بقلم: د. خالد ناصر الدين
حري جدا بأدباء الحداثية الإسلامية، أن يستحضروا ما فعله القرآن الكريم بعمر بن الخطاب رضي الله عنه بعدما سمع أخته فاطمة تقرأ سورة “طه”، وما فعله بالوليد بن المغيرة الذي “فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يوثر، إن هذا إلا قول بشر…”، وما فعله بغيرهما… إنه البيان المعجز… كذلك يجب أن يكون أدب الصحوة الإسلامية، واضحا، بينا، ممتلكا كل المؤهلات الفنية التواصلية التي تخول له الدخول إلى قلوب الناس وعقولهم من غير استئذان…
د _ ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا، وقولوا انظرنا، واسمعوا وللكافرين عذاب أليم… )
يجب أن يكون لأدب الصحوة الإسلامية معجمه الخاص به، المستمد من ينابيعه الربانية الصافية: القرآن الكريم، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذا ما يجد تأصيله الشرعي من خلال الآية الكريمة، فالمقصود بالخطاب أنتم أيها المؤمنون: شعراء، وروائيون، ومسرحيون .. “لا تقولوا “… و “قولوا” … إنه نهي صريح عن التشبه بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك “أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص عليهم لعائن الله، فإن أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولوا: راعنا، ويورون بالرعونة، كما قال تعالى: ( من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون سمعنا وعصينا، واسمع غير مسمع، وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين، ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا، واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا )، وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم إذا سلموا إنما يقولون: السام عليكم، والسام هو الموت، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بوعليكم، وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا… “(1) ، ومن الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “لا تقولوا للعنب الكرم ، ولكن قولوا الجَبَلة، ولا تقولوا عبدي، ولكن قولوا فتاي”. وفيه دليل قوي على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على انتقاء الألفاظ والمصطلحات التي ينبغي أن يوظفها الإنسان المسلم العادي، فما بالك إذا كان أديبا ممثلا لأمته، مسؤولا عن التعبير عن هويتها، مُسْتَأمنا على ثوابتها ومقدساتها، وأعتقد أن هذا الأمر من الأهمية بمكان خاصة في اللحظة التاريخية الحرجة التي تعيشها الأمة وقد أجلب عليها الغرب الحاقد بخيله ورجله، مُمَارِسا عليها أشرس أشكال التدمير العسكري، ومختلف أنواع التشويه والإفساد الثقافي من استتباع وتخريب وتنميط وتلبيس(2)، ذلك أن حرب المصطلحات والمفاهيم لا تقل خطورة عن المعارك العسكرية اليومية التي صارت الأرض الإسلامية مسرحا لها في إطار النظام الدولي الجديد الذي يسعى جاهدا لأمركة كل شعوب العالم ، خاصة تلك التي أبدت رفضها لفكره الاثنيني ولوقاحة إنكاره.
ج _ ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )
يحلو لحداثيينا المتغربيين أن يطلقوا العنان لأقلامهم تكتب ما تشاء من الألفاظ والعبارات الفاحشة الساقطة، كما يحلو لهم أن يركزوا على اللقطات الفاضحة المكشوفة الإباحية وهم يتحدثون عن “المرأة”، ويحلو لهم أن يقتحموا قارة المحرمات أو “الطابوهات” كما يسمونها في أدبياتهم، بجرأة تثير أكثر من تساؤل، وتفترض أكثر من وقفة!! هكذا صار إطلاق الكلام على عواهنه، وكيفما اتفق أمرا مستحبا ومطلوبا، كما صار جسد المرأة مستباحا بشكل غريب في الأدب الحداثي، و صار تجريح المقدسات ( الأنبياء، المعتقدات، الشعائر الدينية… ) عنوان العقلانية والتجريبية التي تعتبر أهم أسس حركة “الحداثية” عموما…
التصور الإسلامي للأدب، يفترض أن يكون الأديب المبدع مسؤولا عن كل كلمة يكتبها، وينشرها بين الناس، مسؤول مسؤولية كبرى لأنه سيسأل ذات يوم عندما سيقف بين يدي علام الغيوب، الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس له به نفسه، سيسأل لأنه عز وجل “ما يلفظ من قول إلى لديه رقيب عتيد”… الحداثية الإسلامية تقتبس من القرآن الكريم جلال اللفظ، وسحر التركيب، وعظمة البناء، وإعجاز الصياغة وقدسية العبارة، التصور الإسلامي لا يقصي الرغبات الجنسية، بل يعتبرها أمرا فطريا طبيعيا، لذلك فإنه يدعو إلى تنظيم العلاقات الجنسية إكراما للرجل وللمرأة على السواء، وارتفاعا بهما من حضيض البهيمية الدوابية. كما أنه لا يمنع من التعبير عن تلك الرغبات وتلك الميولات، بل إنه يعطي أروع النماذج التعبيرية وهو يتحدث عن أدق وأعمق الخلجات والمشاعر الإنسانية، فنحن نقرأ قصة يوسف عليه السلام، وهي قصة مدارها على الرغبة الجنسية الجامحة، دون أن نجد في السورة بكاملها ما يخدش الحياء، أو يثير التقزز والاشمئزاز، أو ينبو عن الفطرة الأصيلة، أو يعارض الذوق السليم، هذه لقطات من أحرج اللحظات التي عاشها يوسف الصديق عليه السلام: ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب، وقالت هيت لك، قال معاذ الله، إنه ربي أحسن مثواي، إنه لا يفلح الظالمون، ولقد همت به، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عبادنا المخلصين، واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب، قالت ما جزاء ما أراد بأهلك سوءا، إلا أن يسجن أو عذاب أليم، قال هي راودتني عن نفسي، وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قُبُل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دُبُر فكذبت وهو من الصادقين”، “وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، قد شغفها حبا، إنا لنراها في ضلال مبين، فلما سمعت بمكرهن، أرسلت إليهن، وأعتدت لهن متكأ، وآتت كل واحدة منهن سكينا، وقالت اخرج عليهن، فلما رأينه، أكبرنه، وقطعن أيديهن، وقلن حاشا لله ما هذا بشرا، ما هذا إلا ملك كريم، قالت فذلكن الذي لمتنني فيه، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوننا من الصاغرين”، هكذا جمعت الآيات بين الجمال والجلال والقدسية والسحر والإعجاز والجاذبية والكمال في قالب واحد… أو يحق لنا بعد كل هذا أن نتهم التصور الإسلامي بأنه يعتبر التعبير عن الحاجات الطبيعية والرغبات الفطرية من المحرمات؟~! أو يحق لنا أن نبحث عن بديل نستقي منه ألفاظنا وتراكيبنا وصورنا وأفكارنا؟ المشكل يكمن في ضرورة استعادة الثقة في ثوابت الأمة، هذه الثقة هي التي ضاعت منا، أو بالأحرى أضاعوها منا… لابد من استعادتها إذا.
هـ _ “ألم ذلك الكتاب، لا ريب، فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة…”
تقرأ مئات الصفحات مما يكتبه أدباء الحداثة: روايات، قصص، دواوين شعرية، مسرحيات… لا تكاد تجد ولو إشارة عابرة لعالم “الغيب”، بكل ما يحيل عليه من: ملائكة، وجن، وحياة برزخية، وبعث، وحشر، وحساب، وعقاب، وجزاء، وجنة، ونار… خجل يعتري الأديب “المسلم” وهو يتحدث عن هذا العالم، خجل ممزوج بخوف من أن يتهم ب “الظلامية” و “الرجعية” ، أمؤمن هو بذاك العلم أم غير مؤمن؟ إن كنتَ مؤمنا فقدم عربون إيمانك، وإن كنتَ شاكا حائرا، فاقرأ ما أنزله الله لعلك تخرج من حيرتك، وتتخلص من شكك، وغيك وضلالك…
لقد أصبح الإنسان في منظور الحداثة الأدبية الداروينية دابة تولد، وتعيش، ثم تموت، وينتهي الأمر… أصبح “دهريا” في طبعة جديدة “وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر” الجاثية/24 … كافرا بكل ما غاب عن بصره “ق والقرآن المجيد، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم، فقال الكافرون هذا شيء عجيب، أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما ذلك رجع بعيد”، مستغربا، ومستبعدا هذا الأمر الغريب: أمر البعث “يقولون أئنا لمردودون في الحافرة إذا كنّا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة” النازعات/10 _ 11 _ 12، موقنا أن عظامه ستتحول إلى تراب لتنتهي الرحلة بسلام : “أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه، بلى قادرين على أن نسوي بنانه” القيامة 3 _ 4، لم يكلف هذا الإنسان نفسه عناء السؤال عن الأسئلة المحرجة: من الخالق؟ ولم خلقت؟ وماذا بعد الموت؟!! إذ لم يعد له متسع من الوقت للتفكير في ذلك وهو يعيش في “قرية صغيرة” قوامها السرعة الخارقة المذهلة في كل شيء: الطعام الفوري ” instant food”، والقهوة النسكافية “instant coffee” ، وعشاء التلفزيون “t .v dinner” والجنس العرضي “casual sex” والجنس الفوري “instant
sex”(1)…
مطلوب من أدباء الصحوة الإسلامية أن يعيدوا القسم بما أقسم به رب السماوات والأرض بأن وعد الله حق، وأن الساعة لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، مطلوب منهم أن يقسموا ب” الذاريات، والحاملات، والجاريات، والمقسمات، والطور، والكتاب المسطور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، والحاقة، وبيوم القيامة، والنفس اللوامة، والمرسلات، والعاصفات، والناشرات، والفارقات، والملقيات، والنازعات، والناشطات، والسابحات، والسابقات، والمدبرات…”، ستختلف صيغ القسم وأشكاله يقينا، ولكن الهدف واحد، أن يوقن هذا الإنسان أنه لم يخلق عبثا، وأنه مسؤول ومؤتمن… وأن يتذكر حداثييونا أن ما يشيع في الإبداع الحداثي الغربي نابع من تصورهم للحياة الدنيا، مستمد من فلسفاتهم المادية الملحدة، الضالة، الشاكة في كل شيء ( ديكارت، كانط، نيتشه، داروين… )… لهم دينهم، ولنا دين…!!
ز _ “ولا تطع الكافرين، وجاهدهم به جهادا كبيرا” الفرقان: 52
أمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يجاهد الكافرين بالقرآن الكريم جهادا كبيرا، رسالة “القرآن الكريم” إذا هي الجهاد وهي الرسالة نفسها التي يجد الأديب المسلم نفسه ملزما بتبليغها وبالالتزام بها، ومعلوم أن من المعاني اللغوية لكلمة “الجهاد” : الجد والتعب، وبذل الوسع، والطاقة والاستطاعة… وهي المعاني التي يجب أن تشكل هواجس تسكن الأديب الإسلامي وهو ينظم قصيدة، أو يكتب قصة أو رواية أو مسرحية أو خاطرة…
وإذا استحضرنا أن الآية الكريمة مكية حيث لم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بجهاد السيف بعد، أدركنا أن المقصود بالجهاد جهاد الحجة والبيان والإعجاز، وهو الجهاد الذي يتحقق بالقرآن الكريم، وهو نفسه الجهاد المطلوب تمثله وتحقيقه من طرف الأدباء الإسلاميين في زمن العولمة، حيث تعمل الأقلام الآثمة المأجورة ليل نهار لنشر ثقافة التشكيك في الثوابت والاستخفاف بالمقدسات باسم حرية التعبير تارة، وباسم الإبداع الفني تارة أخرى. وقد بلغت هذه الحملة المسعورة على رموز الإسلام ومقدساته حدا لا يتصور بحيث طالت رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، كما طالت القرآن الكريم، وهذا ما يستوجب شحذ الطاقات وبذل الجهود من أجل محاجة هؤلاء المتهجمين الحاقدين، ومن أجل تصحيح تصوراتهم عن الإسلام عقيدةً وشريعةً ومبادئاً وتاريخاً ومنهاج حياة….
ح _ “أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم، فأعرض عنهم، وعظهم، وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا” النساء: 62
الأدب الإسلامي ملزم بأن يكون وسيلة من وسائل التربية بمفهومها الرباني الشامل، تربية تربط العبد بخالقه ربطا مستمرا بحيث يستحضره في كل وقت، وفي كل أوان، ليقينه المطلق بأنه أقرب إليه من حبل الوريد. ولن تتحقق هذه الغاية الشريفة إلا إذا كان الأديب المسلم على وعي تام بأن الكلمة مسؤولية كبرى، وأمانة عظيمة جسيمة “إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا” ، كما أنها ليست مجرد أداة للتسلية وبضاعة للاستهلاك.
“القول البليغ” هي مهمة الأديب المؤمن المؤتمن على رسالة “الدعوة إلى الله عز وجل”، تذكير مستمر بالهدف من خلق الإنسان “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، وبأن وجوده في هذه الحياة الدنيا مجرد ابتلاء “هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا”، وبأنه لم يُخْلق عبثا “أحسبتم أنما خلقناكم عبثا، وأنكم إلينا لا ترجعون”، وأنه لا بد من يوم عصيب قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: “لو أن رجلا خر على وجهه من يوم ولد، إلى يوم يموت في طاعة الله عز وجل لحقره ذلك اليوم” ، إنه يوم الحساب “يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته التي تؤويه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه”… الأدب البليغ إذا هو المبلغ عن رب السماوات والأرض، المذكر بحقيقة الإنسان، وحقيقة الحياة والموت والبعث والحشر والنشور والحساب… حقائق يخجل الأديب الحداثي المبتدئ من ذكرها، بينما يعتبرها المتغرب المتشبع بالثقافة الغربية أوهاما وأباطيل وخرافات… الأدب البليغ أيضا هو الأدب الرباني الذي يُبَشر ولا يُنَفر، يُيَسر ولا يُعَسر، يهيئ الآذان والقلوب لتلقي كلمات الحق والنور، ويفتح باستمرار أبواب الهداية والتوبة، بل يذكر بأنها مفتوحة باستمرار، وبأن الله عز وجل يحب التوابين ويحب المتطهرين… إنه الأدب الذي يجعل التربية نصب عينيه “تربية مبلغة قوية هادفة هاجمة تكنس من طريق أجيال الإيمان فلسفات خانقة حانقة مدمرة، غامرة بتيارها جارفة، تعلم أن الإنسان خزان غرائز، ومعدن شهوات، وشبكة نوابض، وآلة عجيبة للذة واقتناصها، تعلم الدهرية الشهوانية أن الإنسان دابة لها ذاكرة وواعية ومحمول وراثي كما يحمل الحمار أسفارا. ويتعزى شاعر عربي مسلم في مأتم شاعر عربي مسلم بأننا نحيى ونموت جميعا، وبأن عزاءنا الوحيد أننا سرعان ما ننسى الموت لنسبح في نهر الحياة، وبأن الشاعر منا ناي، يموت الناي ويخلد لحنه، وتغني نغمته جمال الحياة.”(1)
_ خاتمة:
إن التحدي الأول الذي يُطرح عند مناقشة موضوع “الحداثة” يتعلق بالإشكال الاصطلاحي أساسا، لذلك وجب الحسم في أمر ترجمة مصطلح “modernisme” ترجمة تراعي حمولته الحضارية والثقافية، وتأخذ بعين الاعتبار مرجعيته الفلسفية والفكرية، ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أؤيد الاقتراح الذي تبناه الأستاذ عبد العالي مجذوب الذي احتفظ بصورة المصطلح اللفظية والصوتية “موديرنيزم”، أو على الأقل دعا إلى ترجمة تراعي مرجعيته المذهبية والفكرية وهذا ما تناسبه صيغة المصدر الصناعي.
ويكتسب الحديث عن “حداثية أدبية إسلامية” مشروعيته انطلاقا من حقائق متعددة:
_ إن الغرب الاستعماري لم يكتف باحتلال الأرض، واستنزاف الثروات، بل سعى جاهدا إلى طمس هوية الأمة، وإلى التشكيك في ثوابتها، وقد كان الإبداع الأدبي وما يزال أحد أهم الأسلحة المدمرة الفتاكة التي تم اعتمادها، خاصة وقد تدخل بشكل قوي لتغيير برامج ومناهج التعليم، حيث رفع من قيمة لغاته ورموزه الثقافية والفكرية والأدبية، في حين همش كل المواد الدراسية التي تمس هوية الأمة في الصميم، وعلى رأسها المواد الإسلامية واللغة العربية، ولذلك وجب أن يكون السلاح المعتمد في الدفاع، هو نفسه السلاح الذي اعتمد في الهجوم.
_ إن للإبداع الأدبي قدرة خارقة ومتميزة على مخاطبة أدق وأخص خصوصيات الإنسان، بحكم ما يميزه من نزعة تخييلية تتجاوز ما هو كائن، إلى ما يتصوره الأديب بأنه ما يجب أن يكون، وعندما يطلق الأديب العنان لخياله، فإنه يتجاوز الواقع الذي يعيشه بنقائصه وعيوبه وأخطائه، فيبني عالما خياليا يستمد مقوماته وعناصر وجوده من الخلفية الفلسفية والمرجعية الفكرية التي ينطلق منها، ولأن الأدب يخاطب القلوب قبل العقول، ويمتلك كل آليات التأثير على النفوس، فإن تأثيره يكون عميقا وقويا، خاصة عندما يستطيع الأديب وضع يده على مواطن الخلل ومواطن الداء، ويستطيع بحسه المرهف، وبذوقه المبدع رصد حاجيات مجتمعه الذي يعيش فيه. ومادام الأدب الحداثي قد عاث فسادا في ذوق الأمة وفي هويتها، وفي كل ثوابتها ومقدساتها، فإن أدب الحداثية الإسلامية ملزم بالتصدي له ولرموزه، بإعادة الاعتبار لكل مقومات الأمة عقيدة وتاريخا وحضارة وثقافة.
_ إن الهزيمة التي تعيشها الأمة على مستوى البعد الجلالي متمثلا في الصناعة والتكنولوجيا وأبحاث الفضاء وغيرها، يفرض عليها إيلاء كل اهتمامها للبعد الجمالي متمثلا في الإنتاج الفني رسما وموسيقى وإنتاجا دراميا، والإبداع الأدبي شعرا وسردا ومسرحا… ولعلها بهذا البعد تستطيع إعادة الثقة في ثوابتها، كما تستطيع التذكير بخصوصياتها المميزة لها عقيدة وتاريخا وثقافة وحضارة، خاصة وأنها أصبحت تعيش في زمن غربي معولم يسعى جاهدا لنفي الثوابت والخصوصيات، ولإلغاء الحدود والفروق، تكريسا للهيمنة الغربية التي تعتبر نفسها محورا وما عداها مجرد هامش، كما تعتبر نفسها أصلا وما عداها مجرد فروع…
إن مشروع الحداثية الأدبية الإسلامية ينطلق من هذا المعطى، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، لذلك فإنه لا يتورع عن توظيف ومراعاة ثوابت الثقافة والحضارة الإسلاميتين، متمثلة في “القرآن الكريم” و”السنة النبوية الشريفة”، انطلاقا من حقيقة مفادها أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها، ومن أننا كنا “قوما أذلة، فأعزنا الله بالإسلام، فإذا أردنا العزة في غير ما أنزله الله، أذلنا الله” كما قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
اترك رد