قاعدة لا ضرر ولا ضرار وتطبيقاتها في قضايا الأسرة

صدر للدكتور محمد ديـرا كتاب “قاعدة لا ضرر ولا ضرار وتطبيقاتها في قضايا الأسرة أحكام النسب والحضانة نموذجا”، وأصل هذا الكتاب رسالة نال بها صاحبها دبلوم الدراسات العليا المعمقة من دار الحديث الحسنية سنة 2006.

جزء من مقدمة الأستاذ الدكتور أبو بكر العزاوي أستاذ التعليم العالي بجامعة المولى سليمان ببني ملال (المغرب).

لقد اعتنى الإسلام بالأسرة فوضع الأسس والقواعد التي يقوم عليها هذا البناء، فجعل الدين الأساس الأول في اختيار شريك وشريكة الحياة، قال صلى الله عليه وسلم: “تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك”، وقال لأهل الفتاة: “إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”، فإذا كان الدين أساس الاختيار فإن التفاهم يكون بين الزوجين ويكون بينهما التعاون والتضامن، وقد جعل الإسلام العلاقة بين الزوجين علاقة تعاون وتكامل لا علاقة صراع وتنافس، علاقة قوامها المودة والرحمة، قال تعالى: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة”، ولاستمرار العلاقة الزوجية حدد الإسلام لكل من الرجل والمرأة في الحياة الزوجية حقوقا وواجبات، بحيث أنه إذا قام كل منهما بواجبه صارت الأمور على خير ما يرام واستمرت العلاقة الزوجية وتوطدت وسادها الاحترام والتعاون. والأسرة لها أركان ثلاثة وهي: الزوج والزوجة والأولاد. ولقد اشتمل القرآن الكريم والسنة النبوية وموسوعات الفقه الإسلامي على الحلول لكل المشاكل والأزمات التي قد تعصف بالعلاقة الزوجية.

لقد اختار المؤلف لكتابه هذا موضوعا أساسيا من موضوعات الساعة التي لها صلة بالأسرة وهي مسألة النسب والحضانة، وعالجها من منظور الفقه الإسلامي ومنظور مدونة الأسرة، وقد كان المؤلف يعرض رأي الفقه الإسلامي في كل مسألة ثم موقف مدونة الأسرة ثم يبدي رأيه الشخصي فيها، ولقد ركز في بحثه هذا على القاعدة الفقهية المعروفة “لا ضرر ولا ضرار”، وبين دورها في تقرير القضايا والأحكام، ولقد اشتمل الفصل الأول على المعنى المراد من لفظي “ضرر” و”ضرار” وبين بعض أحكام القاعدة وفروعها وبعض القواعد المتفرعة عنها والمندرجة تحتها، وعالج في الفصل الثاني قضايا عديدة تتعلق بأحكام النسب منها البصمات الوراثية كوسيلة لإثبات النسب، مسألة نسب ولد الزنى، أسباب ثبوت النسب، ثبوت النسب بالإقرار والبينة، نسب المولود من التلقيح الاصطناعي، أما الفصل الثالث فقد اشتمل على قضايا من قبيل ثبوت الحضانة للنساء ودليله، ترتيب الحاضنين في الفقه الإسلامي ومدونة الأسرة، طبيعة الحضانة وهل هي حق أو واجب؟ مدة الحضانة والأجرة عليها، شروط الحضانة وما يتصل بسقوطها..

إن هذا البحث يعالج موضوعا حساسا وهاما يعتبر من قضايا الساعة، والكتاب مفيد وممتع ومليء بالأفكار المفيدة، والآراء الشخصية الطريفة، وصاحبه باحث جاد ومجتهد، نتمنى له كل نجاح وتوفيق، والله الموفق والهادي إلى الصواب.

مقتطفات من مقدمة المؤلف.

لقد قرر الفقهاء انطلاقا من الاستقراء بأن الشريعة الإسلامية إنما جاءت لمصالح العباد في العاجل والآجل، والمتأمل في تكاليفها يجد أنها تنقسم إلى قسمين: قسم غير معقول المعنى لا نستطيع إدراك التناسب القائم بين الأمر والنهي وبين المصلحتين منه، وهو القسم الخاص بالعبادات والمصلحة فيه إنما تظهر جلية في الآخرة، لذلك سميت “مصلحة دينية”، وقسم معقول المعنى نستطيع إدراك التناسب بين الأمر والنهي وبين المصلحة المستوفاة منه، وهو القسم الخاص بالمعاملات والعادات والقائم على المصالح الدنيوية التي تدور أحكامه معها حيث دارت، بدليل كثرة التعليل الوارد في نصوص هذا القسم وبدليل إقرار الشارع جملة من الأحكام كانت جارية في الجاهلية كالدية والقسامة…

وقد أكد الإمام الشاطبي في “الموافقات” على أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا حيث قال: “والمعتمد أنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه” ( الشاطبي، الموافقات، 2/6.)، فيتضح بذلك أن المقصد الأعظم من الشريعة هو جلب الصلاح ودرء الفساد، وإذا عرفنا أن المصلحة عبارة عن جلب المنفعة ودفع المضرة، أو أنها المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق استقر أن الشريعة تقصد إلى قطع الضرر في كل ما جاءت به من أحكام وذلك بالمنع منه ابتداء بكل طرق الوقاية، والحكم برفعه بعد الوقوع، والنظر في الأثر المترتب عليه جبرا للمضرور ومؤاخذة لمحدث الضرر.

ويظهر –هذا- الذي تقدم بصورة عملية من خلال تقعيد الفقهاء لقاعدة “لا ضرر ولا ضرار” التي يبنون عليها أكثر أبواب الفقه ويحكمونها في مسائله التي تنتظم كل قطاعات الحياة، بل إن فقيها أصوليا كبيرا كتاج الدين السبكي يرى أنه يكفي إرجاع الفقه الإسلامي كله إلى هذه القاعدة. وإذا كانت هذه هي مكانة القاعدة في الفقه الإسلامي فيجب مراعاتها في كل القضايا الاجتهادية التي لم يرد فيها نص، سواء في القضايا المستجدة التي لم تحدث من قبل، أو في محاولة تغيير حكم اجتهادي سابق إذا فرض الواقع المستجد ذلك، أو أصبح ذلك الحكم سببا في الضرر، كما يمكن توظيفها إلى جانب قواعد مقاصدية أخرى في حسم الخلاف الواقع بين الفقهاء في كثير من المسائل والقضايا.

ولعل أبرز تلك القضايا التي يجب أن تراعى فيها القاعدة المذكورة قضية الأسرة بأحكامها المختلفة وخاصة تلك التي لم يرد فيها نص بشأنها، ومن أهم تلك الأحكام أحكام النسب والحضانة لما لهما من ارتباط وثيق بالطفل الذي بصلاحه صلاح المجتمع وبفساده فساده.

أسباب اختيار الموضوع وأهدافه (أمثلة فقط):

تعود أسباب اختيار الموضوع وأهدافه إلى ما يلي:

1- أنه من قضايا الساعة، والقضايا الهامة في كل زمان ومكان.

2- أن النسب والحضانة يعدان أساسا لمستقبل الأسرة من حيث النجاح والفشل في الحياة، ومن حيث أن الطفل -باعتباره عضوا فيها- يمكن أن يصبح نافعا في المجتمع أو ضارا فاشلا غير صالح بصحة نسبه وطبيعة حضانته.

3- إبراز قاعدة ” لا ضرر ولا ضرار” ودورها في تقرير القضايا والحكم عليها بالعدل والإنصاف وما يقتضي ذلك من إزالة الضرر ومنعه.

4- محاولة إبداء الرأي فيما ذهب إليه الفقهاء فيما يخص النسب والحضانة استنادا إلى قاعدة “لا ضرر ولا ضرار”.

5- محاولة إبداء الرأي فيما ذهبت إليه مدونة الأسرة فيما يخص نفس الأحكام واستنادا إلى ذات القاعدة.

البناء النظري للبحث:

اشتمل هذا البحث على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة.

تحدثت في المقدمة عن أسباب اختيار الموضوع وأهدافه مع التعريف بمنهج البحث وخطته.

أما الفصل الأول فقد عرضت فيه دراسة نظرية لقاعدة “لا ضرر ولا ضرار” وذلك من خلال أربعة مباحث، حيث خصصت المبحث الأول لبيان أصل القاعدة وما ينبني عليها من أبواب الفقه، وخصصت المبحث الثاني لبيان المعنى المراد من اللفظين “ضرر” و”ضرار” عند اللغويين وشراح الحديث وعند الأصوليين والفقهاء، كما خصصت المبحث الثالث لذكر أحكام القاعدة وتطبيقاتها، فيما خصصت المبحث الرابع للحديث عن القواعد المتفرعة عنها والمندرجة تحتها.

أما الفصل الثاني فقد تناولت فيه تطبيقات قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” في أحكام النسب، وقد تضمن هذا الفصل تمهيدا وخمسة مباحث: البصمات الوراثية كوسيلة من وسائل إثبات النسب، مسألة نسب ولد الزنا، أسباب ثبوت النسب، ثبوت النسب بالإقرار والبينة، نسب المولود من التلقيح الصناعي.

و أما الفصل الثالث والأخير فقد درست فيه تطبيقات قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” في أحكام الحضانة، وقد تضمن هو الآخر تمهيدا وخمسة مباحث، ثبوت الحضانة للنساء ودليله، ترتيب الحاضنين، طبيعة الحضانة، وهل هي حق أم واجب؟، مدة الحضانة والأجرة عليها، شروط الحضانة وما يتصل بسقوطها.

وقد حاولت في كل هذه الفصول أن أذكر أقوال الفقهاء وما ذهب إليه قانون الأسرة المغربي مطبقا عليهما قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” سواء في حسم خلاف واقع بين الفقهاء، أو عند ترجيح قول أحدهم، أو عند إبداء الرأي في مسألة معينة، أو عند البحث عن حكم جديد مغاير لحكم الفقهاء أو مدونة الأسرة يزيل الضرر ويمنعه.

من نتائج البحث:

1- قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” أصل كلي تنبني عليه أحكام كثيرة في مختلف مناحي الحياة، فهذا الأصل يعصم الإنسان من الإضرار به وإيلامه في دينه أو نفسه أو عقله أو عرضه أو ماله…، وذلك بالمنع من الضرر ابتداء بكل طرق الوقاية، والحكم برفعه بعد الوقوع.

2- يجب الاستفادة من البصمات الوراثية والاستعانة بها في إثبات النسب ونفيه.

3- يجب إلزام الأب بنسب ولده من الزنا إذا اعترف بأبوته أو إذا أثبتت البصمات الوراثية أنه ولده.

4- يثبت نسب الولد بفراش الزوجية إذا ولد لستة أشهر من تاريخ العقد مع إمكان الدخول سواء كان العقد صحيحا أم فاسدا، وهذا نفسه ما ذهبت إليه مدونة الأسرة.

5- إذا أقر الأب بنسب ولد ينسب إليه حتى لو صرح بأنه من زنى صونا وحماية ورفعا للضرر.

6- تثبت الحضانة للأم بالأسبقية عن الأب بالأدلة الشرعية والواقعية.

7- الحضانة حق للمحضون بالأساس ويجب أن تعطى لمن يستحقها ويقوم بها أحسن قيام.

8- مدة الحضانة وسقوطها من المسائل الاجتهادية التي يجب أن يكون مناط الاجتهاد فيها رفع الضرر عن الطفل….

هذا وقد حاولت في هذا العمل أن أبلغ الأفضل والأصلح فإن وفقت فذلك من نعم الله تعالى، وإن قصرت فمن نفسي وتلك فطرة المخلوقين والكمال لله وحده سبحانه.


نشر منذ

في

,

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ سنوسي علي

    السلام عليكم
    فعلا موضوع في المستوى ويستحق صاحبه كل التشجيع والإعتراف بالتفوق ، خاصة أنه عالج موضع في غاية الأهمية فيما يتعلق بقاعدة فقهية ينبني عليها من الأحكام والقواعد الفرعية ما لا يحصى، وتعلقه بقضايا النسب والحضانة ، خاصة أنهما مقصدان شرعيان أمر الشارع بحفظهما ، وقد أماط الباحث اللثام عن علاقة القاعدة الفقهية ” لاضرر ولا ضرار” وما ينتج من آثار تتصل بأحكام الأسرة خاصة الطلاق والعضل وإنكار النسب وإثباته وغير ذلك من القضايا ذات الصلة بالنظرية
    مع كل التقدير للباحث ومزيدا من التألق/ د علي سنوسي / الجزائر

اترك رد