تضم هذه الورقة نص المداخلة “عن بعد” التي تقدم بها الدكتور عبد الرحيم العطري، ضمن فعاليات الندوة الفكرية التي نظمتها يوم 18 فبراير 2022 وحدة الدراسات الأنثروبولوجيا في رحاب المعهد العالمي للتجديد العربي بعنوان: الأنثروبولوجيا في البلدان المغاربية، المسارات والإنجازات. وقد استضافت هذه الندوة أستاذا باحثا من كل بلد مغاربي للمساهمة وتسليط الضوء على واقع الأنثروبولوجيا في بلده:
- من المغرب الدكتور عبد الرحيم العطري: أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بجامعة محمد الخامس، الرباط؛
- من موريتانيا الدكتور أحمد مولود إيده الهلال: أستاذ بجامعة نواكشوط العصرية؛
- من الجزائر الدكتور جلالي المستاري: أستاذ بالمركز الوطني للبحث في الأنثروبولوجيا؛
- من تونس الدكتور محمد بوعزيزي: أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية؛
- من ليبيا الدكتور عمر مصطفى: باحث أكاديمي.
تقديم:
تهدف هذه الندوة لمساءلة واقع الأنثروبولوجيا بالبلدان المغاربية في مساراتها وإنجازاتها، والتي لا تزال تعرف حضورا متواضعا بهذه البلدان، في مقابل اهتمام واسع بالعلوم الأخرى لاسيما السوسيولوجيا، لذلك جاءت هذه الندوة لتوضيح معالم رؤية مستقبلية للنهوض بالأنثروبولوجيا المغاربية التي ترتبط بسياق معرفة كولونيالية، لا تزال تطرح بشأنها أسئلة الرفض والقبول، التجاوز والتأسيس، وذلك في سبيل صياغة أنثروبولوجية عربية بلغة عبد الله حمودي.
جاءت مداخلة الدكتور عبد الرحيم العطري تحت عنوان: ” الأنثروبولوجيا بالمغرب.. شواغل ومسارات”. اِقترح من خلالها تمرينا فكريا يعتقد بأن المنشغلين بهذا الموضوع مدعوون للقيام به، خصوصا وأن الأمر يتعلق بحقل ربما مهمل في خريطتنا المعرفية. ربما هناك انشغال كبير اليوم بالسوسيولوجيا والدفاع الكبير عن السوسيولوجيا، ولكن تبقى الأنثروبولوجيا على الرغم من أهميتها كعلم في درجة ثانية؛ بالرغم من ارتفاع الطلب العلمي اليوم على الأنثروبولوجيا.
ولمناقشة هذا الموضوع اقترح الدكتور عبد الرحيم العطري ثلاث عتبات أساسية:
- العتبة الأولى: عن الحاجة إلى الدرس الأنثروبولوجي، أي نعم نحن اليوم في حاجة قصوى إلى الدرس الأنثروبولوجي، جائحة كورونا وما تلاها كلها تؤكد ضرورة العودة إلى الأنثروبولوجيا.
- العتبة الثانية أسماها الحاجة إلى تحرير الدرس الأنثروبولوجي، ذلك أن الدرس الأنثروبولوجي خصوصا في المنطقة المغاربية يجر وراءه الكثير من الأشياء التي ينبغي القطع معها.
- العتبة الثالثة تناول من خلالها هذا المتن الأنثروبولوجي الذي أنجز مغربيا، متسائلا عن مساراته وشواغله؟ وفي الأخير ختم ببعض الخلاصات والملاحظات.
العتبة الأولى: الحاجة إلى الدرس الأنثروبولوجي
تساءل خلالها الباحث عم نفيده من الأنثروبولوجيا؟ وما الذي سنربحه من الأنثروبولوجيا؟ إذا كانت الدعوة اليوم إلى إعادة الاعتبار للدرس الأنثروبولوجي، وإلى إيلائه نفس الأهمية من الناحية المؤسسية والرسمية التي تولى للدرس السوسيولوجي، يقول ماذا سنربح؟
ولتفكيك هذه الأسئلة استلهم درسين تعلمنا إياهما الهرمينوطيقا Herméneutique:
الدرس الأول وهو فن الإصغاء والدرس الثاني هو فن الفهم أو التأويل. ويعتقد بأن الأنثروبولوجيا تسير في هذا المسار. ذلك أنها تعلمنا كيف نصيخ السمع بهذا المعنى للمجتمع ولنبض المجتمع في دقائقه وتفاصيله. بمعنى أنها تعلمنا درس فن الإصغاء. وتعلمنا القدرة على التأويل والقدرة على فهم الوقائع الاجتماعية، ولكن وفق تلك المقاربة التي تقول: “الأطعمة الجيدة تنضح على نار هادئة”. لربما هذه ميزة الأنثروبولوجيا، أنها تعطينا طعاما، ولكنه طعام نَضِجَ على نار هادئة بهذا المعنى.
بطبيعة الحال رائد الأنثروبولوجيا العالمي كليفورد غيرتز عندما يؤكد بأن المهمة الرئيسية للأنثروبولوجي هي ترجمة الثقافة[1]، أي ترجمة النصوص التي تعتمل في المجتمعات. بمعنى أن نقوم بنقلها من لغة المشاركين في البحث المساهمين فيه إلى لغة نسميها علمية بهذا الشكل. ولكن دائما ربما يطرح سؤال كبير: لماذا كان هناك انشغال أكبر بهذه المجتمعات التي سميت خطأ واعتسافا مجتمعات بدائية أو ثالثية أو شيء من هذا القبيل؟
هناك قولة تتردد في المغرب يطلقها الأنثروبولوجيون أساسا وهو أن المغرب والمغارب عموما هي “جنة الأنثروبولوجيين”، لأن فيها الكثير من الأشياء والمواد والقضايا الخام التي ينبغي أن ننفتح عليها، ذلك أنه لحد الآن لم نستطع أن نقوم بالتغطية المجالية العلمية لكافة القضايا التي يثيرها السؤال الأنثروبولوجي. الطعام مثلا، ذلك أن الانشغال بالطعام في حقل الأنثروبولوجيا قليل جدا، مؤكدا على هذا الواقع بقوله: ” أنا شخصيا في اشتغالي على الطعام الذي أسميته ﺑـ “قرابة الملح”[2] كما قرابة الحليب هناك قرابة الملح، وجدت بأن هناك انشغال قليل أو أن القلم المحلي لم ينشغل بدرجة كبيرة بالطعام والإطعام. نفس الأمر يتعلق بالحج، يعني عندما نبحث في الكتابات التي انشغلت بالحج فهي قليلة جدا.” وأردف بالسؤال الذي ينطرح اليوم: هل لدينا اليوم موسوعة أنثروبولوجية؟ سؤال اليوم أيضا وهذا ربما سيجيب عنه الأستاذ ساري حنفي[3] تماما كما هناك الجمعية العربية لعلم الاجتماع، لماذا لا نفكر في الجمعية العربية للأنثروبولوجيا أيضا؟ ويتعاونان معا في دفاع عن العلم.
إذن كل هذه الأمور تؤكد اليوم بأن هناك حاجة قصوى إلى الدرس الأنثروبولوجي. ليس هذا يعني بأنني أدعو إلى خطاب النهاية، أي نهاية السوسيولوجيا اليوم، وأننا نقترح بديلا جديدا وهو “مديح الأنثروبولوجيا” Eloge de l’anthropologie لا أبدا، يمكن أن يشتركا معا في إطار البحث عن المعنى، وفي إطار الدفاع عن هذه الرؤية الوجودية التي نحتاجها اليوم، ولكن هذه الأنثروبولوجيا التي نسعى إليها اليوم لا بد من تحريرها.
العتبة الثانية: الحاجة إلى تحرير الدرس الأنثروبولوجي
التحرير الأول يهم سؤال الأنثروبولوجي، لأنه للأسف الشديد ترسخ لدينا ذهنيا بأن الأنثروبولوجيا لا يمكن أن يمارسها إلا الغريب إلا الآخر. وهنا سؤال آخر سؤال الخارجانية، هل يفترض فيمن يمارس الأنثروبولوجيا أن يكون من الداخل؟ أعتقد أن هذا نقاش أصبح متجاوزا اليوم، وأصبح يمكن للداخلي أو الجواني أن يمارس هذه الأنثروبولوجيا، شريطة تدبير سؤال المسافة التي تحدث عنها عبد الله حمودي. تدبير هذه المسافة التي أسميتها ﺑ “الباحث مبحوثا”. كيف نكون باحثين ومبحوثين في نفس الآن؟ وتدبير المسافة يتأسس على إدراك المسافة أولا، وعلى بناء هذه المسافة. ولربما هناك بيت شعري جميل لمحمود درويش يختزل هذه المسافة. دائما أخبر طلبتي بأن يستدمجوا هذا البيت وهم ينزلون إلى الميدان أو يصعدون إلى الميدان، فدائما تثيرنا عبارة الميدان هذه: هل نصعد للميدان أم ننزل إليه؟ محمود درويش ماذا يقول: “لا تقترب حد الاحتراق، ولا تبتعد حد الافتراق، كن بين بين، لا قريبا من أحد ولا بعيدا من أحد” أعتقد بأن التمثل الجيد لهذا البيت ربما يجيب على أسئلة الباحث مبحوثا في نفس الآن. إذن التحرير الأول هو تحرير سؤال الأنثروبولوجي من سلطة الغريب. أنه لا يمكن أن تكون الأنثروبولوجيا دائما من توقيع الغريب أو الآخر. بل يمكن أن تكون من توقيع المحلي ولكن بتمثل جيد لسؤال المسافة.
السؤال الثاني أو الدرس الثاني الذي ينبغي أن نعمل على تحريره وهو الأنثروبولوجيا الغرائبية أو العجائبية Exotique. لأنه للأسف الشديد ارتبطت الأنثروبولوجيا في مسارها منذ البداية دائما بهذه الغرائبية، وحتى التوصيف الأولي الذي كنا نسمي بالمجتمعات البدائية، وأن ندرسها من فوق من خلال نظرة ذلك الزائر الذي يمتلك القوة والقدرة عل تفسير كل شيء، أعتقد بأنه ينبغي أن نتجاوزه، حتى في اهتمامات الأنثروبولوجيا نلاحظ هذا الانتصار للغرائبي، تهتم بما هو غرائبي وعجائبي، وما يحيل على مواضيع أخرى نعتبر بأنها لا تدخل في صلب اهتمامات الأنثروبولوجيا. إذن لا بد من هذا التحرير الثاني.
التحرير الثالث وهو تحرير المجال. هل يفترض في الأنثروبولوجيا دائما أن تكون قروية؟ لأنه من ملاحظة لمجموعة من الأعمال التي اشتغلت على الأنثروبولوجيا، سنلاحظ حضور القروي بدرجة كبيرة، وحضور ما يرتبط بالتقليد بدرجة كبيرة. اليوم هناك فروع جديدة للأنثروبولوجيا؛ هناك الأنثروبولوجيا البصرية Anthropologie visuelle، هناك الأنثروبولوجيا الحضرية، أنثروبولوجيا الفنون، بمعنى أنه لا بد من تحرير الأنثروبولوجيا من مجالاتها ربما المحددة والضيقة. وهذا يأخذني إلى سؤال آخر، وهو سؤال العلاقة مع العلوم الأخرى. لأنه للأسف الشديد اليوم وأنا ألاحظ مع طلبتي في الدكتوراه، أنه عندما يأتيك بالأطروحة في الختام دائما يضع عنوانا فرعيا وهو مقاربة أنثروبولوجية أو مقاربة سوسيوأنثروبولوجية. يعني ارتفاع الطلب على هذا العنوان، كأن إضافة كلمة أنثروبولوجية ستعطي القوة لأطروحته. إذن علينا أن ننتبه بأن الأنثروبولوجيا لا تقدم نفسها كعلم فوق العادة أو كمعرفة لديها عقدة التفوق تجاه العلوم الأخرى. أبدا، الأنثروبولوجيا كباقي العلوم تحاول أن تفهم الواقع الإنساني والوقائع الاجتماعية. ليست هي في درجة أعلى وليست في درجة أقل. إذن لا بد أن نحرر الأنثروبولوجيا من وهم عقدة التفوق.
العتبة الثالثة: المتن الأنثروبولوجي مغربيا.. المسارات والشواغل
اِعترف الدكتور العطري أن البدء كان بدءا كولونياليا، بمعنى حينما نحاول أن نموضع ما أنتج خلال الزمن الكولونيالي بالمغرب، سوف نقول من الصعب أن كله ينتمي إلى الأنثروبولوجيا، فهو دائما يردد بأننا أمام معرفة كولونيالية، أي هناك أبحاث في التاريخ، في الجغرافيا، في علم النفس في الاقتصاد، ولكن فيها نَفَسٌ سوسيوأنثروبولوجي، ولكن يبقى العمل المؤسس الذي يمكن أن نعتبره كان عملا أنثروبولوجيا بامتياز وإلى حد الآن لم يترجم وهو كتاب the ritual and belief[4] وهذا كتاب لباحث فلنلدي نشر سنة 1926 وهو الباحث إدوارد فيسترمارك، هذا الفنلندي الذي حل بالمغرب وأنجز عملا ضخما مهما عن تاريخ الزواج والمعتقد والسحر ومجموعة من الأمور، أيضا يمكن أن نتحدث عن باحث أخر هو إدموند دوتي الذي اشتغل أيضا في الجزائر وفي المغرب وفي تونس وتحدث عن السحر في شمال إفريقيا(Magie et Religion en Afrique du Nord[5]). هؤلاء يمكن أن نقول إنهم مؤسسو الدرس السوسيوأنثروبولوجي بالمغرب، يمكن أن نتحدث عن روبير مونطاني، عن رابنوا، يمكن أن نتحدث عن الباحثين الكثيرين الذين ينتمون إلى هذه المرحلة، ولكن ماذا سنلاحظ أن أقوى الانشغالات كانت حول الدين والتدين، حول الاحتفالات والرمزيات، حول القبيلة والديناميات السياسية في علاقتها بالزوايا والمخزن، وكانت لها أيضا علاقة بالجسد وبالطعام وبالعادات والتقاليد، بمعني أننا كنا أمام أنثروبولوجيا سياسية، اجتماعية وثقافية في نفس الآن.
ولكن عندما نتأمل ما أنتج في المعرفة الكولونيالية تحديدا، سنلاحظ أن هناك تداخل كبير بين الإثنولوجيا والسوسيولوجيا والتاريخ والاثنوغرافيا والجغرافيا، بمعنى أن الحدود لم تكن قائمة بصرامة بين هذه التخصصات، كان لدينا ذلك الخبير والمخبر أيضا وكان الضابط، لأن أغلب الذين مارسوا هذه المعرفة وأنتجوا هذه الأخيرة كانوا يعملون لدى الإدارة الاستعمارية، بحيث يكون إما ضابطا للشؤون الأهلية لأننا كنا نعتبر بالنسبة إليهم أهالي وليسوا أبناء بلد جاءوا من أجل تحريرنا وما إلى ذلك من مبررات ذرائعية للاستعمار.
المتن الذي أنجز خلال تلك الفترة كان غزيرا وقويا. وإلى حد الآن لم نقم بترجمته، وحتى عندما جاء الجيل الأول من بعد الاستقلال فقد دخل مع نوع من الاشتباك المنهجي والفكراني مع هذه المعرفة الكولونيالية، دائما يتكرر ذلك السؤال الذي تردد في أغلب الكتابات التي قامت بنقد المعرفة الكولونيالية، هل يمكن أن نستعيدها ونستعملها ونعود إليها، أم علينا أن نعتبر أنها معرفة كولونيالية أنجزت لغايات استعمارية؟ نجيب بودربالة هذا من كبار الباحثين الذين اشتغلوا على أنثروبولوجيا القانون[6] (anthropologie du droit) وهذه قوة الجيل الذي جاء بعدا، قال بأن هذه المسألة أشبه بالبيضة والدجاجة من أسبق البيضة أم الدجاجة، لا يمكن أن ندخل في هذا السبق الميتافيزيقي.
هذه معرفة كولونيالية يمكن أن نستفيد منها ويمكن أن ننتج أسئلتنا الخاصة ونحرر أسئلتنا الخاصة، جيل الرواد الذي جاء بعدا، أعاد إنتاج ثلاثية الزاوية والقبيلة والمخزن كأسئلة مركزية انشغلت بها الأنثروبولوجيا في البداية، وفي نفس الآن انشغل بتصفية الدَين تجاه هذه المعرفة التي تنتمي إلى المستعمر، من طبيعة الحال مع محمد جسوس وفاطمة المرنيسي مع الخطيبي الذي اشتغل على الوشم[7]، أيضا مع عبد الله حمودي[8]الذي يمكن أن نعتبره مؤسس الأنثروبولوجيا السياسية والأنثروبولوجيا الدينية، مع بول باسكون، إذا جاز أن نتحدث عن أنثروبولوجيا اقتصادية. كثيرا من الناس حينما يتحدثون عن بول باسكون يتحدثون حول حوز مراكش، وهذه منطقة كبيرة تعرف بأسياد الأطلس أو القياد الكبار، ولكن قلما ينتبهون إلى كتاب أساسي ومرجعيا مهما بالنسبة إليه وهي: la mission de Iligh[9] دار إليغ وهي زاوية كبيرة جدا، وهي زاوية سيدي أحمد أموسى التي كانت تنافس المخزن في السلطة، فهذا الكتاب يمكن أن نقول إنه مؤسس للأنثروبولوجيا الاقتصادية. أيضا مع إدريس بن سعيد والمختار الهراس وأحمد شراك ومع كثيرين يمكن أن نتحدث عن نوع من التحرر من السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا الاستعمارية، وأن هذا الجيل حاول أن ينحت مسارات جديدة، وينحت أسئلة جديدة. وهنا أخص بالذكر محمد الطوزي، حسن رشيق[10]، الذي أشد بيده بحرارة لأنه كان مجددا للدرس الأنثروبولوجي، وأيضا مع زكية زوانات[11] القليل من يعرفها كانت أنثروبولوجيا متميزة، رحلت إلى دار البقاء، اشتغلت على الصلحاء وبركة الأولياء، أيضا محمد بردوزي، هذا القليلون من يعرفونه، اشتغل أساسا على الأنثروبولوجيا السياسية، محمد الناجي[12]الذي اشتغل على الأنثروبولوجيا التاريخية. الذي حدث أننا أمام جيل مؤسس، وجاءت بعد ذلك الأجيال اللاحقة التي يمكن أن نسجل بصددها بعض الملاحظات كالآتي:
الملاحظة الأولى: علينا أن نعترف، ربما هذا مشكل لدينا في العالم العربي من الماء إلى الماء، بمحدودية الآثر، محدودية الكتابة، أي معناه أن الجيل في بعض الأحيان، ينتج بيضة الديك وهي الأطروحة خارج الأطروحة فهو لا ينتج شيئا، الذي حدث هو أن هناك أعمال مؤسسة ولكنها لم تنتشر، لم تترجم في المتن الكولونيالي وأيضا حتى في المتن المحلي.
الملاحظة الثانية: هي أنها إعادة إنتاج نفس أسئلة الجيل الأول وأسئلة المعرفة الكولونيالية، القارات الكبرى التي لدينا وهي: قارة الدين والتدين، قارة الاحتفالات والرمزيات، قارة القبيلة والديناميات السياسية في علاقة بالمخزن، وقارة الجسد والطعام والشاي أيضا، هنا أريد أن أنبه إلى أن هناك باحثين مهمين منهم من ينتمي إلى التاريخ، ولكن ساهموا في بناء هذه الأنثروبولوجيا حول الشاي تحديدا وأذكر هنا عبد الأحد السبتي[13].
الملاحظة الثالثة: أيضا الملاحظ محدودية الآثر، بمعنى إلى حد الآن في المغرب مشكلنا الحقيقي أننا لم نستطع أن نبني مسلكا لعلم الاجتماع في مستويات الإجازة، وإلى حد الآن لم نستطع أن نعلن عن ماستر في الأنثروبولوجيا تخصصا، ولم نستطع أن نؤسس معهدا خاصا بالأنثروبولوجيا، كل اهتمامنا نصرفه إلى السوسيولوجيا وكأن الأنثروبولوجيا تبقى على الهامش، رغم ما قلت في البداية، اليوم هناك ارتفاع للطلب العلمي والاجتماعي والسياسي على الأنثروبولوجيا والكل يريد أن يعتمر قبعة الأنثروبولوجي.
وقد اختتم الدكتور عبد الرحيم العطري مداخلتله بملاحظات تخص المجال المغربي والمغاربي والعربي على الشكل التالي:
الملاحظة الأولى ضعف التشبيك: أي إلى حد الآن ليست لدينا شبكات معرفية، أي معناه لا بد من تشبيك علمي من أجل أن نتطور ومن أجل أن ندافع عن حضور الأنثروبولوجيا كما ندافع عن حضور السوسيولوجيا، ولهذا دعوتي إلى تأسيس الجمعية العربية للأنثروبولوجيا.
الملاحظة الثانية ضعف الإلتقائية: لدينا جهود متفرقة، كل واحد يشتغل على موضوع معين، ولكن تجد هذه الجهود متفرقة. فعندما اشتغلت على كتاب الحج وحاولت أن أطرح ماهي الأقلام التي كتبت على الحج؟ وجدت في القلم السوسيوأنثروبولوجي كتابا واحدا يتيما لعبد الله حمودي، هناك كتاب أخر تحول إلى فيلم وثائقي، وهناك هذا الكتاب الذي أقدمه. يعني هذا ما كتب حول الحج من داخل القلم السوسيوأنثروبوجي، ولكن من داخل القلم الديني، والمؤرخ، سوف نجد أعمالا كثيرة جدا.
ضعف الإلتقائية على مستوى المشاريع والمواضيع، وضعف الحوار، وهذا ما نحتاجه بدرجة كبيرة، اليوم مشكلتنا هي مشكلتنا مع الحوار أو أن مشكلتنا في المجال العلمي أنه تحول إلى أرضية صامتة، يمكن أن تنتج كتابا ولا أحد يحدثك، فقط ندمن الاعتراف الجنائزي، عندما يرحل الإنسان إلى دار البقاء كلنا نصير جسوسيون، ومرنيسيون، ولكن في الواقع لا أحد يستمع إلى الآخر.
أمام هذا الواقع الذي تعيشه الأنثروبولوجيا مغربيا ومغاربيا، يقترح الباحث عبد الرحيم العطري مشروعا فكريا يسميه ب “النقد المنفتح” (La critique ouverte) من أجل بلورة أو صياغة جديدة للأنثروبولوجيا العربية، وهو مشروع بلوره في كتابه “أنثروبولوجيا الحج الإسلامي من التجربة الدينية إلى النقد المنفتح”[14]، بحيث يتأسس هذا النقد المنفتح على ثلاث عتبات:
النقد التأسيسي: ويعني به ضرورة إعمال نقدي للأفعال المجتمعية، من خلال العودة بها إلى أسنادها التأسيسية، وذلك من أجل تفكيك البنيات المؤسسة للخطاب والممارسة. كما يتطلب هذا النقد بحسب الباحث إعادة ترتيب للعناصر والأجزاء المشكلة للحقيقة، بما هو خلخلة لليقينيات التي تم استدخالها واعتناقها دون أن تخضع للعقل الشارح والمفكك والناقد.
الفهم التأويلي: يقصد به الباحث الانتصار لقراءة حركية عرضانية، تعتمد التفريغ والتفييء والتحقق، وتقطع في المقابل مع القراءة السكونية الخطية العمودية، أي أن الفهم التأويلي يفترض “حركة ذهاب وإياب من الجزء إلى الكل، ومن الفائت إلى الراهن، ومن النص إلى الواقع، ومن اللامعنى إلى المعنى، وأخيرا من الفهم إلى التأويل.
النحت المعرفي: أي، إذا كانت من مهمة للأنثروبولوجي والسوسيولوجي تحديدا، فالمطلوب منه أن يكون بتعبير الباحث “نحاتا معرفيا“، يبدع ويصقل وينحت مواضيعه ومفاهيمه ومناهجه، على درب بناء وتحديد ملامح مشروعه الفكري الذي يترافع بشأنه في مجالات الرأسمال الرمزي.
ويؤكد عبد الرحيم العطري غير ما مرة أنه لا يمكن أن نصل إلى هذه الأمور إلا إذا ما قطعنا مع ما يسميه: بالتلبس الإيديولوجي، أي لا يمكن أن نمارس الأنثروبولوجيا ونحن نعتمر قبعات إيديولوجية. أيضا من أجل ذلك، ينبغي أن ننتهي من ديكتاتوريات اليقين، وأن ننتصر لتنسيب الحقيقة، وأن ننتهي من وهم التفوق، ذلك أن الأنثروبولوجيا ليست علما فوق العادة، هي علم مساعد يمكن أن يفيدنا في قراءة الواقع، ونحتاجه بشكل كبير جدا. تأسيسا على ذلك، وفي الختام انتهى الباحث العطري إلى استعادة عبارة جميلة دوما يرددها وهي للأنثروبولوجي الفرنسي موريس غودوليه صاحب كتاب “الرجال العظام” كان دائما يقول: “على الأنثروبولوجي أن يبلل قميصه من فرط التعب بحثا عن المعنى” لأن الأمر يتعلق بصناعة المعرفة الثقيلة.
[1] كليفورد غيرتز، تأويل الثقافات مقالات مختارة، ترجمة: محمد بدوي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى 2009.
[2] عبد الرحيم العطري، قرابة الملح الهندسة الاجتماعية للطعام، شركة المدارس للنشر والتوزيع- الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2016.
[3] رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، وأستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية.
[4] Edward Westermarck, The Ritual and Belief in Morocco, university books, New York, 1929.
[5] Edmond Doutté, Magie et Religion en Afrique du Nord, Maisonneuve. P- Gunther. S.A Paris 1984. (Publié première fois en 1909)
[6] نجيب بودربالة، القانون بين القبيلة والأمة والدولة: جدلية التشريع: العرف، الشريعة والقانون، ترجمة محمد زرنين، أفريقيا الشرق. 2015.
[7] عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ترجمة: محمد بنيس، منشورات عكاظ 2011.
[8] عبد الله حمودي، الضحية وأقنعتها بحث في الذبيحة والمستخرة بالمغارب، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2010.
عبد الله حموي، المسافة والتحليل في صياغة أنثروبولوجيا عربية، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2019.
[9] Pascon Paul, La maison d’Iligh et l’histoire sociale du Tazerwalt, 1984.
[10] حسن رشيق، سيدي شمهروش الطقوسي والسياسي بالأطلس الكبير، ترجمة: عبد المجيد حجفة ومصطفى النحال، أفريقيا الشرق،2010.
[11] زكية زوانات، ابن مشيش شيخ الشاذلي، ترجمة أحمد التوفيق، مطبعة النجاح الجديد.2006.
Zakia Zouanat, le Royaume des saints, 2008.
[12] محمد الناجي، العبد والرعية العبودية والسلطة والدين في العالم العربي، ترجمة مصطفى النحال، المكتبة الوطنية.2009.
[13] عبد الأحد السبتي وعبد الرحمان لخصاصي، من الشاي إلى الأتاي العادة والتاريخ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة بحوث ودراسات رقم 25، الطبعة الأولى 1999.
[14] عبد الرحيم العطري، أنثروبولوجيا الحج الإسلامي من التجربة الدينية إلى النقد المنفتح، منشورات باب الحكمة، تطوان، الطبعة الأولى. 2021.
اترك رد