لقد أبى المتنبى الذهاب إلى بلاد الأندلس، لأنه أدرك تفاهة حكامها مع ضخامة الألقاب التى يحملونها، وكأن الرجل يصف أحوال العرب في عصرنا هذا لا في عصره هو عندما قال:
فى كل أرض وطئتها أمم يقودها عبد كأنها غنم !
هل في حياتنا السياسية العربية اليوم رهان على قيادة رمزية ديمقراطية يمكنها أن تكون بصيص أمل لشعوبها أمام عاديات الزمن؟ أم أننا إزاء الصورة الشعرية للمتنبي تعيد إنتاج نفسها ، صورة العبيد يقودون الأغنام، بما في الصورة من استعارة جارحة..لكنها الحقيقة التي ما أخطاها أبو الطيب بحس الشاعر ووعي الإنسان الحر.
إنه مظهر آخر من مظاهر التفاهة، حين تتحول الجمهوريات إلى ملكيات بالتقادم، وحين تصبح الملكيات قدرا مقدورا ومعبودا مع الله الواحد الأحد، لها طقوسها وترانيمها وأزلامها وكهنتها وبخورها الخاص الذي تدفع به شرور “شياطين المعارضة” الخارجين على “النظام”.
لا أعتقد أن الإعلام في أي بلد من البلدان العربية يتنفس برامجه ومواده بعيدا عن السياسة الرسمية للأنظمة العربية التقليدية.وهو بهذا الوضع لا يخرج عن دور البوق الرسمي وغير الرسمي لتفاهة هذه الأنظمة، وعليه فتفاهة الإعلام العربي مأتاها من تفاهة النظام السياسي الرسمي العربي الذي يحرص كل الحرص على أن يبقى وفيا لشيء واحد ووحيد هو”المحافظة” وتثبيت زمن النخاسة وتجميده.
إن غياب أفق إعلامي عربي رشيد لمواجهة تحديات الأمة في المستقبل سببه المباشر هو غياب أفق سياسي للأنظمة المتهالكة التي دخلت الإنعاش منذ زمن طويل.
لا يمكننا أن نحاكم الإعلامي ما دام لا يلعب سوى دور البيدق والبوق والمعول والمسحاة، وكلها أدوات ووسائل، وهي في دروس النحو أسماء آلات بعضها قياسي وبعضها لا ينقاس، آلات للتحمية والإشاعة والهدم والنفاق والمجاملة.
لا يمكن أن يكون لدينا إعلام قوي والسياسة عندنا ضعيفة، كما لا يمكن أن يكون عندنا إعلام نزيه والسياسة فاسدة.
والتفاهة في المشهد الإعلامي ثمرة طبيعية لشجرة السياسة الفاسدة، فالسياسي لا يملك أن ينتج مواقف سياسية مُقنِعَة ولا مشاريع مغذية مُشْبِعة، فيلجأ حينئذ للإعلام ليزوق وينمق و يزيف الواقع الرديء في عيون الناس، ليستحيل التاريخ لعبة في يد المنافقين والدجالين المجانين.
لابد أن نشغل الناس…هذه مهمة كبرى من مهام الإعلام العربي الرسمي وغير الرسمي…شغل الناس من وجهة نظر سيكولوجية الجماهير حل لمواجهة معضلات السؤال عن أزمات الواقع.
شغل الناس كان شغل السياسة الأول منذ بدأ الإنسان يتحكم في الإنسان، منذ بدأ الإنسان يتصرف في شؤون الآخرين باسمهم ونيابة عنهم، لابد من شغلهم حتى لا يزعجوا بالمشاركة في “الشأن العام”أي في شؤونهم وشغلهم، فكان شغلهم بما لا يعنيهم هو جوهر السياسة المدنية الفاسدة تاريخيا، أو لنقل تحويلهم عما يعنيهم وهو شؤونهم الخاصة والعامة إلى ما لا يعنيهم وهو شؤون الآخرين المجهولين أو البعيدين”فنانين ورياضيين وغيرهم من جحافل النجوم الصناعية الزائفة”.
كانت السياسة هي أن يهتم المواطنون بما لا يعنيهم بمعنى الذي يصرفهم أكثر فأكثر عن “السياسة الحقيقية” حتى تستفرد بها “عصابة الذئاب المفسدة”، ومن جملة ما تستعين به لتحقيق هذا الغرض الدنيء وسائل الإعلام، وإغراق الناس فيما لا يعنيهم لينسوا ما يعنيهم.
لسبب ما حين أتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم:”من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” أقرأ فيه معنى سياسيا خفيا ، معنى التوجيه والتحذير من مغبة السقوط في التهمم بما لا يعنيك عما يعنيك، فإنكار المنكر والفساد والصراخ في وجه المفسدين مما يعني الناس ،ولا يمكنه أن يكون مما لا يعنيهم، لأنه لا يكون هناك فساد إلا وضرره لاحق بالناس بالأصالة أو بالتبع، ولا يمكن أن يكون في الحديث أو الدين دعوة للانزواء أو الانعزال عما يعني حقيقة،لأن الدين لا يسكت على الفساد، وإلا كان دينا محرفا لا يصلح لقيادة الناس، كما لا يصلح أن يكون رسالة السماء للأرض، والفقهاء الذين يقدمون الدين سكونيا يمارسون التخدير لا التنوير.
ما يعنيك أو يعني الناس يرتبط بمفهوم أساسي إذا شئت إدراك حقيقة الحديث، إذ ما يعني الإنسان له علاقة بالمعنى والمعاناة والعناية.
ما يعني الإنسان هو ما يدخل ضمن عالمه التصوري، فيحرز على مدلول مفيد أي معنى.
وما يعني الإنسان هو ما يدخل ضمن عالمه التدافعي مع الآخرين، في طلبه للحق بالمعاناة دونه.
وما يعني الإنسان هو ما يدخل ضمن عالمه الشعوري، فيطلب منه أو له العناية بما يحصله من دوام الاهتمام.
إذا كان هذا ما يعني الإنسان في فلسفة الدين، فإن الإعلام العربي الفاسد المفسد يشتغل بتحويل الناس عما يعنيهم إلى ما لا يعنيهم من اللهو والاستغراق في الترفيه وكأن الحياة ليس فيها غير هذا الذي تحول إلى ما يعنيهم وهو لا يعنيهم في شيء.
ومن تحويل المعنى تحويل الواقع، فالواقع أسود أو رمادي على الأرض في أحسن الأحوال، لكن الكاميرات تأبى إلا أن تنقله لك “أخضر” على الدوام، “براقا”، فهل تبدد وجوه الحسناوات ورشاقتهن وابتسامتهن البلاستيكية التي لا تنقطع على التلفاز بؤس الواقع وصقيع الحياة. وهل يغني تنطط الشباب الغافل عاريا على أنغام التمرد”في البوليفار” و”موازين” في أن يقنعنا بأنه ليس إلا فقاعات فارغة فقدت معناها في الطريق إلى الأرض اليباب.
اترك رد