محمد الزغواني – بنزرت ، تونس
بسم الله الرحمان الرحيم و الصلاة و السلام على رسول الله
الإسراء و المعراج
قد يرى الكثير أن أزمة العالم الإسلامي هي نوع من التخلف الحضاري ، أو ربما خلل في فهم و تقبّل مدنيات هذا الزمان الذي يعيشه المسلمون بغير الإرادة و القدرة ، فيكون العيش نكدا و الماء كدرا و النوم سهادا و أرقا . و هذا و ذاك يجوز أن يكون في كتاب هذه الأمة الذي ستسأل عنه غدا كما هي تسأل اليوم . غير أننا نرى أن محل كل ذلك ، حواشي الكتاب و ملاحق الفهارس لا كما يذهب البعض ، جوهر النص و لب البحث ، فليس الداء مدنيات نعجز أن نعيشها و حضارة نضيّع ركبها . و إنما الداء كما نستشعره و نستطعم مرارته ،عجز أن نعود في التاريخ ، أو بعبارة يمكن أن توشي بكثير من الدقة ،عدم قدرة عن الفكاك عن عوائق و سطوة التاريخ الهائل الذي نحمله كميراث نعجز أن نتعامل معه ، حتى لكأنه تصدق علينا صفة أننا مرضى بالتاريخ نتقلب بين أعراضه و آثاره السلبية غير قادرين على تنقيته من كل تلك الأوهام التي علقت به و خصوصا تلك المرتبطة بديننا ، و هل لنا تاريخ خارج دائرة الدين و سير حملة هذا الدين بدءا بالرسول صلى الله عليه و سلم ؟
الكثير منا ، و هم الأغلب للأسف ، يعجز أن يرى في تاريخنا تاريخا بشريا تحكمه قوانين الطبيعة ، بل الأدهى من ذلك أن العديد منهم ، و هم الأعلى صوتا و أرفع مكانة و سطوة ، يتباهون بكونه تاريخ الخوارق و الأبطال الأسطوريين ، تاريخ معصوم من الزلل ، يؤسس في الوجود و في الطبيعة القوانين و الأحكام الثابتة ، على عكس ما تقتضيه قوانين الحياة التي تتأسس على سيرورة الإنسان وفق وجوده . حتى أصبح الحديث عن بشرية هذا التاريخ و نسبيته و خضوعه المتحتم لإكراهات الزمان و المكان ، حديث متهم و مدان قد يقابل في كثير من الاحيان بالتكفير و التشهير و التبديع . فلست تقدر ، إلا بكثير من العنت ، أن تتحدث عن مكابدة الرسول صلى الله عليه و سلم و صحبه و السلف و تقلبهم في صروف الزمان و المكان و تفاعلهم المصلحي مع واقعهم و زمانهم و كأنهم أناس خارج المكان و خارج الزمان ، لا يربطهم الى واقعهم رابط .
هذا التعامل الصبياني مع التاريخ و الذي لا يزال مسيطرا على خطابنا الديني ، حتى الأكاديمي منه ، يمنع فيما نرى ، حسن التوظيف لكل ذلك المخزون الذي تركه لنا السلف و جمعه لنا التاريخ ، نحن لا نزال في أغلب دراساتنا و بحوثنا ، في تعاملنا اليومي و المعرفي ، التأسيسي منه و الإصلاحي ، نعجز أن نستفيد من التجارب و الممارسات السابقة لأننا نرفض أن ننظر إليها بعين النقد و النسبية و الظرفية ، نقرأها بعين الرهبة نخاف أن نخطئ في الحركة و الشكل و الإعراب ، فما بالك بالتأويل و التفسير ، الرجال عندنا أصنام و الأفكار أوثان و صروح لا يمكن المساس بها ، فنقرأ بعيون مغمضة و عقول مغيبة ، بدون أحلام و لا أماني غير دعوات المغفرة و التبرك و حسن الختام و أن نحشر مع الاسلاف . فنعيد أنتاج الماضي بصور مشوهة و الرجال في مشاهد مضحكة فإذ كل تلك القمم الشامخة و الأعلام الخالدة خيالات مآتم نتنة ، و نعجب كيف يفر الأبناء من كل ذلك و يحتقرونه ، و نستغرب ضحكات العالمين و نرى فيه المؤامرة و الحسد ، نعم البعض يرى فيه الحسد ، يا الله . و نريد النهوض بل ندعي الرغبة في الاستفاقة و لا نملك القدرة و نعجب من كل ذلك العجز و ذلك الوهن الذي يتملكنا و لا نفقه من أنفسنا شيئا و من عجزنا سببا .
خذ مثلا حادثة الإسراء و المعراج التي نتوقف عندها هنا بحكم المناسبة الزمنية و ربما لبعض الشبه في الحالة النفسية التي نحن حيالها ، و عد الى كتب التاريخ و كتب السير و كتب الأحاديث و أنظر بماذا تخرج من كل ذلك ، طبعا إذا استطعت أن تتخلص من كل تلك الحبائل التي يوثقك بها اخباريّونا و محدثونا و كتّابنا الإجلاء ، متاهة من الوقائع و الأحداث و التناقضات و حتى الصبيانيات التي ترفضها حتى عقول العجائز ، فيربكك كل ذلك أن تري ، في الواقعة روعة المشاهد و عمق الدلالات و مغزى الأحداث . لذلك سنحاول هنا أن نخترق كل تلك الحجب المانعة و الاسمال البالية التي ألقاها البعض حول الحادثة لنسبر الأغوار و نكتشف الأسرار و ما هي أسرار بالمعنى الذي يفهمه الكثير منا ، بل هي أسرار اللحظة التاريخية التي يتنزل فيها الحدث و أسرار هذه الخطوة التي تعد بكل المقاييس لحظة فارقة في مسار الدعوة الإسلامية و تأسيس دولة الإسلام و قبل كل ذلك من خلال الحسم في تصورات هذه الفكرة الوليدة و حدودها و طموحاتها الحضارية . قد يبدو كل هذا الكلام موغلا في الطوباوية و محمّلا للتاريخ و لهذه الدعوة أكثر مما تحتمل غير أن سياقات القراءة و التأويل النافذ الى عمق الوقائع سيثبت كيف مثلت حادثة الإسراء و المعراج بكل جلاء المحطة الفارقة في التأسيس و الوضوح لهذا الدين .
فكيف يستقيم لنا كل هذا الزعم ؟
في البدء و كما هو معلوم فحادثة الإسراء و المعراج تقف تقريبا في منتصف طريق الدعوة ( السنة 12 من الدعوة ) قبل الهجرة ب18 أو 16 شهرا ، كذلك هي تمثل نهاية مرحلة و بداية مرحلة جديدة كليا ؛ المرحلة المكية ، مرحلة الدعوة و تحمل الأذى و الصبر على المكروه . و مرحلة المدينة ؛ مرحلة التمكين و بداية تشكيل الدولة الإسلامية . فقد جاءت حادثة الإسراء و المعراج بعد الحصار و المقاطعة الاقتصادية و الاجتماعية التي دامت قرابة ثلاث سنوات و كانت آخر محاولات رجالات قريش لوأد هذه الدعوة و التضييق عليها و قد مثلت في عنفها و وحشيتها قياسا مع ما ترسخ في الوعي العربي من أخلاقيات التضامن و النصرة ، حالة من فقدان التوازن و الارتباك الذي طال ملء قريش الذي رغم بقائه مسيطرا في الظاهر على الوضع في مكة إلا أنه ما عاد يمتلك الرؤية المتوازنة في مجابهة محمد و صحبه هذا القائد الذي أستطاع بثبات خطاه و جلاء أفكاره أن يحدث الشرخ داخل صفوف أعدائه ، و ما نقض الصحيفة ، ذلك الأمر الذي دبر بليل كما قال أبو جهل ، إلا تعبيرا عن كل ذلك . كما يمكن اعتبار دخول الرسول صلى الله عليه و سلم مكة بعد محاولة الطائف الفاشلة ، في جوار مطعم بن عدي ، المشرك و طواف الرسول بالبيت و الصلاة تحت حماية سيوف أبناء هذا الأخير ، مسألة لها أكثر من دلالة خضع لها كبراء قريش صاغرين . كذلك ربما كانت الحالة النفسية التي وصل اليها الرسول بعد ذلك المسير الشاق الذي قطعه تحفه كل تلك المحن في صحبة ضعيفة غير قادرة أن تحقق له الأمان ….. و الدعم و لعل الحادثة التي يرويها ابن مسعود بكل مرارة و المتعلقة بما فعله كبراء قريش بالرسول عندما كان يصلي بالحرم حيث وضعوا فواضل ذبيحة لهم على كتفه و هو ساجد فلم يستطع أحد من أصحابه أن يزيلها حتى جاءت ابنته فاطمة و هي صبية صغيرة فأزالت الاذى عن والدها . الأكيد أن تلك الحادثة قد تعبّر عن الحالة النفسية التي كان يعيشها الرسول صلى الله عليه و سلم و كل أصحابه …… لذلك تمثل واقعة الإسراء و المعراج في جانب من جوانبها نوعا من اعادة البناء و التوازن النفسي لشخص الرسول و أصحابه ، شيء من الترميم و التحفيز لشخص القائد و الأتباع . لأننا عندما نقرأ دعاء الرسول بعد محاولة الطائف و أحاديثه بعد حادثة الإسراء و المعراج نلمس الفرق و النقلة النوعية التي طالت نفسية القائد الذي استطاع أن يحقق الفارق و يكسب رهان البحث عن أرض جديدة لدعوته بعد أن تيقن أن مكة هي غير قادرة الآن بسطوة رجالاتها أن تحتضن هذه البذرة ، فكانت العقبة الأولى ، ذلك النجاح البارز و الخطوة التي هي ثمرة من ثمار ذلك الدفق الذي حققه الإسراء و المعراج
ثم إن الإسراء و المعراج قد أعطى لهذه الدعوة في تلك المرحلة المبكرة منها ، بعدها الأممي و سياقها الحضاري باعتبارها دعوة تتجاوز مكة لتطال أماكن نائية و حضارات راسخة في المدنية ، ثم هي تعلن صرامة هذا الدين و حسمه في مسالة البناء العقائدي حيث لا مهادنة . هو المهيمن و القائد و هو الإمام لكل الأنبياء لا يرضى بغير التسليم و الاتباع له . إن هذا الوضوح و هذا الحسم الذي تعلنه حادثة الإسراء و المعراج حيال الدور المناط به و الرسالة التي يحملها ، هي دعوة لا تهادن و لا تلين في فرض سياقها ، و الخطاب موجه الى الدعاة و الاعداء على حد السواء ، هذا الدين لا يبالي بحالة الضعف التي هو عليها الأن ، لا يحابي و لا يساوم في فرض تصوراته و عالميته و هيمنته على كل الاديان ، و هذا النبي الذي هو اليوم في حمى مشرك يعلن أنه قد أمّ كل الانبياء في بيت المقدس و ارتقى السماوات العلى ، كلام جعل عتبة بن الربيعة و هو رأس الكفر يرد على ابي جهل عندما أراد أن يسخر من الرسول بقول له أكثر من دلالة ” و ما ينكر أن يكون منا نبي و ملك ؟ ” .
غير أن رمزية حادثة الاسراء و المعراج تتجاوز أن تكون مجرد خارق لنواميس الكون و تبكيت للمشركين و مددا من الله لنبيه و أتباعه المستضعفين ، برغم أن كل ذلك متضمّن فيها كما اسلفنا في سياق الحديث السابق ، لأنها بعد كل ذلك تتسامى لأن تكون معجزة باهرة تؤكد سطوة عالم الشهادة و المكانة التي أصبح يحتلها في الوجود . فالإسراء و المعراج بما هي ” حادثة ” تؤسس و تفتح صفحة جديدة في سياق علاقة الانسان بالسماء ، علاقة عالم الغيب بعالم الشهادة ، هي تؤكد سطوة الانسان و قدرته على اختراق كل تلك العوالم التي أخفيت عنه طويلا و بقيت لغزه المحيّر و أرقه الانطولوجي الأشد إرباكا و تعجيزا . كذلك هي تعلن انفتاح و استسلام عالم الغيب و استعداده لاستقبال هذا الانسان كي يتجاوز ظرفيته و محدوديته و يعلن تعاليه و كبرياءه بمقدرته على تخطي كل الحجب ، إنها تعلن عن رجوع الانسان الى عالم الغيب بعد اقصائه منه ، إنه اليوم يوشك أن يكون أهلا لكي يرفع الرأس امام الملائكة و يقف شامخا في حين تتهاوى هي مغشيا عليها عجزا أن تبلغ المنتهى ، تذكيرا لها و استحضارا لسجودها للإنسان الأول عندم استهل الوظيفة ( الخلافة ) ، الإنسان اليوم في شخص محمد صلى الله عليه و سلم و من خلال الإسلام ( لا ننسى أن الاسلام اليوم ما زال يكابد من أجل الوجود ) قادر ان يتجاوز الهبوط و يجد طريق التوبة ، هو ما عاد في حاجة الى التضحية بالابن ذلك القربان المؤلم و الدامي ، اليوم ” الابن الصالح ” قد استطاع ان يجد الطريق ، طريق الرجوع الى جنة الخلد و الوقوف بين يدي ربه بغير واسطة ، هناك في منتهى الوصول و عند غاية المرتجى . هنا ربما يكمن عمق الدلالة و جوهر الحادثة . إن هذا الدين ، هذا الوليد المحاصر و المحمي اليوم بسيوف مشركة ، يقاسي الجوع و الطغيان ، يقدم نفسه للعرب و العالمين كأساس الخلاص و الطريق الوحيد للرجوع الى ملكوت السماوات . فإذا كان أدم قد أهبط بنيه إلى الدنيا كي يشقوا و يكابدوا ، فإن محمدا هو القادر أن يقود القافلة و أن يأخذ بيد البشرية نحو الرجوع الآمن الى عوالم لا جوع فيها و لا نصب ، طريق لا يحتاج الى صلب الابن و التضحية به من اجل التكفير ، الابن هنا راعي يسوق قطيعه الى المراعي الآمنة و الخصبة .
أن يستطيع محمد صلى الله عليه و سلم أن يخترق دون أن يحترق و أن يقف بين يدي ربه ، هو آذان من الله أن الانسان قد شارف الوصول و النجاة من هذه الدنيا ، شريطة أن يهتدي بهذا الرسول القدوة و أن يسلك الطريق السوي .
الكلمات المفتاحية: الاسراء و المعراج
اترك رد