ناقشت الباحثة هادية السالمي بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بجامعة صفاقس (تونس) أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه في الحضارة، وهي بعنوان “التناص في القرآن دراسة سيميائية للنصّ القرآني”.
و قد تشكّلت لجنة المناقشة من السادة:
الأستاذ الدكتور محمد بو هلال رئيسا.
الأستاذ الدكتور محمد بن عياد مشرفا.
الأستاذ الدكتور حمادي المسعودي عضوا.
الأستاذ الدكتور أحمد السماوي عضوا.
الأستاذ الدكتور محمد صالح المولى عضوا.
و بعد مناقشة الأطروحة و المداولة قرّرت اللجنة إسناد الباحثة هادية السالمي درجة الدكتوراه بملاحظة “مشرّف جدّا”.
تقرير الأطروحة
كلمة شكر
يشرّفني اليوم الوقوف أمامكم لمناقشة رسالة الدكتوراه وهي بعنوان” التناص في القرآن دراسة سيميائية للنص القرآنيّ”. وأشكر أعضاء اللجنة أساتذتي المبجّلين الذين تفضّلوا بقراءة البحث وما تجشّموه في ذلك من مشقّة وجهد.
وأتقدّم بالشكر لكلّ من ساعدني للوصول إلى هذه المرحلة بالتشجيع أو النصح والإرشاد. وأتوجّه بجزيل الشكر إلى أستاذي محمّد بن عياد الذي قبل الإشراف على هذه الرسالة بعد تقاعد أستاذي الجليل محمود المصفار فكان نعم الموجّه والمعين.
ولا يفوتني أن أشكر كلّ من ساهم من قريب أو بعيد في إخراج هذا العمل من الوجود بالقوّة إلى الوجود بالفعل.
1. أطروحة البحث
أقارب القرآن في هذه الدراسة مقاربة سيميائية تقوم على اعتباره نصا أي ظاهرة سيميائية تشمل علامة ماديّة ولغويّة متعدّدة المعاني، إيحائيّة تتجاوز أحاديّة الدلالة Monosémie إلى تعدّديتهاPolysémie ،
ذلك أنّ”التناص لا يفهم فهماً مستنيراً بمعزل عن المفهوم الجديد للنص”.
وتنتظم القرآن وحدة نسقيّة يتطلب الكشف عنها البحث في أشكال التناص ومستوياته.
وهو الذي يعرّفه جينت قائلا:” ما من أثر أدبيّ، في أيّ درجة كان، وحسب اختلاف قرّائه، إلاّ ويحيل على أثر آخر، ومن ثمّ، فإنّ كلّ الآثار السابقة ناسخةٌ واللاحقة منسوخة“.
وهو في القرآن، نوعان. تناص داخليّ بين مكوّنات النص: بين البسملة والاستعاذة ، وبين إسم السورة ومتنها ، وبين الفواتح والخواتم ، وبين السور ذات الموضوع الواحد .
وتناص خارجيّ كامن في علاقة القرآن بالواقع العقدي والأدبيّ، وبينه وبين النصوص المقدّسة والنصوص البشريّة من نثر وشعر.
2. دوافع البحث:
· القرآن نص مقدّس يحتاج إلى الدراسة بالآليّات الإجرائيّة النقديّة المتعارف عليها.
· الحاجة إلى فهم القرآن فهما جديدا في ظلّ المتغيّرات واختبار بنيته ودلالته بمفاهيم حديثة لاستنباط ما ينطوي عليه من مكوّنات.
· فهم النص القرآنيّ فهما جديدا قوامه النص في وضع علائقيّ ورصد أشكال التواصل وأطرافه وما يستتبعه من دلالات.
. تجاوز المباحث التي تنغلق على النص برفض آليّات التحليل الحداثيّة المتجدّدة مع مستجدّات التاريخ وتسوّغ الباب لحياة النص وحركته ضمن سياق خاصّ من الثقافة والتلقّي.
· ربط القراءة على التاريخيّ و تجاوز الدراسات التوقيفيّة التي تحصر الظاهرة القرآنيّة في الإعجاز المطلق دون إخضاعه لمقتضيات التحليل المنهجيّ.
3. صعوبات البحث
· الخشية من التباس البعد التحليليّ الموضوعيّ بالبعد العقديّوهي مظنّة نعيها تمام الوعي وأعددنا لها العدّة اللازمة.
· تعدّد وجوه المبحث السيميائيّ ما بين سيميائيّة سرديّة غريماسيّة وسيميائيّة بيرسيّة وسيميائيّة تأويليّة لدى الفلاسفة عموما وهذا ما جعلنا نأخذ من كلّ شيء بطرف على مقتضى الحال.
· كثرة المراجع وتنوّع مرجعيّاتها استدعى وقتا طويلا لفرزها وانتقاء ما يتناسب وخصوصيّة القرآن.
· الحاجة المنهجيّة كانت تفرض أحيانا العودة إلى مباحث فقط من الكتب والموسوعات أو الاعتماد على المترجم من الدراسات فحسب.
· استدعاء النص القرآنيّ لمفاهيم سيميائيّة دون غيرها مما اقتضانا التدقيق في الاختيار حتى انتابتنا الحيرة أحيانا
4. خطة البحث
“التناصّ في القرآن” دراسة تقوم على ثلاثة أبواب :
مهّدت لها بباب تمهيديّ “في البناء النصّي ” وختمتها بباب تأليفيّ “القرآن والتراث الميثولوجيّ”.
أمّا الباب الأوّل فمخصّص “للبناء التناصّي”. ويبنى البابان الثاني والثالث على بنية التناصّ في القرآن داخليّا فخارجيّا .
وقد احتوى كلّ من البابين على أربعة فصول في حين قام الباب التمهيديّ والباب الأوّل والباب التأليفيّ على ثلاثة فصول فحسب لكلّ منها أربعة مباحث. وقد ذيّل البحث بقائمة مصادر ومراجع وفهارس للمصطلحات والأعلام و للآيات والحديث النبوي.
يمثّل الباب التمهيديّ توطئة لتعريف النص تنظيرا وممارسة وقضايا فتتبّعنا ممارسة النص في الثقافة العربيّة ثمّ الغربيّة ورصدنا مقوّمات النصيّة في الدرس الحديث وقيمة القراءة والكتابة في دلالة النص وتناصه وتوالده ثمّ تخلّصنا للوقوف على مميّزات النص القرآنيّ محور البحث. فهذا الباب يتدرّج من النص فضاء سيميائيّا إلى صنف خاص من النصوص.
أمّا الباب الأوّل فهو تعيين لمجال السيميائيّة إطارا نظريّا لبحوث التناص إذ تعتبر السيميائيّة مجالا خصبا لدراسة العلامات. وهو علم يولي الدلالة مكانة مرموقة لأنّها محور التواصل و مكمن الحاجات لأنّها تتكفّل بتتبّع السيرورة المعبّر عنها بالسيميوزيس التي يشتغل فيها شيء مّا بوصفه علامة. “فمجال السيميائيّة هو في انتقال العلامات من مستوى إلى آخر أي في الانتقال من دلالة مغايرة مختلفة في مستوى أوّل من قراءة النص إلى دلالة مماثلة موحّدة في مستوى ثان من قراءة النص”. وهذه النقطة التي يبلغ فيها المعنى المنتهى هي الصيرورة الخاتمة للمسار.
و دراسة التناصّ، في هذا الإطار، وقوف على عمليّة تفاعل النصوص فيما بينها و تأثير هذا التفاعل في إنتاج الدلالة .
ولقد كان القرآن النص الذي استوعبه هذا العمل فكان بحثا في مكوّناته ورصدا لدلالات حضورها وغيابها ذلك أنّ للعلامات وهجها بالقوّة أو بالفعل.
ولقد كان للتناصّ في القرآن نوعان داخليّ و خارجيّ.
ففي بنية التناص الداخليّ، كان القرآن مدخلا للتأويل و نصّا له من العتبات ما يوازي متنه في إنتاج الدلالة .
أمّا في بنية التناص الخارجيّ، فالقرآن نص صنعت دلالاته نصوص قديمة قد يظنّ تآكل أصولها ولكنّها لم تفعل ، وهو يشترك معها في الصدى الدلاليّ جيئة وذهابا ومن جهة تأثير التليد في الطارف نكون إزاء ما يسميّه بعض أعلام التأويليّة بالدائرة الهرمينوطيقيّة مما يجعل التالد غير متآكل وساعيا دوما إلى التجدّد الحيويّ إنّه التناغم المعرفيّ يسلّط كذلك على النص الدينيّ رغم قداسته.
ولقد قامت بنية التناصّ الداخليّ في القرآن على محدّدات أهمّها قابليّة القرآن نصا للقراءة الحميميّة الصائتة أوّلا واستعداده للتلاوة ثانيا باعتباره نصا مدونّا تجاوز آنيّة المشافهة بخاصيّة الخط إلى دوام الكتابة لاحقا.
وقد أكسبته هذه المحدّدات مميّزات جعلت منه نصا لاحقا لتأخّره الزمنيّ و صيغته الشاملة فاستحال حاويا لصنوف من النصوص تطلب التحديد.
بيد أنّ مدار البحث، في هذا المستوى، هو عتبات النص القرآنيّ و ما أحيط به من نصوص موازية أسهمت في تشكيله نصا وفرضت على متلقّيه طقوس قراءة معيّنة، فلم يكن لقرائه بدّ من وطء العتبات دخولا إلى النص و خروجا منه.
وقد أغلقت هذه العتبات القرآن مصحفا وفتحت أبواب دلالاته تفاعلا و توليدا لما احتواه من علاقات و روابط علائقيّة درسها القدامى في مبحث المناسبة و رصدتها في آليّات للتناص تمهيدا لقراءة في الانسجام النصّي بمداخل تلائم القراءة التناصّية.
وفي باب بنية التناصّ الخارجيّ في القرآن، درست صلته بالواقع في تجلّيات مختلفة.
فلمّا كان القرآن نصّا دينيّا بمعتقداته و شعائره، كانت روابطه بالواقع العقديّ متمثّلة في ما تداولته الشعوب من شعائر تعبديّة قد يكون الإسلام امتدادا لها، وللحنيفيّة في ذلك شأن غير ما تقدّم فهي صدى بعيد رجّعته قصّة النبيّ إبراهيم في سور كثيرة تناصّت مع نصوص الكهان وسيرهم.
ولعلّ في الوقوف على درجة الاتّفاق بين النصّين القرآن والكهان تا بعا للحنيفيّة كشفا عن ملامح من الكتابة البشريّة للنص المقدّس وأشكال من الفهم التاريخيّ له في ظروف خاصّة.
والقرآن إذ يواجه بقيّة الكتب السماويّة، ينفي البحث التناصّي أن يكون القرآن اقتباسا أو محاكاة. فهو متقاص عنهما ولكنّه إليهما بسبيل من حيث الاستيعاب.
و في قراءة باحثة عن الأصل الغائب المفترض، اعتبرنا اللوح المحفوظ القرآن في حالته التي تستوعب إشكاليّات قديمة متجدّدة كالمتشابه والمحكم والناسخ والمنسوخ. فكأنّه القرآن قبل النزول وقبل التلبّس بواقع البشر ووقائعهم.
و كان من شواغل هذا المبحث إعادة النظر في نصيّة القرآن مفهوما و إجراء و قابليّتها للفهم في إطار دراسة سيميائيّة تعير الفرضيّات أهميّتها لما فيها من مسائل محرجة للفكر الدينيّ خلال تاريخه الطويل.
وإنّ في إثارة العلاقة بين القرآن و المرجوع إليه تعميقا لدراسة الشفويّ و المكتوب في القرآن و تبيّنا لسبل الفهم التاريخيّ للمقدّس بأدوات بشريّة تأويليّة .
أمّا المعارضة فهي نصوص قامت على المحاكاة آليّة في إنتاج النصوص، ولكنّها كانت تهوينا لمواضيعه الموصوفة بالنبيلة و تحريفا هزليّا لنظمه و تركيبه ممّا جعلها مدعاة للسخرية و تدليلا على إعجازه و مفارقته لبشر ادّعوا النبوّة لنيل شرف أو بلوغ مجد.
ولقد قامت علاقة القرآن مع ترجماته على فهم مخصوص للنص و المرجوع إليه. و فضلا عمّا تتطلّبه هذه العمليّة من جهود و قدرات، فإنّ أهميّتها تكمن في كونها ذات طابع تحويليّ تأويليّ.
فالقرآن يُبنى على التحويل المجازيّ في انتقاله من لغة إلى أخرى، و يقوم على المحاكاة في بحث المدلول عمّا يماثله.
ولقد نافس القرآن باعتباره مكتوبا، في حضوره كلّ النصوص الأدبيّة متجاوزا متحدّيا بالإعجاز وقد نشأ في بيئة خبرت الشعر والأمثال و الخطب و الوصايا حتّى كأنّه هي .
وقد مثّل سرد سيرورة الوجود الإنسانيّ صيغة مشتركة بين القرآن و أشكال الإنتاج الأدبيّ.
و يعدّ الإبداع الميثولوجيّ أهمّ ظاهرة ثقافيّة لأنّه سليل البحث في كنه الوجود ونشأته ولحظة عذريّته سبر حقائقه عبر التاريخ الجمعيّ للمجتمع الإفتراضيّ الذي تخيّله سارد النص.
و قد ركّزت على الأسطورة و الحكاية الشعبيّة والملحمة نصوصا قادرة على كشف التناص الخارجيّ الذي يقيمه القرآن مع التراث الميثولوجيّ تجلّيا و استيعابا.
5. نتائج البحث
· قيمة التناص ودوره في معالجة النص القرآنيّ كشفا عن آليّاته وأشكاله ووظائفه فيه
· إدراك القيمة الكبرى للنصوص الموازية في فهم القرآن
· تبين مداخل جديدة لقراءة القرآن ورصد تفاعلاته نصا في سيرورة دلاليّة تاريخيّة
· التخلّص من الأحكام المعيارية القاضية بتصنيف النص الآخر وتأسيس حواريّة بين النصوص
· تفاعل النص القرآني أجزائه بعضها ببعض هو عدل تفاعل القرآن ذاته مع نصوص أخرى مقدّسة وغير مقدّسة وهذا التفاعل يقوم آية على طواعيّة النص القرآنيّ للفهم الميثولوجيّ وعدم خروجه عن سياق التاريخ.
وتعدّ نتائج هذا العمل نسبيّة قادرة في ظلّ بحوث أنضج على الإسهام في فهم النص القرآنيّ وتطوير قراءته بما يتيحه الذهن البشريّ من وسائل وما يتمتّع به البشر من بصائر. وإنّي على يقين من أنّ هذا البحث المتواضع سيغتني بالملاحظات التي سيتفضّل بها الأساتذة أعضاء اللجنة ولكم جزير الشكر سلفا.
ولا يسعني في الختام إلاّ أن أشكر كلّ الحضور.
اترك رد