسة الشرعية القديم
أما الفاعل السياسي الآخر الذي لحقته صدمة القرار النهضوي فهو ما يعرف بالأحزاب العلمانية الحداثية التي لم تجد غير اتهام النهضة بكونها تسترضي الدوائر الصهيونية من باب التعاون مع اليهود التونسيين ،و نسيت هذه الأحزاب أن القانون المنظم للأحزاب السياسية في تونس لا يمنع أي تونسي من الانخراط في أي حزب بصرف النظر عن عقيدته و يبدو أن وجه الأزمة في خطاب هذه الأحزاب لايقتصر على حالة الذهول عن القانون و إنما في العجز عن مجابهة هذا “الهجوم الذكي” من الإسلاميين في عقر دار الأحزاب الحداثية التي تعلن دوما أن الإسلاميين لا يؤمنون بالمواطنة و إنما ينظرون لدولة الرعايا التي تنتهك حق الأقليات الدينية
ثمة فاعل رئيس غاب عن المشهد هو النخبة المثقفة التي يفترض أن تكون رائدة هذا الجدل تدفع به نحو الحسم في اتجاه المشترك المواطني ،وهو غياب مثير للسؤال هل نفتقد في تونس إلى نخبة حقيقية أم هل آثرت النخبة الركون إلى حصونها الايديولوجية بما يتناقض مع صفتها لمجرد أن المبادر بالقرار هو من يفترض أنه عدو للتقدم والحداثة و هذه الأسئلة أسئلة فرعية من السؤال الأكبر و الأعمق أي الفاعلين في هذا المشهد يبدو أصوليا أكثر من صاحبه وما السبيل لتفكيك هذا المنطق الأصولي والحدّمن آثاره المستقبلية على العيش المشترك داخل دولة الثورة
يبدو أن قرار حركة النهضة وبصرف النظر عن موقفنا منه رمى بحجر كثير في مياه تونسية تخفي تموجها الداخلي إلى درجة أنها انفجرت بتناقضاتها حتى قبل أن ينتخب التونسيون هذا المرشح الذي شغل الناس وملأ تونس
اترك رد