ندوة التحولات القيمية في المغرب الراهن – المغرب – مكناس

يطرح مفهوم القيم في حقل العلوم الاجتماعية كأحد أكثر المفاهيم تعقيدا والتباسا، وهو أمر عائد إلى طابعه المجرد الذي يحول دون تحديده بدقة وصعوبة تحديد تمظهراته من جهة، ومن جهة ثانية، يتموقع المفهوم ضمن شبكة مفاهيمية لا تقل تعقيدا عنه.
ودون الخوض في الإشكالات الإبستمولوجية لمفهوم القيم، فإن هذا الأخير يمثل موضوعا بالغ الأهمية نظرا لما تمثله القيم من ركيزة لكل نموذج ثقافي ولما تختزله من معايير مرجعية موجهة للسلوك والعلاقات، ما يجعلها تحتوي، بكيفية ضمنية، على نماذج تفضيلية للسلوك تميز الجماعات عما عداها. وانطلاقا من فعاليتها هذه، تساهم القيم في ترسيخ سلطة النموذج الثقافي وسلطة المعايير الموجهة من خلال تقوية روابط الانتماء لهوية جامعة تأسس للذاكرة و المشترك الجماعي.
ولئن كان الاهتمام بالقيم قد ظهر مبكرا ضمن اهتمامات الفلسفة في أحد أهم مباحثها الكبرى ( الأكسيولوجيا أو مبحث القيم)، فإن اهتمامات العلوم الإنسانية به تزداد يوما بعد يوم. خاصة في عالم يعاد فيه تشكيل الهويات وبروز سؤال القيم والخصوصيات الثقافية، والشعور بعدم الأمان من جراء فقدان المعنى. على هذا النحو، يعود سؤال الانتماء المسكون بهاجس المعايير القيمية الضابطة ليطرح نفسه بقوة تحت مسوغات مختلفة تحيل جميعها على التميز والاختلاف مع الآخر.
لقد تهاوت السرديّات الكبرى، بتعبير ألان توران، ونجم عن هذا الأمر تراجع هيمنة بنيات ومؤسسات الضبط الاجتماعي على الأفراد، مما أفقدهم الموجهات القيمية التقليدية التي طالما شكلت إطارا مرجعيا يمتحون منه ثقافتهم ونماذج سلوكهم.
لم يعد الأفراد، على هذا النحو، نتاج خالص للمؤسسات التقليدية التي ظلت تتحكم فيهم، وتعيد عبر سيطرتها تلك، إنتاج النظام الاجتماعي بقيمه السابقة، بل غدت تنشئة الفرد تطرح في نطاق صيرورة علائقية وتفاعلية تعطي قدرا من الأهمية للفاعل الفردي نفسه وتفتح أمامه عالم ممكنات تتشكل في إطاره اختياراته وتتفتق إبداعاته.
والمتتبع لمختلف هذه التحولات التي عرفها العالم طيلة العقدين الأخيرين، يستشف، بلا شك، حجم التأثير الذي أحدثته العولمة في هذا الإطار وما نجم عنها من آثار مست مجالات مختلفة، بدءا بمجال البحث العلمي وتنامي قيم العنف وغياب الحياد الموضوعي، مرورا بالمجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولا يمكن إغفال ما تركه تطور التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال، وبروز ذكاء صناعي، في هذا الباب، من نتائج قلبت منظومة القيم وأولويتها. لقد أدى الأمر إلى انبثاق هويات عابرة للقارات تشكلت عبر فضاء افتراضي جديد مثل مجالا للتواصل وتمتين الروابط وتقوية الانتماء لمجموعات مختلفة الأعراق واللغات والإثنيات والديانات، بل مختلفة جغرافيا وثقافيا وقيميا.
والبيّن أن وقع هذه التحولات كان له بالغ الأثر على منظومة القيم وعلى ثقافة الأفراد والجماعات، مما نتج عنه خلخلة العلاقات التقليدية خاصة في المجتمعات النامية كما هو حال المغرب. ولقد أفرز كل ذلك تباينا بين الأجيال على مستوى المرجعيات الثقافية والرهانات ونسق العلاقات التي أصبحت تنتظم بين الفرد ومحيطه. وأدت هذه التحولات إلى بروز روافد جديدة للهوية ومرجعيات مختلفة مؤطرة للقيم الاجتماعية. وهو أمر قلل من آثار القواعد والتقاليد الموروثة التي توجهها أنماط قيمية وسلوكية تنتقل بشكل تسلسلي من جيل إلى آخر. فبدأت تبرز، من جراء ذلك، معالم نظام قيمي جديد في إطار التشكل سمته الأساسية التركيب والمزج، ما حدا بالكثير من الباحثين إلى وسمه بالترميق القيمي.
إن هذا التحول الحاصل في المجتمعات المعاصرة، والمغرب نموذجا لها، لا يمكن استيعابه باعتباره تفككا نهائيا في منظومة القيم أو تلاشيا للمعيارية الموجهة للأفراد بصفة كلية أو أزمة قيم كما يحلو للكثيرين توصيفه، بقدر ما يجب النظر إليه باعتباره تعبيرا عن مخاض ملازم لتطور المجتمع وإعادة ترتيب للقيم بحسب أولويتها، يعاد في نطاقه تشكيل الروابط الاجتماعية بكيفية تتسع فيها اختيارات الأفراد وتبرز هويتهم وخصوصياتهم بكيفية توسع من دوائر انتماءاتهم. ولعل هذا ما يظهر من خلال بروز مجموعات مجهرية تتخذ قيما ضابطة لها، وتحمل سمة ” جماعات شعورية” على حد تعبير ميشيل مافيزولي. جماعات يحكمها التواشج وتتآلف في نطاق قواسم تجمعها وتشكل هويتها وقيمها من قبيل: الهواية، الذوق، القيم والثقافة الاستهلاكية….الخ. وتتوطد العلاقات بين أفرادها واقعيا أو افتراضيا. وقد تغدو مرجعيات الانتماء هذه، حجر الزاوية في تشكيل هويات مقاومة لثقافة المجتمع ولخيارات الأجيال السابقة ومعاييرها الضبطية.
على أساس هذه الاعتبارات، ارتأى مركز ابن خلدون للدراسات والأبحاث في القيم والمجتمع، أن يضع سؤال القيم وتحولاتها في المغرب الراهن، ضمن أولويات الاشتغال، في إطار ندوة وطنية ينظمها في هذا الصدد. ويرنو من خلالها إلى إعادة طرح الموضوع أمام مبضع النقد العلمي، متجاوزا كل ما ينتج من خطابات حول نهاية القيم وأفولها أو أزمة القيم وانحسارها، وهي خطابات ما فتئت تكرس فهما مغلوطا حول القيم وتنتج خطابا قيميا معياريا حول موضوع القيم.
انطلاقا من ذلك، سيحاول المشاركون في هذه الندوة إعادة التفكير في موضوع القيم، من حيث طبيعتها وغاياتها وعلاقة القيم الإنسانية بالواقع. مستحضرين بذلك إشكالية القيم بين المطلق والنسبي، بين الذاتي والموضوعي، بين الثابت والمتغير، بين المعيار والتأويل، بين الكوني والخصوصي، بين الوسيلة والغاية…
سيشارك في هذه الندوة، التي ستنعقد يوم السبت 31 مارس 2018 بمدرج دار الشباب عبد الكريم الخطابي بمكناس، ثلة من الأساتذة الجامعيين من تخصصات علمية مختلفة.


نشر منذ

في

,

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

اترك رد