الدکتور عباس اقبالي \ استاذ مشارک فی قسم اللّغة العربيّة و آدابها بجامعة کاشان ـ ايران
منا شريعت \ طالبة الدکتوراة في فرع اللغة و الأدب العربي بجامعة کاشان ـ ايران
الملخص
لقد احتل الزّمان مکاناً مرموقا لدی الشعراء الجاهليين، فقد وصفوه وصفاًحسياً، صادقاً و جميلاً، وذلک فی إطارٍ يرشدنا إلی معنی الزمان الحقيقي وغيره؛ فعلی ضوء أهمية المسألة تتعاطي هذه المقالة بأسلوبها الوصفي- التحليلي هذه الظاهرة في الشعر الجاهلي. وقد توصلت الدراسة هذه أنّ الکلمات الدالة علی الزمان و في معناه الحقيقي یجسم الحوادث علی أنها واقعیه و حقيقة ويدلّ علی استمرار الوقايع و يربط بين الماضی والحاضر وبين العلة والمعلول. ولکنه قد يستخدم هذه الکلمات ترميزا لبعض الحقائق کالفناءِ والشقاءِ وطول المدة والشمول و الحرکة والنشاط.
دلالة الزمان الحقيقية و الرمزية فی الشعر الجاهلی
للشعر الجاهلی قيمة تاريخية عظيمة؛ فهو وثيقة و من أهم وثائق تاريخ تلک الايام، وقد جمع من المعلومات الشیء الکثير حتی سُمّی بحق: « ديـوان العرب» وسجلّهم الّذی ضمّ بين دفتـيه أخلاقهم وعاداتهم وأنسابهم ومآثرهم وأيامهم، واصفاً ما کانوا يألفـونه فی الحل والترحال، والطعام والشراب، واللباس والحُلی و….. غيرهاً مما کان لهم من علوم ومعارف ودين وصناعات وغير ذلک. و قد تفاعل الشاعر الجاهلی مع الکون بکل ظواهره ومظاهره وأقام علاقةً وجدانية معه، أساسها الحس وإلانفعال، وأظهر ولاءه للکون وعناصره التی يزخر بها شعره؛ فأصبح الکون وما فيه کالأم التی تعطيه کل ما لديها، وراح يستقی رُموزه وتشبيهاته وإستعاراته من جماله وألوانه، فهو يحاول أن ينقل الصورة التی تلوح فی أفق حياته و خياله نقلاً أميناً، فالأنسان، علی مدی التاريخ، يسجل تجاربه، أو ما يبدو منها خطيرا أو مؤثرا فی حياته، فهو فی ای مجتمع يختزن فی ذهنه أشياء عن شتی الأطوار والاساطیر التی مرّبها هو وأجداده، ویؤید ما قاله أحمد زکی: « فالشاعر الجاهلی بسبب رهـبة الموت وما يوؤل اليه من دمار وهلاک إتجه الی إجلال وتقديس عناصر الکون التی تهب الحياة». و في هذا المجال بسبب مکانة الزّمان و دوره في بيان الحوادث و نقل الأحاسيس، قد اعتنی الشعراء الجاهليين بالزمان و وصفوه وصفاً دقيقاً واستمدوّا منه في التعبير عن أحاسيسهم و عواطفهم؛ فأخبروا به عن أيام حروبهم و ترحالهم و صيدهم و تحدّثوا به عن أيام وصالهم و حين فراقهم و کانوا قد يستخدمون الزمان و ما في معناها في مفهوم الرمزي للکلمة.
هذا وبالرغم من مکانة الزمان و أهميته في الشعر الجاهلي، قلّما تناول الباحثون هذا الموضوع بتفصيل يليق به ولم يکشفوا القناع عن بواعث وفرة استخدام الالفاظ الدالة علی الزمان لدی الشاعر الجاهلي؛ فلم نعثر علی مقالة أو دراسة کاملة إلاّ دراسات حول الزمان بصورة عامة، منها الدراسة التی قامت بها الدکتورة (مطهرة معافی مدنی،حيث تناولت الموضوع تحت عنوان (بررسی تطبيقی عنصر زمان در شعر عربی وفارسی با تکيه بر أشعار عبد الوهاب البياتی ومهدی أخوان ثالث یعنی : دراسه تطبیقیه حول الزمان فی الاشعار العربیة والفارسیة علی أساس أشعار عبد الوهاب البیاتی ومهدی أخوان ثالث ، وأيضا وجدنا دراسة خاصة للزمان للدکتور (حسن داد خواه) تحت عنوان : مفهوم کلمة الليل فی العصر الجاهلی؛ و مقالة «مفوم الزمان في شعر النابغة الجعدي…….» فهذه المقالة بين أيدينا و عبر المنهج الوصفي ـ التحليلي و استقراء بعض الالفاظ الدالة علی الزمان وقراءة البیت، تحاول الأجابة عن الأسئلة التالية :
• ما هی خصائص وصف الزمان فی الشعر الجاهلی ؟
• ما هو المراد من إستخدام الکلمات الدالة علی الزمان لدی الشعراء الجاهلیین ؟
فنهتمّ بدراسة هذه الظاهرة و تبيين معنی کلمة الزمان و مترادفاته، بما فيها من معنی الحقيقي و معناها الرمزي علی مايلي:
الزمان لغةً :
قد ورد في معجم لسان العرب: «الزمان اسم لقلیل الوقت و کثيره. قال شمّر : الدهر و الزمان واحد ، قال أبوالهيثم : الزمان شهرين الی ستة أشهر، قال: والدهر لا ينقطع، قال أبومنصور: الدهر عند العرب يقع علی وقت الزمان من الازمنة و علی مدّة الدنيا کلها». وله في الشعر الجاهلي أسماء مختلفة کالدهر و السنين و القرون و الأيّام ولکن الدهر يطلق علی الأمد الممدود و قيل: الدهر ألف سنة .
و مما جاء في حقل الزمان هي کلمة “الحين” إذ کلمة “الحين” مرادفة للزمان، وقيل: الحين وقت من الدهر مبهم يصلح لجميع الإزمان کلّها، طالت أو قصرت. قال خويلد:
کأبي الرِّمادِ عظيمُ القِدرِ جَفنَتُهُ حينَ الشٍّتاءِ کَحَوضِ المَنهَلِ اللَّقَفِ
و ِيصلح لجميع الأزمان فالمعنی في قوله عزوجل: «تؤتي أکلها کلّ حين» أنّه ينتفع بها في کلّ وقت لا ينقطع نفعها البتّة و لکنک لا تلبث أن تجد المادة مشربة بمعانی النقصان و المشقة فی کثير من مجالاتها فی مثل قولهم: و حان حينه: أی قرب وقت أجله. و النفس قد حان حينها إذا هلکت.
وبتصرف يسير فی ضبط الکلمة نجد الحَينَ بالفتح بمعنی الهلاک.قال:
و ما کانَ إلاّ الحَينُ يَوم لقائِها و قَطعُ جديدٍ حَبلِها مِن حبالکا
وقد حان الرجل: أی هلک. و في المثل: « أَتَتکَ بِحائِنٍ رِجلاهُ» کل شیء لم يوفّق للرشاد فقد حان. والحائنة : النازلة ذات الحين، و الجمع الحوائن. وحان سنبل الزرع: يبس وآن حصاده.
عناية الشعراء الجاهـليين بظاهرة الزّمان:
دراسة النصوص الجاهلية تبین لنا أنّ الشعراء الجاهليين لا يزال يهتمون بظاهرة الزّمان حيث يتناولونه فی التعابیر المختلفة الدالّة علیه کـ «الزّمان» و «الدهر» و «الحین» و «الغدو» و «الرواح» و «الليلة» و «اليوم» .وبالرغم من ملازمة الزمان بالبداية ، لکن أول ما نلاحظ فی ذلک أن الشاعر الجاهلی لم يکن مهتماً بالتساؤل عن بداية الزمان و إنما کان مهتماً بنهايته؛ من حيث أنها تمثل فی شعوره مشکلة ذاتية هی مشکلة الموت، فکيف تصور الجاهلی هذا الموت الذی لايفلت منه أحد. فأکثر نصوص الجاهليين تصور الموت قدراً محتوماً لا مفر منه؛ فما يزيد المرء فی الأجل بل إن المنيّة حين توافی الإنسان تتعلق بأدنی الأسباب.
و لعلّ کلمة الدهر) کانت أکثر الکلمات فی اللغة العربية قديماً إرتباطا بفکرة الموت و إيماء بمعانی النقص و الشقاء و العجز عن تحقيق الأمال و کان شأن العرب أن تذُمّ الدهر و تسبّه عند الحوادث و النوازل الّتي تنزل بهم من موت أو هرم فيقولون: «أصابهم قوارع الدهر و حوادثه و أبادهم الدهر…»
کقول لبید بی ربیعة:
وإلاّ فما بِالموتِ ضٌرٌّ لأهلِهِ ولَم یَبقَ هذا الدَّهرُ فی العَیشِ مَندَما
وقال الشمّر: الدهر و الزمان واحد و أنشد:
إنّ دَهراً يلفّ حَبلي بِجُملٍ لَزَمانٌ يَهُمُّ بالإحسانِ
و من دلاله عناية الجاهليين بظاهرة الزمان أنّهم في مجال تصوير بعض وقايع حياتهم و أحداثها کانوا يستخدمون الکلمات الدالة علی الزمان. و کثيرا ما کانوا يذکرون الوقائع مقترنةً بکلمات کـ «اليوم» و «الليل» و«الصباح» و «العشاء» نحو: «يوم الحرب»، «يوم السفر و الرحيل»، «يوم الوصال»، «يوم الفراق»، «يوم المنادمة»، «يوم الممات»، «يوم الحساب» و في استخدام «الليل» کانوا يقولون : «ليلة نحس» و«ليلة طروق الخيال» و «ليلة السرور والحزن» کما نری الشعراء الجاهليين قد استخدموا هذه التعابير فی المجالات المختلفة فعلی سبیل المثال إنّهم یستخدممون کلمة «الیوم» لیتداعی دوام الحرب طوال الایّام إذ أهمّ ما یمیز حیاة العرب فی الجاهلیة أنها کانت حیاة حربیة تقوم علی سفک الدماء حتی لکأنه أصبح سنة من سننهم، فالعرب دائماً قاتلون مقتولون لا یفرغون من دم إلاّ إلی دم، و إلی نحو هذا العيش يشير الامام علی بن ابي طالب(ع) و يقول:
«وَ أَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَی شَرِّ دِینٍ وَ فِی شَرِّ دَارٍ مُنِیخُونَ بَیْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وَ حَیَّاتٍ صُمٍّ تَشْرَبُونَ الْکَدِرَ وَ تَأْکُلُونَ الْجَشِبَ وَ تَسْفِکُونَ دِمَاءَکُمْ وَ تَقْطَعُونَ أَرْحَامَکُمْ الْأَصْنَامُ فِیکُمْ مَنْصُوبَةٌ وَ الْآثَامُ بِکُمْ مَعْصُوبَة»
لذلک کان قانون الأخذ بالثأر هو أکبر قانون یخضع له کبیرهم و صغیرهم، فهو شریعتهم المقدسة و کانوا یسمّون حروبهم و وقائعهم أیاما ؛ لأنهم کانوا یتحاربون نهاراً، فإذا جنّهم اللیل أوقفوا القتال حتی یخرج الصباح. وتسمی هذه الایام أی الحروب غالباً بأسماء البقاع والآبار التی نشبت الحروب بجانبها. کيوم البدر الّتي وقعت في زمن الرسول( صلی الله عليه و آله و سلّم) بجانب بئر البدر و هي لرجل يدعی بدرا. و يوم حنين الّذي ذکره الله تعالی في کتابه فقال: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (و«حنين» اسم واد بين مکّة و الطائف. فـيوم حنين» بمعنی غزوة وقعت فی منطقة الحنين »
و نری الشاعر الجاهلي أنّه یستخدم کلمة « اليوم» أو ما في معناه في معنی زمن الحرب.
قال طرفة بن العبد :
یَومَ تُبدي البیضَ عَن أسواقِها وتَلفُّ الخیلُ اعراجَ النَّعَم
قال عمرو بن کلثوم :
إذا وضعتُ عَن الأبطالِ یوما رأیتُ لها جلودَ القومِ جُونا
قال الأعشی الأکبر:
ونحن غداةً أوقد في خزازي رَفَدنا فوقَ رَفدِ الرّافِدینا
یقول نحن في زمن الحرب الّتي أوقدت بين قوم بني نزار و المعينيين في خزازي أعنّا بني نزارا فوق إعانة المعینین .
وکذلک الشاعر المخضرم، حسان بن ثابت یستخدم کلمة «اليوم» في معنی الحرب؛ فإنّه يهدّد المشرکين بحرب شدید يعين االله فيها المسلمين فيقول:
و إلاّ فاصبـِروا لِجِـلاد يَومٍ يُعينُ اللهُ فيه مَن يَشـاءُ
الدلالة الحقيقية و الرمزية في التعابير الدالّة علی الزمان
إنّ الشاعر الجاهلی قديستخدم کلمة الزمان أو ما بمعناه لبيان وقت وقوع الحادثة و يريد معناه الحقيقي نحو ما أتينا به آنفا و لکن کثیرا ما یستخدم کلمة الزمان و مرادفاتها في مجالات تتداعي الآلام و الفناء و المشقّة و النقصان؛ فيکون رمزا لبعض المفاهیم و المقاصد منها:
«طول المدة»، «الحرکة و النشاط»، «وصف الشجاعة» ، «بیان إستیقاظ الشاعر مبکرا»، «الشقاء»،«الربط» و «الشمول».
1- الزمـان ودلالته الرمزية علی طول المـدة
قال زهیر بن أبی سلمی:
وقفتُ بها مِن بعدِ عِشرین حِجَّة فلأ یا عرفتُ الدارَ بعدَ توهم
فإنّ زهیرا یصف طول مدة فراقه باستخدام کلمتي «عشرين حجّة» أی بعد سنوات طويلة. ویقول : وقفتُ بدار أمِّ أوفی، بعدَ إنقضاء عشرین حولاً؛ فلم أعرفها إلا بعد مشقّة لتغیّرها مدی الزمان عمّا کانت علیه و لطول العهد بها.
وقال بشر بن خازم الأسدي :
فإن تَکُ قد تأتیني الیومَ سَلمی وصَدَّت بعدَ ألفٍ عَن مَشیبي
معلوم أنّ الشاعر لايقصد من کلمة «الف» المعناها الحقيقي بل يريد أن يرمز إلی طول المدّة الّتي تسغرق أيام شبابه إلی زمن شيبه.
و قال لبيد بن ربيعة في معلّفته:
دِمَن تَجَرّمَ بَعدَ عَهدِ أنيسِها جِجَجٌ خَلَونَ حَلالُها و حَرامُها
الشاعر يريد أن يشير إلی بعد عهد أهلها بهذه الديار فيرمز بالکلمات الدالة علی الزمان يعني «الحجج: جمع حجّة» و «الحلال و الحرام : الشهر الحلال و الشهر الحرام» إلی بُعد هذا العهد.
2. الزمـان ودلالته الرمزية علی الحرکـة و النشاط
قد یصف الشاعر نشاطه ويستخدم صيغة المضارع الدالة علی تکرار الفعل و استمراره ليدلّ علی کثرة نشاطه وتحرکه.
قال الشنفری:
و لا خالفِ داريةٍ مُتغزلٍ یَرُوحُ و یَغدُو داهِناً یَتَکَحَّلُ
یصف الشنفری نفسه، یتطرق إلی بیان نشاطه؛ فيستخدم صيغتي «يروح» و «يغدو» الدالتان علی الزمان؛ ليدلّ علی استمرار نشاطه؛ فیقول: لست رجلا قلیل الخیر لا یفارق داره، یُصبح و یُمسی جالساً الی النساء یتغازل معهنّ و هو یُدهن و یکتحل کانّه منهنَّ.
وقال لبید بین ربیعة :
ما یَمنَعُ اللیلُ مِنّي ما هَمَمتُ بِهِ ولا حارٍ ، إذا ما اعتادَ في السَّفَرِ
یعنی إنّي نشيط و أستمر نشاطي إذ لا تمنعني اللّيل عن الحرکة و النشاط فيما هممت بها.
3. الزمـان و دلالته الرمزية علی الشجاعة
قد یصور الشاعر سعة شجاعته و بسالته في اللّقاء؛ فیصور منازلته مع الأعداء، فیستخدم کلمة «متی» کظرف زمان مبهم، دلالة علی الشجاعة فی حربه ومنازلته مع الأعداء.
قال عمرو بن کلثوم:
مَتی نَنقُل إلی قَومٍ رَحانا یَکوُنُوا في اللِّقاءّ لُها طَحینا
کلمة « متی» تدلّ علی مطلق الزمان فیصور الشاعر منازلته مع الأعداء و يقول: في أی زمان ننقل رحی حربنا الی الأعداء فإنّنا نبیدهم حین اللقاء ونجعلهم طحینا.
4. -الزمـان و دلالته الرمزية علی الاستیقاظ المبکر
الشاعر الجاهلي کان یستخدم کلمة الزمان للتعبیر عن نشاطه وخروجه في الصباح الباکر، من أجل الصید أو طلبا للمعاش، کما کان یفعله صعالیک العرب ، أو اللهو کما فعل امرؤالقیس.
قال إمرؤ القیس:
و قَد أغتدي، والطّیرُ في وُکَناتِها بمُنجردٍ، قَیدِ الأوابِِِ، هَیکَلِ
معلوم أنّ الطيور يستيقظون مباکرا فالشاعر يستخدم کلمة «أغتدي» الدالة علی دخوله زمن الصبح و یقول: ربّما أخرج من البیت في الصباح الباکر قبل أن تخرج الطیور من عشّها.
و قال عنترة بن الشداد :
باکَرتُها قبلَ ما بَدا الصَّباحُ لَنا في بَیتِ مُنهَمَرِ الکَفَّینِ مِفضال
فالشاعر یستخدم تعبيري « باکرت » و «قبل الصباح» حتی یعرب عن استيقاظه و نشاطه النشيط.
و قال زهير بن ابي سلمی:
بَکَرنَ بکوراً و استَحَرنَ بِسُحرَةٍ فَهُنَّ و وادي الرَّأسِ کَاليَدِ للفَمِ
فإنّ الشاعر يتوسل بالتعابير الدالّة علی الزمان ويستخدم الکلمات المشتقّة من البکرة و السحر ليرمز إلی استيقاظ الظعائن في السحر وبکرة الصباح. و قد استخدم مثل هذا التعبير في بيت آخر و يقول:
بَکَرتُ عليه غُدوَةً فَرَأَيتُه قُعوداً لدَيهِ بالصَّريم عَواذلُه
کما يستخدم عمرو بن کلثوم نفس هذه الکلمة و يکررها لأن يرمز إلی أنّ العاذلة ( زوجته) بعد ما استيقظت من النوم و رأت أنّني بالبارحة أتلفت مالي لجماعة الشاربين تبتدء تعذالها فيقول الشاعر:
بَکَرَت تَعذُلَني وَسطَ الحِلالِ سَفَها بِنتُ نُوَيرِ بنِ هِلال
بَکَرَت تَعذُلَني في أَن رَأَت إِبِلي نَهباً لِشّربٍ و فِضال
5. الزمان و دلالته الرمزية علی السأم
کل انسان، وإن طال عمره، قد یسأم من تکالیف الزمان، فکذلک الشاعر الجاهلی عندما یصف أحاسیسه العفویة والصادقة ويبین ما یعانیه ويعبر عما یختلج في نفسه، يشير إلی سأمه من تکاليف الحيآة، بکلمات بسیطة لا تکلیف فیها .
قال زهیر بن ابی سلمی :
سَئِمتُ تَکالیفَ الحَیاةِ ، ومَن يَعِش ثَمانینَ حَولاً- لا أبا لک- یَسأَمِ
فإنّ «ثمانين حولا» مؤکد علی سأم الشاعر من طول الحياة.
وقال لبید بن ربیعة :
ولَقَد سئِمتُ مِنَ الحَياةِ و طولها و سؤال هذا الناسِ کيفَ لبيدُ
يومُ إذا يأتي عليَّ و لَيلَةٌ و کِلاهُما بَعدَ المَضاءِ يَعودُ
فالشاعر يذکر رمزيّا کلمتي «اليوم و«الليلة» و عودهمها بعد المضيء لکی يعلّل سأمه من الحياة.
6. الزمان و الترميز علی بقاء الشقاء و بثّ الشکوی
قال المثقب العبدي :
أکُلُّ الدَّهرِ حِلٌّ وارتِحالٌ ؟ أما یَبقی عَلیَّ وما یَقیني
وقال زهیر بن أبي سلمی :
یا دهرُ قَد أکثَرتَ فُجعَتَنا بِسُراتِنا وقَرَعتَ فِي العَظمِ
وسَلبتَنا ما لَستَ مُعقبَه یا دَهرُ ما أنصَفتَني الحکمَ
الشاعران یشيران إلی الدهر أو يخاطبانه لکی یعربا عمّا یشعران بالآلام و يبثان شکواهما النفسي. کأنّ الدهر ذریعة و رمز لکشف القناع عن المصائب الّتي تختلج في نفس الشاعران.
7. -الزمـان و دلالته علی استمرار الواقعة
جری الشاعر الجاهلی علی طبعه وسجیته فلم یتکلف القول فی ما لم یشعر به ولا تکلف الاحاطة والشمول ولا التخریج والتعلیل فی ما أحسّه، بل إن طبعه وسجیته وبساطته ظهرت فی شعره ، فيتوسّل إلی صیغه الفعل المضارع ـــ کرمز في استمرار الواقعة زمانيآ ـــ فيستخدمها لیبین استمرار حالته أو ما یعانیه من الفراق والحزن.
فتأبّط شرّا يمدح إبن عمّه و يقول:
يَبيتُ بِمَوماةٍ و يُمسي بِغَيرها وحيدا و يعروري ظهور َالمَمالِکِ
إنّ کلمتي «يبيت» و «يمسي» ترمزان إلی أنّ الممدوح يعيش وحيدا ليلا و نهارا والصيغ المضارعة تدلّ علی استمرار سفره في الممالک.
قال إمرؤ القيس :
وقوفاً بِها صَحبي عَلَيَّ مَطِیَّهُم یَقُولُونَ لا تَهلَک أسیً و تَجَمّلِ
یصور الشاعر حالته مع اصحابه قائلا: أوقفوا أصحابي مطیّهم لاجلي و سلّوني ویقولون لي… اي دائما یقولون … فباستخدام فعل المضارع( يقولون …. لاتهلک …) يرمز إلی إستمرار قولهم ونصیحتهم.
و قال طرفة بن العبد:
وَ إِنّي لَأُمضي الهَمّ عِندَ احتِضارِهِ بِعَوجاءَ مِرقالٍ تَروحُ و تَغتَدي
فکلمات «أمضي» ، و «تروح» و «تغتدي» صيغ مضارعة تدلّ علی أنّ الشاعر مستمرا يتخلّص من الهمّ بالسفر علی ناقة تسير ليلا و نهارا و تصله إلی حبيبته.
وقال عنترة بن الشداد :
إذا کَشَفَ الزَّمانُ لَکَ قناعاَ ومَدَّ الیکَ صَرفُ الدَّهرِ باعا
فلا تَخشَی المَنِیَّةَ وألقَنیها ودافِع ما استَطَعتَ لها دَفاعا
الشاعر يستخدم صنعة الالتفات و يلتفت من فعل الماضي( کشف، صرف) إلی الافعال الدالة علی الزمن المستقبل أو الحال يعني فعل المضارع( لاتخشی) و فعل الأمر( دافع) حتي يرمز علی استمرار طلبه و هو عدم خشية المنية و الدفاع .
و زهير بن أبي سلمی؛ لأن يرمز إلی استمرار ذميمة الحرب و أن ّ نار الحرب المضطرمة تستمرّ ولاتطفأ، يتوسل إلی استخدام الأفعال المضارعة و يقول:
مَتی تَبعَثوها تَبعَثوها ذميمَةً و تَضرَ إذا ضًرَّيتُموها فَتًضرَمِ
8. الزمـان کرمز في الربط
برع الشاعر الجاهلي فی الربط بين الحوادث المختلفة و ذلک بتقنية الالتفات عن الفعل الماضي إلی الفعل المضارع ؛ فيربط بين ما حدث في الزمن الماضي و ما يقع في الزمن الحال أو المستقبل و يعتبر المقدّم تمهيدا لما بعده.
قال امرؤ القیس:
و ما ذَرَفَت عَیناکِ إلاّ لِتَضرَبي بِسَهمَيکِ في أَعشارِ قَلبٍ مُقتَّلِ
لقد أراد الشاعر بعبارة « ذرفت»، ما وقعت في الزمن الماضی، وبعبارة « تضربي»، ما يحدث في الزمن الحاضر فيربط بینهما ، فقال: ما بکیتِ الا لأن تأسرَ قلبي و تجرح قطع قليي و تملک قلبي کلّه.
وقال النابغة الذبیاني :
کَـفِعلِکَ في قَومٍ أراکَ إصطَنعتَهُم فَلَم تَرَهُم في شُکرِ ذلکَ ، أذنَبُوا
فالشاعر باستخدام « أصطنعت، أذنبوا» (الماضيين) و «أری، تری»( المضارعين) یقصد الربط بين ما وقعت في الزمن الماضي و ما يقع حاليا.
الزمان ودلالته الرمزية علی الشمول
قال لبید بن ربیعة:
من کلّ ساریة، و غاد مدجن و عشیة مُتجاوبٍ إزرامُها
إن کلمات »السارية» و «غاد» تشيران إلی السُحب التي أمطرت الدّیار لیلاً و التی أمطرت صباحاً باکراً و ما تتجاوب أصواتها بالعشاء ترمز إلی أنّ السماء تعطي بکثافتها.
وإنَّ غَداً و إنَّ اليَومَ رَهنٌ و بَعدَ غَدٍ بِما لا تَعلَمينا
فالشاعر باستخدام التعابیر المتباينة الدالة علی الزمان( غدا، الیوم، بعد غد) يرمز إلی أنّ عدم علمهم لایقتصر باليوم.
نتیجة البـحــث
1. دراسة ظاهرة الزمان في الشعر الجاهلي تعطينا أنّ الشعراء الجاهلیین قد وصفوا الزمان وصفا حسیاً، صادقاً و جمیلاً، فقد عبّروا عن أحاسیهم و عواطفهم و ما قاموا به من أعمال فرسموا أحوالهم النفسیة والاجتماعیة المختلفة.
2. الشاعر الجاهلي لم یکن مهتماً بالتساؤل عن بدایة الزمان و إنما کان مهتماً بنهایته من حیث أنها تمثل في شعوره مشکلة ذاتیة هي مشکلة الموت، و هکذا أحس الشاعر الجاهلي بطابع الإشقاء في الزمان فتحدث فی صورة الدهر و آفة الأیام.
3. الشعراء الجاهليون يذکرون الوقائع مقترنةً بکلمات کـ «اليوم» و «الليل» و«الصباح» و «العشاء» نحو: «يوم الحرب»، «يوم السفر و الرحيل»، «يوم الوصال»، «يوم الفراق»، «يوم المنادمة»، «يوم الممات»، «يوم الحساب» ویستخدممون کلمة «الیوم» لیتداعی دوام الحرب طوال الایّام.
4. قد یستخدم الشاعر الشاعر الجاهلي الصيغ الدالة علی الزمان کرمز يشير إلی طول المدة والشمول وعلی الحرکة والنشاط و استمرار الحالة أو الواقعة وربط الماضي بالمستقبل.
الكلمات المفتاحية: “الزمـان” ، “االشعر الجاهلی” ، “الحرکة” ،”الدلالة الرمزية”.
اترك رد