مقدمة:
يقع الكتاب الموسوم “جغرافية الفكر …”[1] في مائتين وأربعين صفحة من القطع المتوسط،وقد صدر في سلسلة كتب عالم المعرفة،التي تصدرها مؤسسة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويتية .
وهو كتاب يبحث في طرق وأنماط التفكير البشري، مع تبئير الاهتمام على المجتمعات الغربية و الآسيوية، ونلحظ هذا في العنوان الفرعي ذي الصيغة الاستفهامية والمثبت على الصفحة الأولى من الغلاف :كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف ولما ذا؟
وقد عمل المؤلف طيلة فصول الكتاب على نقض جملة مسلمات، من مثل أن طبيعة الفكر البشري كلية جمعية ،وليست مختلفة باختلاف البيئات والمجالات التداولية،وتعتبر هذه المسلمة الدعوى بنظر المؤلف أحد تأثيرات المنطق الصوري الأرسطي القائم على مبدأ عدم التناقض في منطق القضايا الذي يتفق بشأنه الجميع شرقا وغربا،إذ لا أحد البتة يقبل بكون قضية ما صادقة وكاذبة في الآن نفسه[2].
ونحن نعي تماما أننا ملزمون ،على الأقل تقنيا ومنهجيا ،بالالتزام بما اتخذناه عنوانا لهذه الورقة ،أي ملزمون بالعرض،إلا أننا قد نحيد عنه بالاستدراك تارة وبالتحليل والتركيب تارات أخرى.ولأجل ذلك قسمنا عرضنا هذا إلى مطلبين اثنين نتناول في الأول منهما بالدرس والتحليل نظرة المؤلف إلى الإغريق/الغرب،وفي ثانيهما نرصد نظرته إلى ثقافة شرق آسيا ونذيل المطلبين بخاتمة نسجل فيها بعض ما خلصنا إليه واستنتجناه بتركيز واقتضاب شديدين.
1- نظرته إلى الإغريق /الغرب:
يبدأ الباحث حديثه عن الفروقات الموجودة بين الذهنية الغربية،ونظيرتها الشرقية بالعودة القهقرى إلى الأسس الفلسفية لكل منهما،فيتحدث عن الإغريق القدامى ورؤيتهم أو رؤاهم على الأصح ، ورؤية الصينيين القدامى للعالم ؛ فالإغريق بنظر المؤلف الذين عرفوا الديموقراطية قبل غيرهم من الشعوب والأمم،استطاعوا أن يحققوا ما ينبزه هو ،أي المؤلف،ب”الفعالية الشخصية”(ص.26)،وهي فعالية تكفل للمرء النظر إلى الأشياء والمواضيع بمعزل عن تكويناتها،كما يقول ” لوسيان غولدمان ”، وسياقاتها وبيئاتها،أي تكفل له القدرة على التجريد.
وما فتئ الباحث يحشد الاستدلالات على زعومه ودعاواه،التي تثبت كل محمود من الصفات للإغريق،وتجرد غيرهم ضمنا أو صراحة منها !! فلكي يقزم الباحث الشرقيين، ويقلل من شأن تفوقهم على نظرائهم الغربيين، والأمريكان منهم خاصة،في العلم والرياضيات، يذهب إلى أن اكتشاف الإغريق/الغربيين الأوائل الطبيعة؛ معناها باعتبارها “الكون مخصوما منه البشر وثقافتهم”(ص.40)،وهو بنظر المؤلف معنى غير مسبوق،كان السبب الذي يسر وقيض للبشرية اكتشاف العلم واكتشافهم للطبيعة كان نتيجة قدرتهم على الفصل بين الذات والموضوع،أي بين الطبيعة الذاتية الباطنية،والطبيعة الخارجية(ص.146).
ثم إن اليونان وإن اختلفوا في طرق ووسائل اختبارهم ونظرهم للطبيعة بين تجريبيين يحتكمون إلى الملاحظة الحسية وبين تجريديين لا يثقون في الحواس،إلا أن الاتجاهين كليهما عنيا بجوهر الأشياء والموضوعات(ص.32)،ويتساوق هذا مع اعتقادهم في سكونية العالم وثباته،فأرسطو اعتبر الأجرام السماوية ثابتة لا تتحرك،وحتى إن حصلت الحركة فجوهر الأشياء هو الثبات وعدم التغير.
ويعزو الباحث تفرد اليونان في نظرتهم القائمة على الاستقلالية وعلى ما سيسميه في الصفحة الثانية والثمانين من الكتاب “فعالية إيرابي”*،مرة إلى نظام دولة المدينة الديموقراطي، الذي يتيح للأفراد قدرا كبيرا من الحرية(ص.48)،ومرة أخرى يرد تفردهم ذاك إلى موقعهم البحري التجاري الذي دفعهم إلى حب الاستطلاع،والفضول المعرفي ،لأنه كان يكفل لهم مشاهدة أقوام وثقافات أخرى مغايرة،ويسوق الباحث في هذا الصدد قولة للقديس لوقا،يقول متحدثاعن الأثينيين :”يقضون وقتهم في رواية جديد،أو الاستماع إلى جديد فقط ولاشئ آخر”(ص.27).
ولا يغفل المؤلف ما للمجال والبيئة الإيكولوجية من وثيق الصلة بطبائع اليونان وأنماط تفكيرهم ،فلأن اليونان تحفل بما سمق من الجبال ،ولأن اليونانيين يمتهنون مهنا لا تستلزم قدرا كبيرا من التعاون مع الآخرين ،كالقنص ،والرعي،وصيد الأسماك،والقرصنة ،والتجارة،ولد ذلك لديهم حسا فرديا استقلاليا امتد في المكان والزمان من اليونان إلى الغربيين المحدثين(ص.50،وص.78،وص.93).
لأجل هذا كله استطاع الغرب، بنظر الباحث،ممثلا في الإغريق قديما، وفي الأمريكان حديثا النظر إلى العالم باعتباره ضميمة من الأسماء والفئات(ص.135)،ولأجل هذا أيضا يتعلم أطفال الغرب الأسماء بوتيرة أسرع من الأفعال(ص.142)،ولأن اللغات الهندوأروبية والإنجليزية واليونانية تنحو إلى جعل الأشياء/المفردات مفهومة بمعزل عن سياقاتها(ص.149).
وقد كان للتجريد الغربي، آثار أخرى طالت ميادين الطب والقانون…إلخ،فالطب الغربي ينزع إلى التحليل المنتهي إلى القول بالدافع الوحيد لا البنيوي ،وينأى عن النظرة الكلية التي ترد الداء إلى أسباب عدة،وفيما يتصل بالقانون يلتجئ الغربيون إلى القضاء الذي ينهض على الجدل والحجاج الموصل إلى الحقيقة(ص.178).
2 – نظرته إلى الآسيويين الشرقيين:
يذهب الباحث إلى أن كلا المجالين التداوليين(الغرب وشرق آسيا)”يتطابقان”بالمعنى البلاغي الأسلوبي للطباق،أي إنهما على طرفي نقيض قديما وحديثا.
وتعتبر الطاوية،والكونفوشية،والبوذية أهم عمد المنظومة الثقافية الصينية .وثلاثتها بنظر المؤلف تقف حجر عثرة أمام التأمل الفكري المجرد،وتلح مقابل ذلك على ما يسميه”التناغم”(ص.34).
ويقصد المؤلف بالتناغم،تلك النظرة الكلية للأمور،أي النظر إلى الشئ مع الوضع في الاعتبار مجمل الصلات والعلاقات المنعقدة بينه وبين مكونات سياقه أو “تكوينه”،وهو ما ينبزه عالما النفس :هيرمان و تكين ب” الاعتمادية على المجال” (ص.58،وص.78)،وهو دال ذو كفاية استيعابية مهمة يظل معها بنظرنا أبعد عن الاعتباطية في علاقته بمدلوله.
هذه الفعالية الجمعية عند سكان شرق آسيا تؤطرها منظومة قيمية أخلاقية تنظم العلاقات المتبادلة بين الرؤساء ومرؤوسيهم،بين الأزواج وزوجاتهم،وبين الأباء وأبنائهم،ولأجل هذا يشعر الفرد الصيني بأنه حقا جزء من كيان اجتماعي حميد سمح كبير الحجم معقد التركيب.
ولأجل هذا أيضا فهم ،أي سكان شرق آسيا،يحرصون على ما يوحدهم،ويصلح ذات بينهم لا على ما يفرقهم،وتضمر عندهم الذات الفرد،وتحل محلها الذات الجماعة،والنجاح بالنسبة إليهم هدف منشود ما دام جماعيا،ثم إن”الخنزير الذي يبعد عن القطيع يشبع ضربا”على حد تعبير المثل الصيني(ص.63)،الذي يتفق دلاليا مع القول الإسلامي المأثور “عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية”،ونحن محقون إن سجلنا هذا التصادي الحاصل بين الثقافة الصينية والإسلامية خاصة إذا علمنا أن الماضي بالنسبة للصينيين موصوف بالكمال والحاضر بالانحطاط والتدني،وأننا ملزمون بالمجاهدة والمكابدة لتحقيق يوطوبيا الماضي الكامل،عكس الغرب الذين يؤمنون بالتقدم الخطي وبأن الكمال واليوطوبيات يتوصل إليها بفضل الكسب البشري وليس البتة بالأقدار أوالتدخلات المفارقة.
وترتد نظرة سكان شرق آسيا ذات الطابع الكلي “التكافلي” العلائقي (ص.90،وص.135،وص.142)إلى الخلفية الفكرية والفلسفية التي تعتمد جملة مبادئ،يستتبع الأخذ بها وتبنيها بشكل شعوري أولاشعوري عدم إغفال العوامل الموقفية والمقامية في النظر إلى أي موضوع،ودونكم بعض هذه المبادئ:
– مبدأ التغير :
يعتقد الآسيويون في أن الواقع متحول ومتغير دائما وبشكل مطرد وليس في حالة ثبات،ويسوق المؤلف مستدلا على هذا المبدأ قصة صينية قديمة ،تحكي عن فلاح عجوز،رفض أن يفد عليه جيرانه لمواساته لما شرد حصانه الوحيد الذي كان عمدته في حله وترحاله،فقال :من منا يعرف أين الخير وأين الشر؟ وبعد أيام قلائل عاد حصانه مصطحبا معه حصانا بريا،وتوافد عليه الجيران ثانية مهنئين هذه المرة متوقعين فرحه بعودة حصانه،فكان أن رفض قائلا العبارة نفسها : من منا يعرف أين الخير وأين الشر ؟ ولم يمض سوى بضعة أيام حتى حاول ابن الفلاح العجوز امتطاء الحصان البري،فأطاح به من على ظهره فانكسرت ساقه، وتوافد عليه الجيران والأصدقاء للمرة الثالثة تعبيرا عن حزنهم لمأساة الابن،فقال العجوز مرة أخرى : من منا يعرف أين الخير وأين الشر؟ ولم يمض بعد الحدث سوى أسابيع محدودة حتى رجال الجيش إلى القرية لتجنيد القادرين من الرجال إجباريا لخوض حرب ضد مقاطعة مجاورة،وطبيعي أن يعفى ابن العجوز لأنه لم يكن قادرا (ص.34).
وتجلو القصة توجه الصينيين في محاولاتهم لفهم الشيء ناحية تعقد المجال والسياق،ولهذا ليس غريبا أن يكون لديهم نوع من الإقرار بمبدأ التأثير عن بعد،قبل أن يصوغه غاليليو بألفي عام (ص.41)،واعتقدوا أيضا أن حركة القمر تؤثر في البحار عن طريق المد والجزر وهي حقيقة لطفت عن غاليليو.
وفي السياق نفسه،أي سياق الاستدلال على إيمان سكان شرق آسيا بمبدأ التغير،يسوق الباحث قولا ورد في كتاب “الآي شنج”عن الصلات المنعقدة بين التعاسة والسعادة،يقول:”(…)التعاسة تناهضها السعادة،والسعادة تتخفى في داخلها التعاسة،من يعرف أين التعاسة أو السعادة ؟ لا يقين هناك،الفضيلة تصبح فجأة رذيلة والخير يغدو فجأة شرا”(ص.35).
– مبدأ التناقض:
يستتبع التغير الدائم والمطرد للعالم،والذي أشرنا إليه أعلاه،ظهور أضداد ومفارقات،فالقديم والجديد،والخير والشر،جميعها موجودة في كل شئ،وفي الآن نفسه،تماما مثل القولة التي يلوكها أبناء المنظومة الثقافية الإسلامية:”ليس هناك خير محض،مثلما ليس هناك شر محض”،أي في الخير قد تجد بعض الشر،وفي الشر قد يثوي بعض الخير! وبناء على هذا المنطق يجب أن يفهم قول كونفوشيوس:”حين يشعر المرء بأنه الأسعد،فإنه سيشعر بالحزن في الوقت نفسه”.
– مبدأ العلاقة أو الكلية:
إذا كان التغير والتضاد واقعان إذن،فلا شئ مستقل ومنعزل عن سواه،بل تنصهر الأجزاء جميعها في “كل” بوتقة يحكمها الترابط والتساوق والتواشج(ص.162،163).
ويضيف الباحث إلى هذه المبادئ الثلاثة عاملا آخر موضوعيا يظل هو الآخر وازنا في النظرة الكلية إلى الأمور،وهو لغات شرق آسيا التي تعتبر بنظره [الباحث] سياقية،إذ تتعدد معاني وحداتها الصوتية الصغيرة[الفونيمات/حروف المباني] قبل المونيمات/الأسماء والمورفيمات بتعدد واختلاف المقامات والأحوال(ص.149).
ولعله من قبيل تحصيل الحاصل،بالنظر إلى ما تقدم ذكره،أن يقرر الباحث اعتماد الفلسفة الصينية على الحس لا التجريد،وتأثيرها في مباحث معرفية أخرى؛ كالنقد الأدبي إذ يتحدث عن “منهج مراقبة نار عبر النهر”ويراد به عزل الأسلوب،و”منهج حشرات اليعسوب تحوم فوق سطح الماء”ويراد به المس الخفيف،و”منهج رسم التنين وتحديد عينيه في نقاط”أي تبيان النقاط المحورية والمهمة(ص.49).
خاتمة :
وبعد يتضح للقارئ العادي لا الحصيف المتمرس،ودون كثير إنعام نظر،أن صاحب الكتاب لم يتوان عن التحيز للإغريق وللغرب،أي لذاته ولثقافته،وضد ثقافة شرق آسيا كلما سنحت له الفرصة،وهو تحيز قد يلطف عن البعض،لأنه مغلف بلبوس علمي مبني على الاستمارات والأبحاث الميدانية،وهنا تبطل بنظرنا دعواه القائلة بقدرة الغرب على التجريد وعلى النظر إلى الأشياء والمواضيع في استقلال عن المحيط.
ونحن واعون تمام الوعي،أن التحيز شئ حتمي وان الموضوعية الصارمة لم تكن يوما مطلبا علميا في العلوم الحقة بله في العلوم الإنسانية،ولكننا نحاكم المؤلف بمنطلقاته ومقدماته.
وبالإضافة إلى هذا التحيز الفج،تنطوي دعاوى المؤلف على كثير من التناقض، وسيتبين تناقضه هذا في الصفحة الثانية والسبعين بعد المائة من الكتاب، فبعد أن اقتنع واقتنعنا معه بأن “الشرق آسيويين”غير منطقيين، وغير قادرين على التجريد، ويقر أنهم يبزون الأمريكان في الرياضيات التي ليست سوى إيغال في المنطق والتجريد، وكي ما يداري يتملص ويقول :إنه لا مشكلة لدى الشرقيين مع المنطق الشكلي بقدر ما لهم مشكلة مع المنطق في حياتهم اليومية !!ثم إن شهرتهم في الرياضيات والعلم حديثة العهد،محاولا بذلك سحب البساط من تحت أقدام الشرقيين!!؟
الهوامش:
[1] جغرافية الفكر: كيف يفكر الغربيون والأسيويون على نحو مختلف … ولماذا؟ ،ريتشارد أي . نيسبت، ترجمة: شوقي جلال، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ذو الحجة 1425/ فبراير2005.
[2] – انظر ص.8،وص.12من مقدمة المترجم، و كذا ص.16من مقدمة المؤلف. وسنحيل بعد هذا على جميع الصفحات المتعلقة بالكتاب الذي نقدمه داخل المتن بين قوسين.
* – إيرابي أسلوب غربي في التفاوض يقوم على حرية تعامل الفرد مع بيئته،وفقا لأغراضه ،ويعني الفردَ في النهاية النتائجُ، ولا يركز على العلاقات المنعقدة بين مكونات المجال،وهذا ما يسميه المؤلف مبدأ الاختيار،ويقابل فعالية “إواسي”وهي أسلوب ياباني يلجأ إلى التوفيق ويرفض فكرة حرية الإنسان في تعامله مع بيئته،وكذا مبدأ الاختيار الحاسم ،،،إما/أو.
* ذ. فضيل ناصري: باحث في الأديان وفي: الحجاج في اللغة والخطاب.
اترك رد