رسالة التعليم أولا!

مر الجدل حول أولوية التصويت على الدستور الجديد بالسلب أو الإيجاب، ومر ما رافقه من تطبيل وتزمير حول ما ينتظر المغرب من خيرات إذا ما المغاربة لم يحسنوا من قول سوى “نعم”! وفاتنا أن الإصلاح الدستوري الذي لا يغير من الواقع شيئا ضرب من العبث، وأن الدستور الذي لا يوقف الفساد ولا يحرك الضمائر ضرب من الوهم أو كمن هو ممسك بخيوط العنكبوت، وأن الدستور الذي لا يحد من انتهاك وهدر كرامة المواطن في الإدارات والإعلام وغيرهما ليس إلا أسماء سميناها ما أنزل الله بها من سلطان.
إن المدخل الأساس لاستعادة عزتنا وكرامتنا هو إصلاح كل المؤسسات والمجالات التي لها علاقة مباشرة بالمواطن، علينا أن نرفع شعار “المواطن / الإنسان أولا!”، إذ هو منطلق ومدار وغاية كل إصلاح وتغيير، وإلا فلا صلاح ولا إصلاح! فالحاجة مازالت ملحة وأكيدة لإصلاح تعليمنا وقضائنا ومساجدنا ومؤسساتنا الإدارية … من أجل تحقيق إنسانية الإنسان، الطريق طويل والعقبة كؤود والإرادة الرسمية ما زالت تراوح مكانها!
ولنأخذ مجال التعليم على سبيل المثال، فرغم أن الدولة تنفق أموالا طائلة على إنشاء المدارس وتجهيزها بالموارد البشرية والمادية، فإنه ظل يعاني من أمراض مزمنة يعرفها الخاص والعام من ضبابية في الرؤية وهدر و”هدرة” وضعف آفاق التكوين ونمطيته والتركيز على تلقين المعلومات أكثر من الإهتمام بتأهيل المتعلم لخوض غمار الحياة وهلم جرا، بل “أدلجة” هذا القطاع الحيوي واستخدامه في تكريس هيمنة الطغمة المسيطرة من أصحاب النفوذ. ولذلك كفر ولعن شاعرنا المتمرد أحمد مطر رافعا لافتته الإحتجاجية أن :
كفرت بالأقلام والدفاتر
كفرت بالعربية التي تحبل وهي عاقر
لعنت كل كلمة
لم تنطلق من بعدها مسيرة
ولم يخط الشعب بها مصيره!
لا ريب أن الاستبداد السياسي وطغيان المادة على القيم وشيوع الجهل المركب والتفكك الاجتماعي والفقر… كلها ظواهر مقيتة انعكست آثارها سلبا على الارتقاء بالمنظومة التعليمية لبلادنا، في الوقت الذي صار فيه التعليم والتفوق العلمي في بلدان أخرى معروفة يستخدم كسلاح للضغط على الآخرين الذين حرموا منه، بل يصل الأمر إلى اغتيال عقلهم الحضاري الذاتي وإنتاج عقل مزيف لهم! ولذلك كان إحسان القراءة والتعلم شرط الوجود والتطور وشرط الكينونة والحفاظ على حياة الشعوب والأمم من الفناء، فـ”الأمة التي لا تقرأ تموت قبل أوانها” كما ذكرنا بذلك المفكر مالك! ولم يكن عبثا أن يصرح “بسمارك” صانع الوحدة الألمانية بعد الحرب السبعينية : “لقد غلبنا جارتنا بمعلم المدرسة!!” فالحق أن فهم العالم والتأثير فيه يستلزم بدءا إفراغ الجهد في الاعتناء بالمدرسة : مدرسا وبنية وتنظيما وتصورا ودعما. وخلال “الحرب الباردة”، لما رأت الولايات المتحدة أن خصمها العنيد الإتحاد السوفياتي قد أفلح في غزو الفضاء، دقت الناقوس وأصدر سياسيوها وخبراؤها تقريرا خلاصته أن “أمريكا أمة في خطر!”، وحددوا مكمن هذا الخطر بالأساس في تراجع مستوى التعليم عن الإستجابة لخطورة وجسامة التحديات التي تواجه بلادهم! وبه كانت قصة الإصلاح وما بعدها!
بناء على ما سبق، لن نكشف سرا إذا قلنا، وبإلحاح، أن التربية والتعليم في مقدمة الدعائم التي تستند عليها الأمم في نهضتها، التربية المدرسية التي تتكامل تكاملا تاما مع التربية الأسرية والمجتمعية والمدنية. أين نحن من هذا ؟! لماذا تخلت مدارسنا عن دورها التربوي لتكتفي بشحن أدمغة المتعلمين بمعارف ومعلومات قد لا يرجى من كثير منها نفعا إذا ما خرجوا إلى المدرسة الحقيقية..؟! مدرسة تجارب الحياة اليومية وتحدياتها. إذ المعارف ليست إلا أدوات للعمل، ومن ثم فالحرص ينبغي أن ينصب على استثمار التعلم في مواجهة تغيرات الواقع ومتطلبات الحياة المتجددة لا تحصيل المعرفة فحسب. بالتأكيد ما أحوجنا إلى تطوير كفايات المتمدرس بتلقينه كم نظري من المعارف مع التركيز على تدريبه في توظيفها في جميع أحواله الإجتماعية اليومية.وإلا فما الفائدة مثلا أن يحصل طالب على شهادة في الفيزياء دون أن يتمكن من إصلاح عطل كهربائي بسيط في منزل الأسرة! هذا دون أن نؤكد على ضرورة ربط التعلم بالمبادئ والقيم والأخلاق حتى إذا تخرج المتمدرس عفيفا والتحق بإحدى الوظائف والمسؤوليات دفعه وازعه الداخلي لخدمة مصالح الناس، لا يريد من وراء ذلك مكاسب ولا رشوة ولا شكورا! لعل ذلك يكون قريبا!
يجب أن ندرك أشد الإدراك أن الإنسان هو المعول عليه في صناعة مجدنا بين الأمم، وبالتالي فإن بناء وتكوين هذا الإنسان ليس عملية سهلة يمكن تحقيقها بتخطيط بسيط وزمن يسير كما تتحقق الصفقات التجارية والمشاريع العمرانية. إنها عملية مضنية ومركبة لارتباطها بتأهيل الإنسان لرسالة عظيمة ومهمة جسيمة من داخل ذاته، عبر تظافر الجهود الرسمية والشعبية، الفردية والمؤسساتية. وبهذا حق أن ننبه إلى أن إصلاح التعليم ومهما تأخر فإنه يجب أن يبقى أول نقطة في جدول أعمال من ائتمنوا على تدبير شؤون هذا البلد، وإلا خانوا الأمانة! ذلك لأنه أهم المهام المستعجلة والحاسمة في كل مصير وسبيل للإصلاح.
لحكمة بالغة كان أول ما نزل من الوحي: “إقرأ …”، وليس شيئا آخر! لأن الدول التي لم يتهيأ لأفرادها أن يقرؤوا ويتعلموا حرمت حتما من نعمة المعرفة وتوسيع مساحة الرؤية وامتلاك البصيرة واتخاذ القرار والموقف المناسب والقدرة على المبادرة والإبداع والارتقاء ومواجهة تحديات الواقع المتجددة. فلنحسن القراءة ونصلح مؤسسات القراءة والتعليم وندعم تنوع مجالات التربية والتكوين، ذلك هو الطريق لإنتاج أهم ثروة، ألا وهي الإنسان، فبصلاحه تصلح أحوالنا السياسية والاجتماعية ونبني دولة المؤسسات بدل دولة الأشخاص والعصبيات ونسعد بطعم الحياة! لأن الصلاح لا يوجد في الدستور والمؤسسات بقدر ما يوجد في عقل وروح المواطن الذي نال حظا من التربية والأخلاق والتعليم!


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد