التقليد لا يكون إلا من عقول استراحت إلى ظل العبودية، لواقع تحكمه قيم التفاهة والتسلط، وقد جاء الدين في الأصل لتحرير الإنسان من إسار التقليد ، أيا كان هذا التقليد، وأيا كانت مبرراته، جاء الدين ثورة على المقلدين، لأن تقليدهم كان سببا مباشرا في وقوعهم أسارى للأحجار ولتجار الأحجار ولمنعشي الأحجار.
واليوم هم أسارى لآلهة أخرى لها تجارها ومنعشوها وسماسرتها.
وكما كان الأمر قديما، ما تزال الدعوة للتحريض ضد التقليد قائمة، لأن من يدفعون للتقليد ويدافعون عن التقليد للشرق أو الغرب على حد سواء ليسوا سوى لصوص يريدون أن يسرقوا حرياتنا ويصادروا إراداتنا في الاختيار.
ولا يكون الاختيار بتقليد هذا أو ذاك، بل حقيقة الاختيار أن يكون لك نهجك الخاص بك، نهجك الذي تصنعه وفق ظروفك ووفق تاريخك وخبراتك، بعيدا عن عمل القردة في تقليد من يباشر معاملتهم ومصانعتهم.
الاختيار لا ينفك عن المسؤولية، بل هو المسؤولية ذاتها لأنه وجه من وجوه الفاعلية، في حين أن التقليد تنصل من المسؤولية وارتماء في حضن العجز والمفعولية.
أين هي المسؤولية فيما تقصفنا به يوميا الآلة الإعلامية العربية عبر القنوات الفضائية؟
لا أظنني أجد لها موقعا فيما يمر بي أو معنى فيما أشاهده أو أتابعه.
كل المؤشرات تدل على تدن بل انعدام لأي حس بالمسؤولية تجاه المشاهد والمستمع.
هل تكون هذه نهاية الحديث عن الإنسان حين يفقد كل حديث عن المسؤولية معناه؟؟؟.
حين تفقد المسؤولية معناها ينحل مفهوم الإنسان إلى الأبد، فقد كان الإنسان أول أمره مرتهنا بالمسؤولية منذ الخلق الآدمي الأول، فشرف بشرف المسؤولية، وعظمت مهماته في الحياة بعظم الأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتقه.
الإعلام العربي يربي على قيم التقليد في كثير من برامجه، بل وتتنافس الفضائيات ويتنافس الإعلاميون في ترجمة برامج ونسخها نسخا كربونيا في غفلة عن خطورة هذا المنحى الثقافي السخيف الذي لا يراعي خصوصية الثقافة ولا المجتمعات، وتتحول النماذج التي ينبغي أن تمثل القدوة في النجاح والتألق والإبداع تحولا عجيبا وساحرا، فيصبح نموذجهم المادي البراغماتي اللاأخلاقي نموذجنا من غير تعقل و لا تفكير، في تناس وتجاهل لحقيقة أن المثل العليا في التربية تنبت في تربة الثقافة الخاصة ولا تستورد وتترجم في نسخ باهتة.
إننا نربي شبابنا على التقليد حين يكون أفق تسابقهم هو تقليدهم لرقصة أو صوت أو دور فلان أو فلانة من جماعات المخنثين والمتكسرين والمهزومين نفسيا في زمن الإخصاء الرسمي للرجولة.
فيطلع عندنا جيل من الطفولة والشباب مُغتصَب متعلق بالفقاعات، جار على طريق التفاهة التي يرضعها في كل لبن وفي كل شراب. يُضَيق على نفسه في اللباس ويكلف نفسه النطق بغير لسانه، فينتهي بدون لسان وبدون شخصية، وتعيش الفتيات الصغيرات هوس الرشاقة باتباع حمية أدعياء الفن من أشباه الرجال وأشباح النساء.
بالنهاية يصبح لدينا جيل متعلق بالشاشة وبالصورة الخادعة إلى حد التأليه والتقديس، يتحول إلى مدرسة تلقنه معارفه وقيمه ورموزه ، ويتحول كثيرون إلى مدمنين يتصورون أن بالمتابعة الدائمة يلاحق الإنسان العصر، في حين لا يفطن هؤلاء إلى أن التلفزيون كما يقول جاك إلول ليس له رسالة خارج ذاته، فإنه لا يبث شيئا سواء في هذا المعلومات أو الابتكارات الفنية أو الفكر، فإنه ذاته هو الرسالة، وما يزرعه فينا هو ذاته . فالصور التي يعرضها لا معنى لها، ومن ثم لابد لها أن تكون قصيرة ومثيرة للدهشة. والرقص أكثر”تلفزيونية” من اليوجا، والعنف من اللاعنف، وزعيق القائد الكارزمي أكثر “تلفزيونية”من التأمل المعبر عن أفكار، والصراع والتناحر أكثر من التعاون، وتفضل اللارسائل على أفضل الرسائل، ولا تبقى سوى ضبابية عامة تغلف الشاشة نفسها، فليس ثمة معلومات عن الواقع.
اترك رد