نحو مأسسة استقلال ونزاهة القضاء في ليبيا

تعزيزا لمنظومة الحقوق والحريات المرتقب شرعنتها في الدولة الليبية الجديدة، ينبغي علينا إن لا نلتف إلي الماضي، وإعطائه ما لا يستحقه من وقت وطاقة وجهد، فالمستقبل لا يُصنع إلا من خلال الرؤية إليه، والتشابك معهُ، وأن عمليات الاستثمار في المستقبل تحتاج منا أكثر من الزمن المقدر لنا، والمجتمعات لا تستطيع الانتظار حتى ينهض أصحاب القرار ويتذكروها !

وفي هذه اللحظات التاريخية نحتاج إلي الطريق السليم لتبصر احتياجات أجيالنا التي تنتظر الكثير لإعادة الحياة إلي طبيعتها: الطالب في جامعته، والتلميذ في مدرسته، والصانع في مصنعه، والفلاح في مزرعته، والقاضي في محكمته….مجتمع مستقر قد أعد منظومة حياته وتحديد حقوقه وواجباته من خلال ممارسته لحريته.

وهذه المطالعة تحاول أن تتدخل في شأن غير شأن كاتبها، وهو الحديث عن منظومتنا القضائية في ليبيا، وكيفية إعادة مأسستها خدمة لمشروع الثورة والتغيير، وتأسيس رؤية نحو استقلال ونزاهة القضاء في ليبيا، وذلك من خلال تناولنا للتحديات الستة التالية :

• الفصل بين السلطات: وهي من أصعب المهام التي تواجه قطاع القضاء في العالم الثالث عامة، والعربي خاصة، وفي ليبيا تحديدا. فدور القضاء أثناء تأديته لمهامه تقع علية عمليات فصل السلطات في الدولة الديمقراطية، ومن واجبه التصدي لها. لان قطاع القضاء من واجباته أيضا ممارسة الدور الرقابي أثناء عمليات التشريع والتنفيذ، وهو الحارس الأمين عليها.فاستقلال الأجهزة التنفيذية والقضائية والتشريعية عن بعضها تحدي أخر يواجه القضاء في النظام الليبي الجديد لارتباطه بالتحول الديمقراطي والمحافظة عليه. فتوحش وتوغل السلطة التنفيذية واعتداءتها علي الديمقراطية لا أحد يردعها عن سلوكها إلا قطاع القضاء من إختصاصاته المختلفة.

• إرساء دعائم دولة القانون: عندما يتعطل القانون بفعل قوي فاشية، أو بفعل الاعمال الغوغائية، أو بفعل الهامشيين،أو الانقلابيين، أو العودة إلي تفعيل منظومة العرف، في محاولة للالتفاف علي عمليات التحول الديمقراطي، أو بحكم عجز المشرعين أن يعملوا علي شرعنة الحقوق والواجبات للمواطنة والدولة، هنا تغيب دولة القانون في ظل حضور قطاع القضاء. أن إرساء دولة القانون لا يتم إلا من خلال وجود وتطبيق القانون، في ظل وجود مؤسسة قانونية لها أعرافها وموقعها المؤثر. ولدولة القانون قواعد وأسس ينبغي أن يبحث عنها المتخصصين في مجالها. فدولة القانون وصنع القانون، وتطبيق القانون، ومراقبة تطبيق القانون، هي تربية ثقافية ووطنية قبل أن تكون وظيفة، ولكن نحن في مرحلة أنتقالية يتوجب فيها إعادة التأسيس لمنظومتنا القضائية. إرساء دولة القانون تعني البحث عن دعائم دولة القانون المفقودة، في الماضي، ينبغي البحث عنها وتناولها عبر شرائح مؤسسات المجتمع المدني والسياسي(مجتمع السلطة) والمجتمع المهني.

• استقلال السلطة القضائية: القضاء المستقل هو قلب النظام الديمقراطي ونبضه، وهو الذي يرعى منظومة الحقوق والحريات والواجبات لكل من المواطنة والدولة، والقضاء سلطة من سلطات الدولة فلا ينبغي إن يكون أداة من ادواتها تستعمله ضد المواطنة وبدون حدود وضوابط. نعم الدولة اما المؤسسات، ولكنها مؤسسة تدار بأفراد. وقرارات السلطة السياسية ينبغي إن تكون علي مسافات متساوية بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. واستقلال منظومة القضاء تعبير علي نضوج ثقافية الديمقراطية وشفافية ممارستها في المجتمع. فالقضاء المستقل لا يعني انه سلطة في مواجهة السلطات الاخري، ولكن في استقلاليته هو استقلال للسلطات الاخري. استقلال السلطة القضائية يعني ايضا فيما يعني المقدرة علي تفسير القانون ، واعطاء الإبعاد لقانونية أداء الدولة في كل المجالات . فاءذا نجحت السلطة القضائية في وضع التفسيرات والتكييفات القانونية والقضائية لسلوك الدولة هذا يتطلب منها أيضا منح ذلك للمواطنة وحقوقها وواجباتها. ان عدم تدخل الاجهزة الامنية وجماعات الضغط والمصالح والاحزاب ومسؤلي السلطة التنفيذية في شؤون القضاء يمنح الفرصه لكي يكون القضاء مستقلاَ.

• مأسسة المحاكم والنيابة والسجون: وهذا تحدي أخر ينتظر قطاع القضاء والمحاكم والنيابة وهو كيفية إعادة التاسيس لهذا القطاع كاستحقاق من استحقاقات الهبة الربانية للسابع من فبراير لسنة 2011. غياب المحاكم التخصصية مطلب حضاري وتخصصي ينبغي عدم تجاوزه، فالدول، ووفقا للنظرية الوظيفية، تلجأ إلي التخصص في كيفية قضاء شؤون المواطنة. السجون ينبغي أن تتحول إلي مواقع منتجة ورافد من روافد الاقتصاد الوطني، وليس مستودعات لحشر البشر لآجال طويلة وقصيرة. والنيابات التخصصية وإلغاء كافة المحاكم الاستثنائية مطالب ينبغي تداولها من خلال وسائط المجتمع المدني. أنها الدعوة إلي إعادة التأسيس، وخلق مؤسسات قضائية وعدلية يرجع إليها العالم الأخر، مؤسسات تحافظ وتسهر علي حقوق وحريات المواطنة في ليبيا مكاسب ينبغي تحقيقها.

• مستقبل إدارة التفتيش القضائي: إلغاء تبعية إدارة التفتيش القضائي من تبعيتها للعدل إلي المجلس الأعلي للهيئات القضائية. وهذا تحدي أخر يواجه قطاع القضاء، نظرا لطبيعة وحساسية هذه الإدارة التي أثبتت التجارب فشلها في العديد من القضايا، فكيف نطالب باستقلال القضاء، وإدارة التفتيش القضائي تتبع وزارة العدل !! لان استقلال القضاء يعني إن إدارته ينبغي إن تكون مستقلة عن أداء السلطة التنفيذية، ويمكن لقطاع العدل إن يصنع جهازاَ مختلفا عن إدارة التفتيش القضائي من حيث اختصاصات والوسائل. فالتفتيش القضائي هو قلب العملية القضائية، وهو المكان الذي من خلاله تتأكد حقيقة العدالة، ومسار دولة القانون واستقلال القضاء فيها !

• البحث عن العقوبات البديلة في قانون العقوبات: وهذا تحدي أخر ينتظر قطاع القضاء في ليبيا، بمعني هل يتمكن المشرعين في ليبيا إن يصنعوا قوانين عقابية باحكام وعقوبات بديلة، كظاهرة حضارية تحتاجها مجتمعنا، بعدما عاني ما عاني، عقوبات بديلة تمنح للمذنب كرامة، وللجاني كرامة. إن العقوبات البديلة في قوانين العقاب والجريمة لها بُعد اقتصادي لما توفره مثل هذه العقوبات من مصاريف وإمكانيات وموازنات .

وأخيرا، هذه المطالعة حاولت أن تسهم برأي نحو تأسيس رؤية لاستقلال ونزاهة القضاء في ليبيا، وكيفية إعادة مأسسته، وهذا لن يتم استشعاره إلا من خلال ورش عمل فنية تخصصية ،وندوات وحلقات دراسية، لان الأمر يتعلق بمستقبل الحريات والحقوق، وإرساء دولة القانون ونزاهة القضاء فيها.


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

اترك رد