شهد المجال الاعلامي والسمعي البصري في عصر العولمة تطوّرا هائلا زادت معه درجة وحدّة التأثير في الرأي العام. وبعد أن أُغلقت نوافذ المعلومة وشُيّدت أسوار التعتيم في العالم المتخلّف، كان لها أن تفتح في العصر الحديث متجاوزة في قدرتها سلطة الدولة على الشعب وقدرة أجهزة الحكم في السيطرة عليها. إنّ التأثير في الرأي العام سواء في المجتمعات المتقدمة أو المتخلّفة، هو استراتيجية تسعى من خلالها الأطراف التي تستعملها إلى تحقيق غايات وأهداف محدّدة آنفا أو مرحليّا.
وفي هذا السياق، يعتبر كتاب المتلاعبون بالعقول لمؤلّفه هربرت شيللر من أروع وأجود ما أُلّف حول موضوع التأثير في الرأي العام في العصر الحديث. إذ سعى المؤلّف إلى كشف الكيفيّة التي يجذب بها كبار النخب السياسية والاعلامية خيوط الرأي في الولايات المتّحدة بأسلوب علميّ مميّز ومتكامل. ولكن ما يحدث في الشرق الأوسط كان له أن يتعدّى مسألة التأثير ويتجاوزها إلى مرحلة أكثر عمقا ألا وهي مرحلة التصنيع.
سنعرض في هذا المقال الاستراتيجيات التي استخدمتها السلطة الحاكمة في العالم العربي من أجل السيطرة على الرأي العام وبالتالي سيطرتها على وعي الشعب. وإنّ أيّ تغيّر في هذه الاستراتيجيات سيكون له تأثير طويل الأمد على درجة وعي الشعب وعلى قدرة الدولة في السيطرة عليه. ثمّ نحاول فهم دور الاعلام في توسيع دائرة الأحداث الحاصلة في الشرق الأوسط من خلال تركيزه على مصطلحات معيّنة، نخص منها بالذكر مصطلح الثورة.
-
صناعة الخوف واستخدام وسائل الإكراه
لقد استمدت النخب الحاكمة في العالم العربي قوّتها عموما، من تسلّطها واستخدامها لوسائل الإكراه بمختلف أنواعها. إذ إنّ سعي النظام الحاكم إلى صناعة الخوف والارتباك لدى عموم الشعب ماهو في الحقيقة إلاّ مرحلة سابقة واستراتيجية مدروسة لبلورة رأيه مستقبلاً. بحيث إنّ الخوف يؤدّي إلى تطويق الحراك الاجتماعي وتحجيم المعارضة وتقزيم دور المجتمع المدني. بل وفي الكثير من الأحيان أُخترقت المعارضة والمجتمع المدني، فأضحت الأحزاب والجمعيات والهيئات المدنية مجتمعة- يمكن وصفها بالحركات الاجتماعية كما يسميها سمير أمين – ناطقة باسم السلطة أو مدافعة عنها في صورة تعكس حجم السيطرة على العقول وكلّ نقاط القوّة الممكن تشكّلها داخل النظام الاجتماعي.
وبالتالي، أصبح الخيار السياسي والاجتماعي في دول الشرق الأوسط مقتصراً على الأبيض و الأسود. فإمّا موالاة للسلطة وإمّا الانكسار والسقوط كنتيجة حتميّة لمعارضة النظام ولو كان ذلك بالطرق السلميّة من خلال محاولة بث الوعي في الرأي العام كما تفعل مؤسسات المجتمع المدني عموما.
-
تفكيك النظام التعليمي
ومن الاستراتيجيات التي تُرهق المثقّف وتُذهل الحكيم هو تفكيك نظام التعليم والتضييق على المتعلّمين بغرض تقزيم الوعي ومحاصرته. بحيث تكبح القدرات الفكريّة والعقليّة ويُروّج لبضاعة السلطة في المناهج الدراسيّة ويرتبط النّجاح المهني والتعليمي بدرجة الولاء لأجهزة الحكم لا للوطن والدولة. فجاء زمان على الدول العربية، أصبح الأستاذ والمثقّف والطالب أوّل من يعاني اجتماعيّا وآخر من يُحترم من قبل النظام سياسيا. ذلك أنّ القرارات الصادرة عن الأنظمة، تصب اجمالا في خنق الرأي الآخر ومحاصرة النخبة المتعلّمة لدرجة ينعدم معها الدور وتغيب معه المرجعيّة الفكرية والشرعيّة اللازمة داخل أيّ كيان تتشكّل منه الدولة. أما الحديث عن الابداع أو الاستكشاف والابتكار، فهو من باب العبث أو الجنون لأنّه أمر لا يجب تداوله أصلا. وقد يجد المثقف نفسه متهما بالمساس بأمن الدولة أو أنّه ارتكب اخلالا بالنظام العام في أحسن الأحوال فوجب القصاص من ذلك بتجميد المزيد من العقول.
-
التضليل الاعلامي الممنهج
تدمير نظام التعليم هو مرحلة سابقة لتدمير الطبقة المثقّفة وبالتّالي قطع الطريق أمام وجود قيادات اجتماعيّة وسياسية مستقبلاً، لها القدرة على بث الوعي في الرأي العام ولها فهم دقيق للواقع. وتكون النتيجة هي وجود فجوة بين الصفوة العالمة والسلطة الحاكمة، تتولّد عنها فيما بعد أزمة ثقة بين المثقّف والشعب، وتزيد الهموم حدّة وقساوة بوجود فجوة في الفهم و في أساليب التغيير بين المثقفين فيما بينهم. وإذ نذكر هذه الحال، فإننا لا نخص بالذكر النخبة التي تدخل تحت بساط النظام، فهي جهاز مستهلَك كغيره من الأجهزة التي تستعمل عند الحاجة.
وفي ظل هذه الأوضاع، وبما أنّ الطبيعة لا تأبى الفراغ كما يُقال، فإنّ سحق الطبقة المثقّفة يتبعه التضليل الاعلامي الممنهج و الموجّه كاستراتيجية أخرى بغرض بناء واقع تريده السلطة أو الجماعة الحاكمة، أو نفي حقيقة قد تهدّد كيانها. إذ إنّ التضليل الاعلامي يقتضي واقعا زائفا فيه انكارٌ مستمر لوجود حقيقة معيّنة، ممّا يحدث خللا كبيرا في فهم العامة من الناس ويحدث اضطرابا غير مسبوق قد يصيب صاحبه بشلل فكري فيسعى جاهدا للهروب من زيف الدعاية الاعلامية بغرض السلامة من محاولة فهم ما يحدث. ولعلّ للقارئ أن يتذكر مرحلة الترويج لفكرة القوميّة العربية لسنوات طوال حتى أصبحت عند البعض دينا يُعبد أو مذهبا مثاليا وجب أن يُجسّد. فالترويج والدعاية الاعلامية لمصطلح (القومنة) في الشرق الأوسط، والتي فرضتها سياسات النخب الحاكمة المتميّزة بالوصاية على الشعب – ساهمت في إلغاء الهويّة بشكل أو بآخر بدل أن تثبّتها- قبل أن تأتي العولمة التي فرضت من الغرب على الكل ووجدت الأجواء مهيئة في ظل غياب التحصينات اللازمة و غياب الهويّة في منطقة الشرق الأوسط.
إنّ اختلال التوازن في الاستراتيجيات الثلاث المستخدمة من قبل النخب الحاكمة، سيؤدّي حتما إلى التغيّر في درجة الوعي وإلى فقدان النظام لسلطته على الشعب. وقد تصل درجة الوعي إلى حدّ المطالبة بالتغيير كما يحدث الآن. فازدياد حجم طبقة المتعلّمين والطلاّب الجامعيين، مع ما صاحبه من تقدّم في مجال الاتصال والاعلام، جعل من السّهولة بما كان الوصول إلى المعلومات واستخدامها وبالتالى إمّا توظيفها لمواجهة السلطة أو المساهمة في توعية الشعب من خلال استغلال عدد من المجالات المتاحة والمؤثرة داخل المجتمع. فمن منّا لا يتذكّر كيف أنّ الرئيس بن علي في تونس قد سارع إلى توقيف شبكة الانترنت في الأيّام الأولى لانتفاضة التغيير أو الرئيس حسني مبارك الذي قطع خدمة الهواتف ادراكا منهما بأهميّة مجال الاتصلات الذي أصبح في متناول الجميع وليس حكرا على الدولة فقط، فكيف إذا استعملت كل هذه الوسائل من قبل الطبقة المثقّفة؟
عموما يمكن القول بأنّ أيّ بروز للحركات الاجتماعية، مع قوّتها في تأطير الشعب، و ازدياد في حجم الطبقة المتعلّمة والمثقّفة، المتماسكة فيما بينها، والقادرة على القيادة الاجتماعية والسياسية والاقتصاديّة، يضاف إليها استخدام وسائل الاعلام والاتصال، هي الوصفة التي أرّقت نظام الحكم في العالم العربي وجعلته يتنبّأ بقرب مطالبة الشعب للتغيير لأنّ درجة الوعي قد تصبح في أوجّها. وجدير بنا أن نذكر بأنّ ما كان يحدث في الدول العربية سابقا من مناهضة شعبيّة من خلال المسيرات والاعتصامات، لم يكن ليرتقي إلى مرتبة القوّة الحيوية التي يمكن لها أن تؤثّر وذلك لغياب التأطير الذي هو من مهام النخبة. كما اتسمت المطالب بالعفويّته والشعبويّته في الأهداف والطريقة من خلال اخراج كميّة الحماسة الزائدة ثم الانسحاب من الساحة في انتظار فرصة أخرى للتعبير مستقبلا.
مصطلح الثورة ودوره في الأحداث اعلاميا
أدّى تسارع الأحداث في منطقة الشرق الأوسط خلال السنتين الأخيرتين إلى سقوط المزيد من رؤساء الدول وصراع البعض الآخر من أجل البقاء، كما تركت هذه الأحداث باب التنبّؤ مفتوحا لدول أخرى أصبحت تحت ضغط رهيب من الأصوات المنادية بالاصلاحات سواء داخليا أو خارجيا. ولكن ما يلفت الانتباه في كلّ هذا هو درجة الاهتمام الاعلامي الذي لم يسبق له مثيل حتىّ في أعظم الحروب التي حدثت في القرن العشرين. إنّ هذا الاهتمام، يمكن أن نستوعبه من خلال فهمنا بأنّ طبيعة عصر العولمة وتيكنولوجيا الاتصال قد جعل الأفكار في تحرّرها وجمودها، سموها أو انحطاطها، في متناول كل الأفراد داخل المجتمع. ولعلّ أهم ما يميّز هذه التغطية الاعلامية الكبيرة هو التبشير برياح الثورة التي هبّت حسبها على عالمنا العربي والتي ستعمّم حتما على كلّ الدول في المنطقة في صورة توحي بأنّ كلّ الدول متساوية من حيث درجة وعي الشعوب أو من حيث طبيعة أنظمة الحكم. لا شكّ أنّ ما حدث هو تغيّر مهم في الشرق الأوسط إلاّ أنّ وصف كلّ ما يحدث على أنّه ثورة، ثمّ التهليل بحتمية تعميمها، فيه نوع من المبالغة الاعلامية والتي انساق وراءها للأسف عدد معتبر من المحللين السياسيين وطبقة النخبة.
وقبل الكلام حول هذه المسألة، نجد لزاما علينا أن نفرّق بين مصطلحات مهمّة قد دأب البعض إلى العزوف عن التفرقة بينها وذلك اعمالا لمبدأ (لا مشاحة في الاصطلاح)، فأصبح استعمالها متداولا اعلاميا وحتى أكاديميا لدرجة عدم القدرة على الفصل بينها. وهي مصطلحات: التغيير، والثورة، والهوجة (أو الفوضى الشاملة). فمصطلح التغيير يشير إلى التوقّف عن القيام بشيء وبداية القيام بشيء آخر يختلف عن الأوّل وهو جزئي وليس كلي، كما أنّه يرتكز على مجاهدة معنويّة ومثابرة سلميّة قد لا تخرج عن الاطار العام المكرّس لها. أمّا الثورة فهي الحالة التي يقوم فيها المؤسّسون لها بمحاولة قلب النظام كليّاً وغالبا ما يكون ذلك باستعمال القوّة المعاكسة أو المواجهة المباشرة و الغير المباشرة. والثورة كما وصفها توفيق الحكيم، هي دليل حيويّة. وحتى نربط الأمور بما سبقها، فإنّ الحيويّة هنا هي درجة الوعي المميّز والاعمال الايجابي للأفكار ولتدفقها من قبل جماعة لها القدرة على القيادة والتوجيه والاستمرار نحو الهدف. ثم إنّه لا بدّ لهذه الحيويّة أن تؤدّي هدفها وغايتها من خلال الثورة بطريقة يصعب معها مقارنة السلبيات القليلة بالمحاسن الكثيرة. فإذا لم تكن الثورة على هذا المنحى، اتخذت مسارا آخر وهو ما يسمى بالهوجة. إنّها الحالة التي تشبه الفوضى الشاملة التي تأخذ معها الأخضر واليابس، كما تقتلع الصالح والطالح وتقضي على الحيويّة الايجابية فيستخلفها الانهيار الكلّي أو الجزئي للبناء المسمى بالدولة. فإذا ما أردنا تحليل الوضع في الشرق الأوسط، سيظهر جليّا بأنّ ما يحدث في بعض البلدان يتناسب مع مصطلح التغيير الذي هو شيء جزئي مقارنة بالثورة التي تكون عميقة وتؤدّي إلى التحوّل الكلّي. إذ إنّ الشعوب توقّفت عن الجلوس والسكوت وتحمّل الأنظمة في كلّ من مصر وتونس واليمن وتحرّكت نحو مطالبة ومساءلة أنظمتها سعيا منها للمشاركة في صناعة القرار في البلاد بطريقتها الخاصة، كالخروج في الاعتصامات وتنظيم المسيرات.
أمّا من حيث النظام، فقد ذهب الرئيس أو الحكومة وبقي النظام عموما ممثلا في سلطة الجيش أو المعاونين السّابقين للرئيس الذين يصعب استبدالهم نظرا لقوّة مراكزهم الوظيفيّة أو لعدم القدرة على وجود من يستخلفهم، وهذا مالا يتناسب أحيانا مع مصطلح الثورة التي مبدؤها التحوّل الشّامل من نظام إلى آخر. إذن، فالمبالغة الاعلامية سواء عن قصد أو عن غير قصد، قد تكون سببا رئيسا في وصول المجتمعات إلى قناعة بأنّ ما حدث هو غاية مايُدرك وأنّ ذهاب الرئيس هو غاية مايتمنّاه الشعب وهكذا فقد تأسّست لهم دولة وتنطلق الأقلام في كتابة تاريخ حديث لها على أنّها بداية التاريخ الذي لا يحكم فيه رئيس سبق وكفى. إنّ الكلام على ما يحدث في الشرق الأوسط على أنّه ثورة قد يولّد الركود بسبب الاهتمام بالحدث نفسه لا بالنتائج ورسم الخطط للمستقبل،كما أنّه عجّل بانسحاب بعض القوى الفاعلة داخل المجتمع ظنا منها بانتهاء عمليّة الاصلاح.
ومن ناحية أخرى، شهدت بعض البلاد انبعاث حساسيات وعصبيات قديمة كان من المفروض أن ترمّم وتصلّح قبل القيام بأيّ عمل. وتكون الطّامة أكبر إذا حملت طبقة النّخبة نفس المعتقد وركبت نفس الأمواج تاركة شاطىء المستقبل مفتوحا على كلّ الاحتمالات سواء الصّالح منها والطّالح وبالتالي هو فتح لباب قد يكون باب الهوجة. فدور النخبة من العلماء والمفكرين والباحثين وغيرهم أصبح ضروريا أكثر من أي وقت مضى من أجل الأخذ بيد العامّة من الناس إلى شاطىء المستقبل بدل تركهم وسط أمواج المجهول المظلم. فالمسؤولية تاريخيّة بالنسبة للنخبة، والتغيير قد يساعد بعض الدول للخروج من الماضي السيّء، ولكنها ليست الثورة في كلّ مكان التي تقلب رأس النظام وتأتي بنظام جديد مغاير كما يهلّل له الاعلام.
هل يمكن تعميم الأحداث على كلّ الدول في المنطقة؟
إنّ مسألة التعميم تحتاج إلى تفحّص ونظر كبيرين مع عدم التسرّع في اعطاء التعاليق والتحاليل العامّة التي تفتقر إلى الدقّة وبعد نظر، بل هي أقرب ما تكون منها إلى الحماسة المفرطة والأماني التي يصعب تحققّها على الأقل في الوقت الراهن. و يمكن القول بأنّ هناك مستويين هامين لتحديد ضرورة التحوّل في الشرق الأوسط من عدمه.
فالمستوى الأوّل يكمن في أنّ الدول العربية فيها تفاوت من حيث درجة وعي الشعب من جهة، وفي درجة تسلّط أجهزة الحكم من جهة أخرى. ووعي الشعب ماهو في الحقيقة إلاّ انعكاس لوعي النخبة المثقّفة والمتعلّمة. فالدولة التي نخبتها نائمة ولا تقوم بدورها ولاتنوّر طريق شعبها لحريّ بها أن تبقى قابعة من دون عمل ومتأخّرة من دون اصلاح. أمّا تسلّط أجهزة الحكم، فمن منّا لا يعرف بأنّ مجرّد ذكر الرئيس في بعض الدول كان يعتبر خطيئة يحاسب عليها القانون، والكلام عن الاصلاح خيانة، والصلاة في المسجد تهمة. كما أنّ النصيحة ولو بمقال في جريدة قد يعتبر مساسا بأمن الدولة ونشرا لغسيلها. هذا من غير الخوض في تفاصيل التعامل مع المخالف في بعض البلدان والتي أقرب ما تكون حقائقها مشابهة لقصص الخيال لولا صدق الرواة والشهود. ومن كانت هذه حال بلده، فإنّ درجة الكبت والامتعاض عنده لا يمكنها أن تكون نفسها كمن يعيش في غيرها من البلدان. وهكذا فإنّ القول بتطابق ما يحدث في الدول العربية فيه نوع من المغالطة للرأي العام.
أمّا المستوى الثاني فهو عدم التماثل في الأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية التي لها الدور البالغ كذلك في تحديد ضرورة التغيير من عدمه. فكيف مثلا يتساوى الناس بين بعض دول الخليج أين يعيش معضمهم في رغد من خلال سعي الدول هناك إلى التوسعة في الأجور والمنح والعطايا، وبين الشعوب في كل من مصر واليمن أين المعاناة هي شعار لحياة الغالبية الساحقة؟ فحتى ولو كان هناك ظلم في توزيع الثروة والأموال في الخليج، إلاّ أنّ الحقيقة هي أنّ الشعوب لا تنتفض إذا تحصّلت ولو على نسب بسيطة من الثروة مفضلة القناعة بالقليل بدل الذهاب إلى المجهول. فلا يمكن الفصل أبداً بين المستويين وإنّما تفاوت الدول فيهما هو المعيار الأساس لتحديد سبب تحرّك الشعوب ومطالبتها بالتغيير من عدمه. وقد يضاف إلى ما سبق مستويات أخرى كوجود التجارب السابقة ودرجة الاهتمام العالمي بدولة دون أخرى تحقيقا لمصالح معيّنة في المنطقة. ولكن التوجّه الاعلامي الذي يخدم أهدافا معيّنة، قد يسعى إلى إلغاء كلّ المستويات واختزالها في صورة وجود حكم ديكتاتوري وجبت إزالته بغضّ النظر عن المراحل السابقة أو اللاحقة لعمليّة ما تصفه بالثورة.
وفي الختام، يبقى أن نشير إلى أنّ عالمنا العربي يمرّ بفترة مخاض عسير قد تكون نتائجه محمودة ومطلوبة في بعض الدول، ولكن يحتاج ذلك إلى عمل جاد ومتواصل من أجل حماية التغيير من الرجوع إلى الحالة الأولى بطريق أو بآخر. كما أنّ التغيير لا يستوجب التعميم وإنّما قد يحتاج إلى مرحلة أخرى أو طرقا أخرى بدل نزول النّاس إلى الشوارع في كلّ مرّة. والجدير بالذكر، أنّ الكلام المتواصل بوصف الأحداث على أنّها ثورة من قبل الاعلام، أصبح اشكالية وجب الخوض فيها من أجل فهمها وفهم مضمون الرسالة التي تمرّر اعلاميا وليس فقط الاكتفاء بالقول أنها مجرّد وصف لواقع الأحداث. وبين هذاوذاك، تبقى النخبة هي المحرّك الرئيسي وهي المعادلة التي تنقصنا في الشرق الأوسط من أجل نجاح أيّة عملية اصلاح أو تغيير.
المصادر:
توفيق الحكيم، ثورة الشباب، دار مصر للطباعة، الفجالة، 1988.
محمد كمال الدّين، هموم المثقفين، دار الهداية، بيروت، 1986.
هربرت شيللر، المتلاعبون بالعقول، ترجمة: عبد السلام رضوان، عالم المعرفة، الكويت، 1999.
اترك رد