ملحمة 17 فبراير واستحقاقات مؤسسة الجامعة

لعلنا ندرك جميعاَ المصائب التي أصابت منظومة التعليم في ليبيا خلال حقبة حكم ما ” يسمى باللجان الشعبية المدمر للتعليم العام والعالي والمهني” ، والانتكاسات التي اعترتهاَ لفترة طويلة من الزمن: تدني مستوي التحصيل، تدنى جودته، وتقلص نسبة الإسهام التعليمي والأكاديمي في التنمية الوطنية ، وهجرة الكفاءات الوطنية إلي الخارج، و(Drop out from Schools and Universities)، وتحولها إلي قوة نائمة في منازلها . وكأي ثورة تبحث عن التغيير وتخليق التقدم، تأتي الهبة الربانية الملحمية للسابع عشر من فبراير لتؤسس لقيم مدنية جديدة في كافة مناحي الحياة في ليبيا.

وبذا تكون مؤسسة الجامعة في ليبيا في مقدمة المواقع الأمامية التي لها استحقاقات معرفية وأخلاقية وأدبية منتظره تجاه ليبيا، ومن هنا كيف يمكن لمؤسسة الجامعة في ليبيا بناء فكر نقدي مسؤل متمنهجاً في مؤسسة الجامعة الليبية، من أجل وعى مجتمعي يمكن على الأقل أن يكون مدخلاً لتأسيس مجتمع أكاديمي متميز، في ظل استحقاقات ثورة السابع عشر من فبراير لسنة 2011 ؟

ثقافية الوعي الاجتماعي هي المؤسس لأنظمة الدول الحديثة . ومن هنا تعتبر أقبية الجامعات ومعاملها ومدرجاتها ليست المكان المناسب لممارسته، إلا أن الأمر من واجب الكتاب والمفكرين والساسة والمثقفين والنخب ودور العبادة والتنشئة، وكذلك الثورات والانتفاضات الوطنية. فالوعي عموماً لا يحصل في الجامعات ولا يزرع فيها إلا عرضاً , لان أمكنة الوعي وتشكيله ووسائله: ألإعلام وإعلامية الثقافية وثقافية الأعلام، ومنظمات المجتمع المدني، والجمعيات الأهلية، والأسرة، ومنظومة الأعراف، والعائلة ومؤسسات ما قبل التعليم الجامعي , والمسجد ،وكذلك دوائر المجتمع السياسي( مجتمع السلطة) التي يتعارف عليها المجتمع.

ولا ننسى المعاناة الذاتية والرغبات الحرة للفرد ألمواطني الاجتماعي، وهو يمارس الحرية والتحرر ليشكل وعيهُ لا ليُشكل لهُ. فهذه الأطر هي التي تعلم المواطن العمل الجمعوي والتعاون والوفاء والتضحيات والمسؤولية الجمعوية, وتعلمه كيفية الاختيار وتحديده، لأنها مرتبطة بالحرية الشخصية والمواطنة، وحرية المجتمع.

فعندما تعتد مؤسسة الجامعة على حرية الاختيار والتوجه للفرد الاجتماعي والمواطني والذي صنعتهُ الثورات العربية المعاصرة، وخصوصاَ ثورة التحرير الليبية، والثورة الرقمية الكونية ووسائلها، وكذلك المجتمع برمته من خلال التقدم نيابة عنه في رسم وجهته ومساره وخياراته وتشكيل وتنميط أوضاعه ، فأن ذلك مساس بأبسط قواعد الحرية .

لأن مؤسسة الجامعة يقتصر دورها على إثراء حركة البحث العلمي والتمدرس الجامعي من خلال تنمية المعرفة وتطويرها، والعمل على بنائها على أسس قويه وفى مختلف العلوم . إنه الإسهام في بناء حركة العلم . فالمعرفة العلمية لا تنمو وتتطور وتتراكم إلا من خلال مؤسسة الجامعة، وإداراتها الأكاديمية المشهود لها ببصماتها في مجال البحث والتدريس, والمعرفة تتميز بكونها لاتتطور وتتراكم إلا بتميزها عن الايدولوجيا . وبناءاً عليه، فالوظيفة المفقودة لمؤسسة الجامعة في ليبيا عدم قدرتها على تميز الأحكام الواقعية لطبيعة المُركب المجتمعي المادي والمعنوي عن الأحكام المعيارية والقيميه له ، في ظل ما كان يسمي ” في فترة حكم اللجان الشعبية المدمر” , أو حتى تقرير وتحديد ما ينبغي أن يكون أو لا يكون .

فإذا نجحت مؤسسة الجامعة في ليبيا في بناء المعارف العلمية وأطرها المفاهيمية – والباراديم Paradوالمنطلق وبين بفهم الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي، وليس من خلال علاقة الواقع بمنظومة المجتمع القيميه ، تكون مؤسسة الجامعة الليبية الوطنية بذلك قد قدمت مشروعها التنموي والنهضوى والتقدمي لليبيا الوطن . وفى هذا المسار يمكن لها أن تعيد هندسة أوضاعها المستقبلية، لأنها سوف تُعلم المواطن كيف يُميز بين الخيار والمنطلق وبين الواقع والأحلام والأوهام.

فالثورات الوطنية والتراكم الثقافي، والهبات الملحمية للشعوب لا ُتصنع في الجامعات ولا ُتبنى في المدرجات ، لأن لمؤسسة الجامعة مهمة توفير البنيان المعرفي العلمي والكادري للسلوك الثقافي لبناء المواطنة المستعدة للمشاركة في البناءات الوطنية . فالثقافة بدون قواعد العلم سوف تنتج ثقافيات مهتزة، ومنتج ثقافي عرضي ومتقلب ويؤثر على مركب الثقافة السياسية للمواطنة كمحرك للبناءات الوطنية. مؤسسة الجامعة هي بالأساس مؤسسه علميه لممارسة فلسفة العلم النظري والتطبيقي ؛ فهي متخصصة في التكوين العلمي لأصول المعرفة العلمية وإنتاجها وليست لها علاقة بالتكوين الأخلاقي والثقافي والمعنوي، أو حتى السياسي والتربوي للمواطنة .

فالتربية بشتى وسائلها وقنواتها لها علاقة بالفرد والأسرة والعائلة والعشيرة والقبيلة، فهي جزء من عملية التكوين للحضانة والمدرسة الابتدائية و الإعدادية والثانوية وقنوات التنشئة الأخرى , ولكن الجامعة مؤسسه لخلق التراكم العلمي والمعرفي . وهذا لا يعني أن هناك تربيه منفصلة عن المعرفة والخيار الوطني المجتمعي، إلا أن الأخير ينبغي أن يكون مميزاً عن المعرفة العلمية ويبقى خياراً مرتبطاً برغبة الأفراد وتطلعاتهم الشخصية وخصائص المكون التربوي لهم.

مؤسسة الجامعة بذلك لا يمكن لها أن تخلق الوعي الاجتماعي أو الوطني المسوءل؛ وتخطط للمجتمع لأنها ليست معنية بهذه الوظيفة، والجامعة أيضاً ليست لها علاقة وفق الدور المنوط بها أن تحدد خيارات المجتمع أو الفرد- المواطن , فهذه الخيارات من مهمة المربيين واختصاصي التنشئة، ولأنها وظيفة تربوية وسياسية وليست وظيفة علميه نحو تخليق التقدم. إنها وظيفة الايدولوجيا إن كانت حاضره أو لها ضرورة . فمؤسسة الجامعة ليس من وظيفتها خلق الوعي الاجتماعي أو الوطني ، أو السياسي، أو الوعي المسؤل، وتحديد خيارات الأفراد، ولا ينبغي أن تتحول منابرها وكوادرها إلى أداء مثل هذه الوظائف !!!

ما هو سبب الأزمة والتأزم والانتكاسة والتخلف والتخبط في التعليم العالي في ليبيا ؛ خلال حقبة حكم “اللجان الشعبية للتعليم ألعالي” في ليبيا؟ السبب أن الدولة كانت تعول على التنمية بسبب تملكها مؤسسات جامعيه؛ والسبب الأخر انحراف مؤسسة الجامعة الليبية عن وظيفتها الأساسية، وتحولها إلي مؤسسة “للتسيس والاستعداد المتواصل للتصدي لقوي التغيير” .

فهذا الانحراف أدى بالضرورة إلي نتائج مدمره وكارثيه للعديد من الجامعات الليبية في حقبة ” حكم اللجان الشعبية والثورية للتعليم العالي)، والتي أثرت بالفعل على منظومة إنتاج المعرفة، وتطور العلم، وحركة البحث المعرفي عموماً. فأصبحت مؤسسة الجامعة في ليبيا مجرد منبر لتوجيه المجتمع وتحديد خياراته الفكرية والثقافية والسياسية( من خلال مكاتب الاتصال للجان الثورية واللجان الشعبية الوسائط المدمرة) ، فتحولت مؤسسة الجامعة في ليبيا إلى إعادة إنتاج ألأخر أو ترجمة ما يقدمه ألأخر، واهتمت بمركز صنع القرار السياسي وتقديم صيّغٍ للحريات والهوية !!!! وبموضوعيه حياديه هناك ثمة أسباب أخرى تجعل هذا السيناريو يحصل ويتكرر ولا يتسع المجال لذكره ؟؟

فتدخل مؤسسة الجامعة في ليبيا السابقة في خيارات الأفراد والمجتمع لا يصنع إلا النخب التي عندما تدركها الحاجة إلي ممارسة دور المرشد أو الوصي على خيارات الأفراد الشخصية، أو خيارات وتوجهات الوطن، وحراكه الحر الذي ينبغي أن لا يخضع لتأثيرات مؤسسة الجامعة المعنية بمسألة “تقريض”العلم والمعرفة. التربية والتنشئة والعلم من أجناس المعرفة، ولكن لكل له بيئته ومجاله واستحقاقاته وموقعه المجتمعي، وبالتالي لأبد من احترام حدود الحراك المجتمعي ومداه ونطاقه.

فمؤسسة الجامعة في ليبيا، ومنذ مده طويلة تخلط بين الوظيفتين العلمية والتربوية التكوينية للخيارات الفردية الشخصية والاجتماعية الأمر الذي لا يمكن الجمع بينهما في آنٍ واحد. فالجامعة معنية بالأساس بإعداد العلماء والخبير وإعداد الكوادر والتدريس في الحقول المعرفية الذين يتقنون المعرفة والمهارة والقدرة حتى يستطيعوا القيام بالواجب الذي تقتضيه الوظيفة العلمية في الدولة الوطنية.

أخيراَ، لمؤسسة الجامعة وظيفة أساسية وهى “تقريظ العلم” وصنع المعرفة العلمية والتراكم المعرفي, والوطن كفيل بمنحهم الإمكانيات لانجاز هذه الوظيفة. وخيارات الفرد- المواطنة لا يمكن للمؤسسة الجامعية أن تصنعهُ لها، وإذا مارسته ، فالاختلال المعرفي والبنيوي للمركب الاجتماعي الوطني الليبي هو أحد النتائج الكارثية المتكررة، لأنها تدخلت في صنع خياراته وتوجهاته بدون وجه حق.

الآراء

اترك رد