بقلم : د. خالد ناصر الدين *
1 _ استهلال :
الحديث عن المفارقات في المغرب حديث ذو شجون ، ليس فقط لكثرة المفارقات التي جعلت الذاكرة الجماعية تنحت عبارة ” مادمت في المغرب فلا تستغرب ” ، بل لأن الإنسان المغربي ألف المفارقات لدرجة أنها أصبحت جزء لا يتجزأ من كيانه ووجوده ، فأصبحت بناء على ذلك لا تثير انتباهه بله تساؤلاته أو احتجاجاته .
2_ على سبيل التوضيح :
” فارق الشيء مفارقة وفراقا : باينه ، والاسم : الفرقة . وتفارق القوم : فارق بعضهم بعضا . وفارق فلان امرأته مفارقة وفراقا : باينها . “1 ، إن مفهوم المفارقة لغة لا يخرج عن معاني الفراق والمباينة وابتعاد طرف عن طرف آخر ، وانفصاله عنه . أما اصطلاحا فإن المقصود بالمفارقة أساسا : التناقض ، وعدم التشابه . و ” ناقضه في الشيء مناقضة ونقاضا : خالفه.”2 ، فهي توحي بمعاني الانفصام ، والازدواجية ، والتباعد والتناقض بين ما هو كائن وبين ما يجب أن يكون …
3 _ أربع مفارقات على الأقل في مغرب المفارقات :
أ _ المفارقة الأولى : سلف البطولات / خلف الغثائية
عندما تقرأ تاريخ المغرب الأقصى فإنك تقف على حقيقة واضحة لا يكاد يختلف حولها اثنان ، وهي ما سطره الإنسان المغربي على صفحات التاريخ من أمجاد وبطولات ، تجعله إنسان العزة والأنفة والبطولة والفداء بامتياز ، ويكفي أن نذكر في هذا السياق أن كلمة “أمازيغ” تعني ” الرجل الحر” أو “الأبي ذو الأنفة” ، وأن هؤلاء الأمازيغ وقفوا باستماتة وقوة في وجه كل الموجات الاستعمارية التي استهدفتهم ( الفينيقين ، الرومان ، الوندال ) ، كما أنهم واجهوا العرب الفاتحين بشراسة ولم يستقر الإسلام فيهم إلا بعد مواجهة واقتتال شديدين . وعبر مسيرة الدول التي تعاقبت على حكم المغرب ، سجل المغاربة بطولات كان لها أكبر الأثر ، وأعمق الصدى : ( معركة الزلاقة أو معركة سهل الزلاقة وقعت في 23 أكتوبر 1086 م بين جيوش دولة المرابطين متحدة مع جيش المعتمد بن عباد والتي انتصرت على قوات الملك القشتالي ألفونسو السادس. كان للمعركة تأثير كبير في تاريخ الأندلس الإسلامي, إذ أنها أوقفت زحف النصارى المطرد في أراضي ملوك الطوائف الإسلامية وقد أخرت سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس لمدة تزيد عن قرنين ونصف ) ، ( معركة وادي المخازن أو معركة الملوك الثلاثة هي معركة قامت بين المغرب والبرتغال في 30 جمادى الآخرة 986 هـ الموافق ل4 أغسطس 1578م، تطور الأمر من نزاع على السلطة بين أبو عبد الله محمد المتوكل والسلطان أبو مروان عبد الملك إلى حرب مع البرتغال بقيادة الملك سبستيان الذي حاول القيام بحملة صليبية للسيطرة على جميع شواطئ المغرب، وكي لا تعيد الدولة السعدية بمعاونة العثمانيين الكرّة على الأندلس . انتصر المغرب ، وفقدت الإمبراطورية البرتغالية في هذه المعركة سيادتها وملكها وجيشها والعديد من رجال الدولة، ولم يبق من العائلة المالكة إلا شخص واحد . )
إما إذا التفتنا إلى تاريخنا المعاصر فيكفي أن نذكر بأيقونة الجهاد والفداء والكرامة ، المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي شكل جهاده في وجه الاستعمار مدرسة تعلمت منها شعوب العالم المستضعفة ، ولم يكن الخطابي إلا اسما واحدا من قائمة طويلة من أسماء المجاهدين الذين بذلوا الغالي والنفيس نصرة للوطن .
عندما تقرأ هذا التاريخ العظيم ، يعتريك الخجل الشديد ، وتشعر بحجم المفارقة بين السلف الذي تمثل كل معاني الرجولة والبطولة والشهامة والفداء ، وبين الخلف الغثائي الذي استساغ كل أشكال المذلة والهوان ، وقبل كل ألوان التهميش والضياع ، ووقف عاجزا عن الانتفاضة في وجه الظالمين مصاصي الدماء حتى في زمن العواصف المدوية التي أطاحت بعروش الطواغيت الظالمين …
ب _ المفارقة الثانية : المغرب : أجمل بلد في العالم / أعظم ما يتمناه المغربي هو الرحيل والهجرة ولو مغامرة
ولعل ثاني المفارقات المثيرة للانتباه هذه التي تتعلق بالرغبة الجامحة التي تسيطر على كل مغربي في الرحيل والهجرة بعيدا عن هذا البلد الذي غالبا ما ينعت بأنه ” أجمل بلد في العالم ” ، وهو النعت الذي لم ينبع من فراغ للأسف الشديد ، ذلك أن موقعه الجغرافي الاستراتيجي الهائل ، وما يزخر به من مؤهلات طبيعية متنوعة وخلابة ومثيرة ، يجعله يستحق هذا النعت استحقاقا ، غير أن هذا الكلام الذي صنعته وزارة السياحة ، والشركات السياحية أساسا من أجل استمالة السياح الأجانب ، ومن أجل إغرائهم بالتوجه للمغرب ، يخفي في طياته الكثير من الحقائق المرة الصادمة ، فهذا البلد الذي يراهن مدبرو الأمور فيه على نيل رضى الأجانب مهما كلفهم الأمر ، يتحول إلى محضن للألم والاكتئاب ، ومبعث للتشاؤم والنفور ، وفضاء للإقدام المنقطع النظير على الهجرة إلى كل بلدان العالم ، ولو بركوب قوارب الموت في اتجاه المجهول ” فكل نقطة وصول مهما كانت ، أفضل من المكوث في وطن أشبه ما يكون بالجحيم … ولعل ما يثير الانتباه فعلا هو انتشار الجاليات المغربية في كل أنحاء العالم ، وما يثير الانتباه أكثر هو كون هذه الهجرة لا تقتصر على العاطلين من الأميين وأشباه المثقفين ، بل إنها تطال حتى الأطر العليا المتخصصة في المجالات العلمية المختلفة الدقيقة ( الطب _ الهندسة _ الفيزياء _ التكنولوجيا … ) …!! وتحضرني في هذا السياق تلك النكتة التي تذهب إلى أنه بعد بناء القنطرة الفاصلة بين المغرب واسبانيا ، تحقق الحلم الذي يراود كل المغاربة بدون استثناء ، لذلك فقد قاموا بهجرة جماعية فتركوا ” أصحاب الحال ” بمفردهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم بعد فرار كل الرعية .
ج _ المفارقة الثالثة : المغرب : الثروات المتراكمة / الفقر المدقع
صنف المغرب من بين الدول الأكثر فقرا في العالم ، فقد انتقل من المرتبة 128 حسب الدخل الوطني الخام إلى المرتبة 132 من مجموع 208 دولة المصنفة في المراتب الدنيا على مستوى الدخل في العالم . كما احتل المرتبة 124 ضمن لائحة تضم 173 دولة حسب تقرير الأمم المتحدة للتنمية ، فهو حسب نفس التقرير مرتب في الثلث الأخير الذي يضم الدول الأكثر فقرا في العالم .
والغريب في الأمر أن المغرب الذي يحتل هذه المراتب المتأخرة جدا يعتبر من البلدان الزاخرة بالثروات الطبيعية والبشرية الهائلة ( ثروات بحرية ، وبرية ) : غني بشواطئ الممتدة على مسافة أكثر من 3000 كلم ، غني بهرمه السكاني الشاب الذي يفيض حيوية ونشاطا وإقبالا على الحياة ، غني بأراضيه الشاسعة الممتدة الصالحة للزراعة ، غني بمناجمه المصنفة عالميا : منجم الفضة في إميضر ، والفوسفاط … وهو الأمر الذي يثير أكثر من علامة استفهام ، وأكثر من علامة تعجب واستنكار !
مما يعني بالضرورة أن الأمر يتعلق بتفقير لا بفقر ، إن المغرب بلد غني منتشر فيه الفقر. فالدخل الفردي المتوسط قد يصل إلى 1250 دولار أمريكي , إلا أن الفوارق الاجتماعية صارخة و تزداد توسعا. فالهوة تتسع باستمرار بين الفئات الأكثر فقرا و الفئات الأكثر غنى. لقد أصبح 10% من الساكنة يستهلكون أكثر من 15 مرة ما يستهلكه ذوي الدخل الضعيف و المتوسط , و هؤلاء كثيرون , إذ لا مجال للمقارنة بفعل التباعد الذي يقاس بالسنوات الضوئية . هناك ما يناهز 10 ملايين مغربي لا يفوق دخلهم اليومي 20 درهما (دولارين اثنين ) و 15 % من الساكنة تعيش تحت عتبة الفقر, و ما يقارب نصف الساكنة يتموقع دخلهم الشهري في حدود أقل من 600 درهم ( 60 دولار) . و هذا يبين بجلاء الأهمية العددية للفئات المهمشة أو التي في طريقها إلى التهميش المحتوم . و الفوارق في أجور الموظفين قد تتباعد من 1 إلى 100 تقريبا و هذا وضع قل نظيره بالعالم , و هو أمر أضحى غير مقبول في ظل انتشار الفقر, إذ هناك 6 مواطنين من أصل 10 يعيشون في وضع فقر مدقع. في حين أن ميسوري الحال لا يتعدون 20 % بينما يعاني 80 % من السكان من ضعف الراتب والدخل انهيار قدرتهم الشرائية, لاسيما في العالم القروي الذي يضم أكثر من 65 في المائة من فقراء المغرب. إلى حد أن أغلب المغاربة أضحوا لا يفكرون إلا في معضلات الإنفاق على متطلبات الغذاء و السكن, أما باقي الحاجيات الضرورية فلا طاقة لهم لتوفير مصارفها.
د _ المفارقة الرابعة : المغرب : الكذب و التكتم / في زمن الفضائحيات والشبكة العنكبوتية
أما رابع المفارقات فتتمثل في وفاء إعلامنا الرسمي لمبادئه المتمثلة في التكتم عن كل ما عرفه ويعرفه المجتمع من مشاكل وأزمات ، أو في أحسن الأحوال تناولها بطريقة تساعد على نشرها أكثر وأكثر ، وكذا استمراره في الترويج للمغالطات والأكاذيب التي تقشعر لها الأبدان ، وترتعد من هولها الفرائص ، هكذا ما تزال القنوات الوطنية على تعددها وتنوعها تحدث مشاهديها الأعزاء عن الاستقرار والأمن والرخاء ، وما تزال تنقل صور الهتافات الجماهيرية ، وألوان الأفراح المصنوعة ، وأخبار المشاريع التنموية التي تم تدشينها ، والأنشطة الإحسانية التي تكثر خاصة خلال شهر رمضان المعظم … كما أنها ما تزال حريصة على نقل جلسات البرلمان بغرفتيه ، وكذا الأنشطة الوزارية المختلفة ، وتنفرد قناة 2M بحرصها الشديد على الاستمرار في عرض المسلسلات والأفلام المدبلجة بجنسياتها المختلفة : ( المكسيكية ، الكورية ، التركية ، الهندية ) … وفيما يظل إعلامنا غارقا في عالمه الخاص ، يغض المسؤولون الطرف عن طوفان الإعلام العربي وهو يواكب مستجدات ومتغيرات الساحة السياسية ، فينزل الإعلاميون للشارع العام لجس نبضه ، ولتتبع مسارات تحولاته ، وهو ينتشي بروائح الحرية والكرامة والعدالة والديموقراطية التي ضحى من أجلها بالغالي والنفيس … هكذا يبدو المشهد الإعلامي المغربي استثناء غريبا مثيرا لعشرات علامات الاستفهام ، ويبدو القائمون على أمره كالنعامة التي يخفي رأسها وسط الرمال واهمة بأن لا أحد يراها .
4 _ مسك الختام :
من المسؤول عن اغتيال روح البطولة والرجولة والفداء في أجيال الغثاء هاته ؟ من المسؤول عن زرع النفور والرغبة الجامحة في الهروب من بلد جميل بكل المقاييس ؟ من المسؤول عن تفقير الجماهير في بلد زاخر بالخيرات والثروات ؟ من المسؤول عن كل هذا الكذب المفضوح والتكتم المخجل ؟
الأكيد أن الأمر أكثر من مجرد صدفة طارئة ! كما أنه أكثر من مجرد اتفاق عابر !…
الأكيد أيضا أن وراء الأجمة ما وراءها ، وأن ثمة نظاما خبيثا يتفنن في صناعة لوحة قاتمة السواد من مختلف ألوان هذه الأزمات ومن مختلف خطوط ودوائر ومربعات ومكعبات هذه المفارقات المتتاليات المتكاملات المتداخلات المتقاطعات …
فتح نقاش جدي حول المفارقات التي أصبح المغرب مسرحا لها ، يعتبر خطوة أولى في طريق الإصلاح الحقيقي ، نقاش يخرجنا من شرنقة الحوارات الثنائية الصامتة والمخنوقة ، ويجعلنا نضع الأيدي عل مكامن الداء ، سنختلف يقينا في التشخيص ، وفي تحليل الأبعاد وربما الأسباب … سيطول نقاشنا ، وربما اختلافنا … ولكننا سنصل يقينا ذات يوم إلى أرضية مشتركة سننطلق منها جميعا لوضع حد لهذه المفارقات …
الهوامش:
(1) _ ( لسان العرب ) / مادة ” فرق ” .
(2) _ ( لسان العرب ) / مادة ” نقض ” .
* باحث في التصوف والفكر الإسلامي
اترك رد