علوم الإعلام و الاتصال بين النظرية الإسلامية و نظرية الحتمية القيمية
– جهود عبد الرحمان عزي أنموذجا-
تمهيد:
مثل الإعلام قديما و حديثا محورا أساسيا وإستراتيجية ونقطة انعطاف في دنيا الناس من حيث الدراسات والبحوث التي أنجزت من جهة، ومن جهة أخرى من حيث وسائله وتقنياته، وكان لهذين البعدين الأثر الأساس والدور الهام في تطور شبكة العلاقات الإنسانية والتحكم في فنون الاتصال ومهاراته ودراسة الجمهور وقياسه، والإعلان وأشكاله والدعاية وأنواعها… والإخراج وصنوفه والدراما وأثارها والرقميات وتقنياتها. ومن المجالات المهمة والأساسية في الإعلام والاتصال مهمة التأسيس والتنظير والتقعيد، حيث كان الإعلام مسمى يمارس بمعناه الاتصال إلى ظهور الطباعة، التي حولت الإعلام من مسمى وممارسة إلى اسم وفن وعلم وممارسة.
وقد مارسه الإنسان قديما من حيث تفاعله الضروري والفطري مع المعطيات والتحديات والإمكانات وانسجاما مع خصائصه واتجاهاته، وبظهور الطباعة في الغرب وأثرها على تطور تكنولوجيا الاتصال، وفي عصر النهضة الأوروبية التي أسست للعلم ونظرياته وفرضياته ومناهجه، كان للإعلام والاتصال الاهتمام الكبير في عملية التنظير والتأسيس، باعتباره ظاهرة نفسية اجتماعية تمس الجمهور مباشر. فقد رصده الباحثون الغربيون – وفي غياب الرؤية العربية و الإسلامية لاعتبارات واقعية وموضوعية – من حيث تتبع ظواهره وآثاره، فظهرت بعض النظريات الابتدائية في فهم سلوك الجمهور اتجاه وسائل الإعلام، وتطورت بحسب الفرضيات الموضوعة والبيئة والظروف .
ومن خلال هذه التراكمات المعرفية والنظرية ظهرت الكثير من الدراسات في مناهج البحث التي هي عبارة عن: “عملية منظمة لاكتشاف حقائق معلومات حول ظاهرة إعلامية حدثت في الماضي و تحليلها وتقييمها للخروج باستعادته تساعد على فهم الظاهرة وموقعها في السياق التاريخي و أحداثه “1 ، ومن بين هذه الموضوعات الأبحاث في مجال نظريات الاتصال و الإعلام .
و قد كانت الرؤية الإسلامية من هذا الإنتاج تتراوح بين ثلاثة مدارس و اتجاهات:
المدرسة الأولى: وتمثل قبول تام واستهلاك مباشر لهذه النظريات باعتبارها علم لا إيديولوجية له.
المدرسة الثانية: رفض هذه النظريات باعتبارها غربية المصدر والهدف، ومحاولة التنظير لرؤية ونظرية إسلامية أصيلة منطلقة من القرآن و السنة.
المدرسة الثالثة: محاولة أسلمة هذه العلوم المعاصرة و التمييز بين الموضوع وصاحبه ومحاولة غربلتها و تصفيتها من الخلفيات الإيديولوجية و العقدية.
وسنحاول تحليل هذه المدارس و نقدها لاحقا، ومع هذا كانت هناك محاولات جادة ومؤسسة من قبل بعض المفكرين المسلمين، ونشير هنا إلى محاولة الدكتور عبد الرحمان عزي للخروج بنظرية متكاملة و جديدة موسومة بـ: “نظرية الحتمية القيمية “،اعتمد فيها تخريجها المنهج العلمي و الفرضيات الدقيقة والمراحل الصحيحة والتجربة الصادقة – و إن كان قد عرضها على النقد و التقويم – قائلا: “حاولت أن أضع بعض الأسس الأولية عن هذا التنظير و أتوقع أن يقوم الدارسون المهتمون بهذه المساهمة المشاركة بالإثراء والنقد… والحاصل أن هذا التنظير هو مجال يتعايش مع المجالات النظرية الأخرى، وهو لا يستثنيها بقدر ما يناقشها. و قد أسعى لاحقا إلى تطوير بعض أدوات البحث المنبثقة عن هذه النظرية وإن كنت وددت أن يستكمل ذلك الطلبة المتأثرون بهذا التنظير أنفسه.” 2
ولهذا أردت من هذا البحث المتواضع المقاربة المنهجية بين النظرية الإسلامية في الإعلام ونظرية الحتمية القيمية، للخروج من الإشكالات المنهجية والمزالق الموضوعية .
أولا: تاريخ علوم الإعلام و الاتصال:
تمثل أبحاث الإعلام و الاتصال بُعدا مهما و مجالا أساسيا في الدراسات الاجتماعية و الإنسانية، حيت أخذت حيزا معتبرا في التنظير والتأسيس، وتميزت باعتبار ارتباطها الوثيق بتكنولوجيا الاتصال ووسائل الإعلام الحدي. و لهذا عندما يطلق مصطلح الإعلام يقصد به وسائل الإعلام، وذلك من قبيل نعت الكل بالجزء لأهمية الجزء.
وعند الحديث عن الإعلام والاتصال كعلم نظري يمكننا تقسيم تاريخه باعتبار المحاور الأساسية التي تشكل النظرية الإعلامية و علاقتها بوسائل الإعلام. ذلك أن بداية التنظير الأساسي بدأ بظهور وسائل الإعلام ومن ثم النظريات التي تبحث عن تفاعل الجماهير مع وسائل الإعلام. ويمكننا إجمال هذه الأبحاث إلى ثلاثة محاور:
أ- تاريخ و سائل الإعلام :
و هذا المحور تاريخه بحت يتعلق بظهور وسائل الإعلام أو الاتصال الجماهيري، بدء بالطباعة الذي يعتبر ظهورها نقطة انعطاف هامة في تاريخ وسائل الإعلام، حيث تطور معها مصطلح الإعلام بعدما كان المصطلح السائد هو الاتصال العام. حيث برز مفهوم الصحافة المكتوبة و انتشرت الصحف والمجلات بكل أنواعها و أشكالها. ثم ظهرت الإذاعة و التلفزيون كسمة تميز القرن العشرين، الذي امتاز بظهور التكنولوجيا و تطورها وتطبيقاتها في مجال الإعلام السمعي البصري.
وفي أواخر القرن العشرين و بتطور تقنية الرقمية و تحويل المواد ( النص و الصوت و الصورة ) من الوضع الأصلي العادي إلى الوضع الرقمي كان للانترنت التطبيق الواسع للعملية الإعلامية التي امتزت بتنوع في الأداء و التفاعل، فظهرت المواقع والمنتديات والمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي.
ب- المفاهيم و المصطلحات:
ويتعلق هذا المحور بالمصطلحات التي ظهرت أو تطورت مع وسائل الإعلام، حيث أخذت حيزا معرفيا و تعاقب ظهور المصطلحات من خلال المعاجم التي تبحث في المفهوم الإعلامي. منها: الدعاية، العلاقات العامة، الاتصال والفرق بينه و بين الإعلام، الإعلان، الرأي العام وقياسه، الجمهور و اتجاهاته…
ج- بحوث تتعلق بنظريات الاتصال:
واعتقد هذا المحور من المحاور الأساسية في عملية الكتابة الإعلامية و التنظير، باعتبار ظهور النظريات وتطورها و تتبعها من قيل علماء الاجتماع باعتبارها ظاهرة اجتماعية، وقد ظهرت الكثير من النظريات التي تحاول فهم الظاهرة من الناحية النفسية والاجتماعية وتأثيراتها على جميع المستويات وتتنوع هذه النظريات لاعتبارات موضوعية وواقعية، وسبب هذا التنوع الايجابي تنوع أبعاد الظاهرة و تداخلها أحيانا و تأثرها بالمناخ السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي.
“ولما كان الاتصال ينتمي إلى مجموعة العلوم الإنسانية، فان نظرياته كما هو معرف ليست بالحدة أو الصرامة الموجودة في نظريات العلوم البحتة أو الطبيعية شأنه شأن العلوم الإنسانية عموما، وعلى الرغم من كثرة الأبحاث الخاصة بعملية الاتصال، فان هذه الأبحاث -فشلت بصورة أو بأخرى –في بناء النظريات إلي تنظم الجهود البحثية وتحدد الطريق إلى الجهود البحثية المستقبلية، بل هناك اتفاقا بين الباحثين على أن المشكلة الرئيسة في مجال الاتصال الجماهيري تتمثل في نقص النظريات الجيدة” 3
نذكر من هذه النظريات: نظرية الـتأثير والغرس الثقافي والاشباعات والاستخدامات،… ومن خلال هذا التراكم النظري والمعرفي، جاءت نظرية الحتمية القيمية التي أسسها الدكتور عبد الرحمان عزي كمحاولة في إطار إيجاد البديل المعرفي لمنظومتنا الإسلامية، وخلق أرضية معرفية للتعامل مع العلوم وفي هذا الإطار يقول: “قصدت بنظريتنا للاتصال – نون الجمع-،أي النظرية التي تنتمي إلى كتلة ثقافية متميزة. ولا يعني هذا التعبير العودة بثقل إلى التراث، ذلك أن كلمة التراث احتلت مساحة واسعة في الخطاب الثقافي (arabo-islamique)، و تكون ذات الفرد في هذه الثقافة قد تشكلت تراثيا ولو بصفة جزئية في عالم من عوالمه كعالم التقاليد المعايشة” 4. واعتقد أن هذا المدخل الفلسفي يمهد الطريف لفهم نظريته وموقعنا كمسلمين في التعامل والتفاعل مع أبحاث الإعلام والاتصال و خاصة الجانب المتعلق بالنظريات.
ثانيا: تجارب التنظير الإسلامي في مجال الإعلام:
قام الكثير من الباحثين المسلمين بالتنظير والكتابة المتميزة في مجال بحوث الإعلام والاتصال، وتراوحت كتابتهم بين المدارس المذكورة السابقة وتعددت اتجاهات الكتابة بينها، وكل الاتجاهات لا تخلو من نقد علمي على أساس المنهج والموضوع. وفي هذا المجال فمن: “الضروري على الباحث في سعيه تلمس الطريق الذي ينبغي أن يسلكه في تناوله النقدي المقارن لفلسفات الإعلام الوضعية من المنظور الإسلامي أن يعمل على التعرف على المسالك التي اتبعتها الكتابات العربية السابقة في تناولها لهذه الفلسفات الإعلامية كمقدمة ضرورية تساعد على استجلاء السبيل الذي ينبغي أن يسلك في التناول النقدي المقارن لهذه الفلسفات”5.
أ- نقد المدرسة الأولى:
يمكننا نقد هذه المدرسة و إنتاجها من خلال:
– إن التحيز ظاهرة أصيلة ومتجذرة في الكتابات الإنسانية – خاصة الغربية – ، كما قرر ذلك الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه فقه التحيز: “فالتحيز مرتبط ببنية عقل الإنسان ذاتها ، الذي لا يسجل تفاصيل الواقع كالآلة الصماء بأمانة بالغة ودون اختيار أو إبداع …..التحيز لصيق باللغة الإنسانية نفسها ” 6، إي أن الكاتب الغربي متحيز لإيديولوجيته رغم ادعائه بالعقلية العلمية المتحررة.
– إن كل فكرة لها بيئتها و ظروفها و مجال تجربتها، و هذا يخلق نوعا من التفاعل الايجابي مع الواقع، وواقع الناس في اختلاف و تباين لعدة عوامل و تأثيرات داخلية و خارجية.
– إن الإنتاج الغربي الذي تحرر من الكنيسة المتعسفة، يتصرف بعقدة الخوف من القيم الدينية، و هذا الذي سبب الإشكال في التعامل مع الحريات الفردية و الجماعية.
هذا الذي جعل من هذه النظريات مستهلكة ولم تستطيع مواكبة العصر، خاصة بتطور تكنولوجيا الاتصال و ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، التي أسست لرؤية جديدة في التعامل مع الجمهور، و أصبحت هذه النظريات حبيسة البحث التاريخي، و إن كان بعضها صالح للتطبيق بعض النظر عن البيئة – كنظريات التأثير – إن الإنزال المباشر غير الواعي لهذه النظريات دون فهم بيئتها ومنهجها وهدفها سبب الاضطراب في الشخصية الإسلامية والانفصام بين الدين كقيم إنسانية و اجتماعية والعلم كأداة للإدراك والمعرفة.
ب- نقد المدرسة الثانية:
تمثل هذه المدرسة الجهود المخلصة في إيجاد حلول منهجية وتصورات موضوعية للنظرية الإسلامية، وللأسف وقعت هده الجهود في أخطاء منهجية وعيوب موضوعية تتعلق ب:
• سوء التعامل مع النصوص النقلية من القرآن و السنة، وذلك بالإسقاط الخاطئ و التنزيل المشوه لها، و سبب ذلك اعتبارهم المبالغ للقرآن والسنة كمصادر للعلم، وهذا غير صحيح فالقرآن كتاب هداية ليس كتاب علم – و إن تضمنا بعض العلوم و المعارف –
• الخلط بين الواضح بين الاتصال و الإعلام، و الواقع أن بينهما عموم وخصوص، والاتصال اعم من الإعلام، فنجد مثلا دراسات عن الإعلام في القرآن أو الإعلام في عهد الرسول….، والتحقيق العلمي يقرر أن مصطلح الإعلام يدل على مرحلة ما بعد ظهور الطباعة، وما قبله هو إعلام بمفهومه اللغوي العام.
•خلط بين وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الجماهيري: فقد تميزت الكثير من الأمم بوسائل اتصال خاصة بها، كالأمة الإسلامية التي تميزت بالخطب والمشاعر…، و التحقيق العلمي يقرر أن هذه وسائل اتصال وليست وسائل إعلام، باعتبار وسائل الإعلام تتمثل في:
– الصحافة المكتوبة.
– الإذاعة و التلفزيون.
– الصحافة الرقمية.
وفي هذا المجال يلخص عبد الرحمان عزي ما ذكرته بقوله :” ظهر مجال “الإعلام الإسلامي” في بعض الجامعات ذات الطابع الإسلامي، وهو يُعبِّر عن جهد صادق في البحث عن التمايز، إلا أنه يفتقر إلى أدوات الدراسة و التحليل بحكم “عدم معرفة الآخر أو تجاهله أو إقصائه” وتحول مع الزمن إلى خطاب أكثر منه نظرية علمية.
فالعلم في مستواه العقلي لا يحمل جنسية أو عقيدة معينة، وفي هذه العملية هناك تراكم في المعارف الإعلامية بدءًا بظهور الصحافة في القرن 16 بأوروبا مرورا بتطور علم الإعلام في العشرينيات من القرن العشرين بأمريكا إلى سيادة تكنولوجيا الاتصال حديثا. ومن جهة أخرى، فإن البحث عما يميز الإعلام في المنطقة العربية أمر مشروع ومطلوب. والحاصل أن الثنائية التي تحدث عنها بعض الكتاب والباحثين من أن النخبة في المنطقة العربية إما أن تكون تقليدية دون المعاصرة أو حداثية دون الانتماء ماثلة إلى حد ما في الدارسين الإعلاميين عندنا. وقد كان ذلك عاملا في اجتهاداتي للخروج من هذه الدائرة” 7.
ج- نقد المدرسة الثالثة:
وتمثلت هذه المدرسة في الجهود المعاصرة والمعتبرة التي تتبنى إسلامية المعرفة كمنهج في المعرفة والاستفادة من التراث الغربي في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومحاولة مطابقتها بالتصور الإسلامي والتحفظ على الخصوصيات الإيديولوجية والخلقية، فكان هذا الاتجاه ديدن الكثير من الباحثين والمؤسسات و على رأسها المعهد العالمي للفكر الإسلام.
ولهذه الجهود الكثير من الايجابيات والتجليات من خلال الإبداع والإنتاج والتميز، فظهرت الكثير من الدراسات الجادة و أقيمت العديد من الملتقيات والندوات التي تؤسس و تنظر لأسلمة المعرفة، ومع هذا يمكن أن نلخص ملاحظاتنا فيما يلي:
• إن المعرفة واحدة والعلم واحد مهما كان مصدره، فالواجب هنا عرض العلم كما هو دون إضافة كلمة “الإسلامي” إليه، وعند الكتابة في ذلك العلم فمن الواجب الوقوف عند مبادئنا و تصورتنا، واعتقد انه ليس هناك تباينا كبيرا واختلافا مغايرا عن الطرح الغربي والتصور الإسلامي،إلا في بعض النقاط وفي معظمها اجتهادية وليست توقيفية، فنجد ابن خلدون الذي كتب ونظّر لعلم الاجتماع قد عنون مؤلفه ب “علم العمران” دون إي إضافة أو تمييز .وفي مجال علوم الإعلام و الاتصال فمن الواجب هنا الاستفادة من التراكمات المعرفية والنظرية، وأي تقييم أو نقد يكون في مجاله و من خلال الكتابة دون التمييز غير المبرر.
فعند التحفظ على نشر خبر الجريمة – مثلا – كما قررت المجامع الفقهية فيمكن أن ندرج تصورنا، لان الإنسان بطبعه الأصلي يفهم الفطرة و يتفاعل مع القيم.
• اعتقد انه من الواجب الكتابة للإنسانية كلها دون تفريق أو تمييز، لان ذلك ينسجم مع طبيعة الإسلام والقرآن، أما التمييز والتخصيص يتعلق بالأحكام الفقهية التشريعية فقط.
• لا يمكن إبدال نظرية بنظرية، بل من الواجب تغيير نظرية بحقيقة علمية، أما النظريات فهي عبارة عن تراكمات معرفية إنسانية يجب الاستفادة منها والتفاعل معها و تقيمها ونقدها و كل ذلك من خلال الحراك والجدل العلمي المفيد دون عقد وفوبيا وهمية.
•لا يمكن يمكننا القيام بأسلمة علوم الإعلام و الاتصال، وخاصة فيما يتعلق بنظرياته، لان النظريات طبقت وجُربت على جماهير و بيئات مختلفة. فالواجب هنا القيام نظريات جديدة ومتجددة تنسجم مع الجمهور و البيئة الإسلامية.
وفي هذا المجال سئل الدكتور عبد الرحمان عزي : وماذا عن المحاولات الأخرى التي تندرج في إطار ما يسمى “بأسلمة المعرفة”؟ فأجاب:”مرة أخرى، لا يكفي أن تسمي شيئا بهذه التسمية حتى يكون كذلك. فمن المعروف أن العلماء المسلمين الأوائل كابن خلدون وابن سينا والفارابي والغزالي وابن رشد اجتهدوا في سياق الثقافة الإسلامية دون أن يسموا إسهاماتهم بالإسلامية فذلك من تحصيل الحاصل وساهم ذلك في نشر معارفهم شرقا و غربا. أما إضفاء الأسلمة على المعرفة الموجودة فيكون ذلك في نظري من باب الكسل الفكري والخوف من الاندماج في الآخر. وقد اطلعت على بعض الكتابات التي كتبها بعض الدارسين الإعلاميين في منطقة آسيا الجنوبية باللغة الإنجليزية، وهي تبحث عن التمايز وترى أنه يمكن تجاوز الخلل في المعرفة الأكاديمية الغربية بالعودة إلى النص القرآني والتراث عامة، وذلك أشبه ما يكون باتجاه “الإعلام الإسلامي” ما عدا أنه أكثر دقة ويتم باللغة الإنجليزية هذه المرة” 8.
اعتقد أن وجهة الرأي هذه تمثل نقطة انعطاف هامة في التعامل مع العلوم المعاصرة، و هذا الذي يفتح لنا المجال واسعا لتقييم نظريته و بسطها أمام الباحثين لإثرائها كما أراد هو أولا، ثم اعتمادها في التنظير الإسلامي الواعي.
ثالثا: موقع نظرية الحتمية القيمية :
أ- التعريف بصاحب النظرية 9
Prof. Abderrahmane Azzi holds B.A in Journalism from the University of Algiers, Algeria, (1977), M.A. in Journalism (1980) and Ph.D. in Sociology of Mass Comm. (1985) from NTSU (USA). Before that, Dr.Abdderrahmane worked as a reporter for El Chaab daily newspaper in Algiers for 2 years.
Dr. Abderrahmane’s experience in teaching and research extends to more than 27 years. He has taught in many universities, NTSU (USA), University of Algiers (Algeria), IIUM (Malaysia), King Saud University (Saudi Arabia), UAEU (United Arab Emirates) and University of Sharjah (UAE).
Dr. Abderrahmane held many academic positions as Chair of the Scientific Council at the Department of Mass Communication, University of Algiers, Vice-Chancellor for Post-Graduate Studies and Scientific Research at the University of Algiers, Chair of the Department of Mass Communication at IIUM University, Malaysia, and Chair of the Department of MassCommunication, UAEU, United Arab Emirates, and Vice Dean at the College of Communication, University of Sharjah. Prof.
Abderrrahmane taught most communication courses (at both undergraduate and graduate levels in Arabic and English). These include theoretical courses as Introduction to Communication, Communication Theories, Sociology of Mass Communication and practical & technical as Printing Technology, Newspaper Layout & Design and Computer-Assisted Reporting. He has published numerous books as “The World of Communication,” “The Space of Communication,” “Modern Social Though and Communication,” and “Toward a Distinctive Theory of Communication (in Arabic) and Ethical Competence in the Information Age (in English). Dr. Abderrahmane also published more than
40 articles and studies in many academic journals such as El Fikr El Arabi and El Mustaqbal El Arabi,El Bahith El Arabi (England), Dirasat Ilamia, Etajdid and Discourse, Revue Tunisienne de Communication, Revue Algerienne de Communication, Annals de l’Universtity d’Alger, Al Manhal, Journal of Human Sciences, Islamic Studies, Journal of Global Communication, etc. His researchinterests include values and communication, media discourse, media effects and technology. He also
supervised 29 research projects at the undergraduate level and 8 Master theses and participated in many local and international collogues on communication issues.
يعتبر الدكتور عبد الرحمان عزي من المفكرين الذين يمتازون بالدقة العلمية والمنهجية العلمية الصحيحة، استوعب النظريات الإعلامية و لاتصالية الغربية وتتبع واقع الكتابات العربية والإسلامية بكل تمعن وتدقيق، فحاول أن يؤسس لنظرية إعلامية انطلاقا من الفراغات الموجودة في النظريات السابقة واستيعابا للكتابات الإسلامية المعاصرة، ليضع بين أيدينا نظرية متميزة، حيث وضع لها القواعد والمبادئ ورصد الفرضيات وحدد الأهداف، أنها نظرية الحتمية القيمية، وذنبها كما قرر ابن حزم أنها من المغرب الإسلامي !!!
ب- التعريف بالنظرية : 10
إن الناظر والمتمعن في صميم وعمق نظرية الحتمية القيمية في الإعلام المنتسبة للبروفسور عبد الرحمن عزي يجد بأن الجديد في النظرية هو أن العملية التعليمية في حقل علوم الإعلام والاتصال لا تتوقف عند حدود المعرفة العلمية فحسب بل الجانب التربوي في النظرية يبدو واضحا وجليا. فالنظرية لا تقوم بنقل المحتوى العلمي والمعرفي للطلبة وإنما ينبغي أن يشكل الأستاذ المؤطر، الذي يحصل شرف تلقين أو تدريس طلبته مناظير وأبعاد هذه النظرية، أن يكون أداة للقيمة الإعلامية من خلال آرائه وتوجيهاته وسلوكياته أيضا. وتسهم نظرية الحتمية القيمية في الإعلام في تنمية ثقة الدارسين بذاتهم الحضارية وبناء شخصياتهم وأفكارهم وأن يكونوا أكثر قدرة على طرح المبادرات من منطلق ما ينبغي أن يكون وليس من خلال ما هو كائن الذي قد لا يشكل خلفية للنظرية، لأن الواقع متردي وعلى غير ما يرام .
أما فهم واستيعاب تفاصيل النظرية يجر حتما القارئ إلى قضاء بعض الوقت – قد يكون طويلا – في قراءة كتابات البروفسور عبد الرحمن عزي والاحتكاك بأفكاره منذ منتصف الثمانينيات وإلى غاية الآن. وقد اتضح بأن هذه النظرية عبارة عن كتلة متكاملة، أي أنها تقوم على مبدأ ” الكلية ” وليس على مبد أ ” الجزئية ” فهذا المبدأ الأخير قد يساعد على الفهم الجزئي لكتابات صاحب النظرية ولكنه لا يساعد على فهم واستيعاب النظرية كنسق كلي متكامل.
يمكن اعتبار الفصل الأول من هذا الكتاب واجهة عامة للدخول إلى نظرية الحتمية القيمية في الإعلام وذلك من خلال التعريف بالنظرية ومعرفة سياقها التاريخي ( مرحلة تأسيس النظرية، مرحلة الانتشار، مرحلة توليد المفاهيم الجديدة ُثم مرحلة تقديم شخصيات في الفكر القيمي المعاصر(مالك بن نبي، الحسين الورتلاني ، بديع الزمان النورسي والشخصية الصينية صن تسو ).
يتضمن الفصل الثاني مبادئ نظرية الحتمية القيمية في الإعلام من حيث الأسس أو المصادر ( القرآن الكريم والحديث، أي النص القرآني والنبوي ، ونصوص التجديد في التراث : الغزالي وابن القيم الجوزية وابن خلدون الذي يمثل خلفية اجتماعية للنظرية، ومالك بن نبي كخلفية حضارية) .أما الخلفية الغربية لنظرية الحتمية القيمية في الإعلام فتتمثل في أدوات النظريات الفكرية والاجتماعية الغربية المعروفة بتسمية الفكر الاجتماعي المعاصر في القرن العشرين خاصة : الظاهراتية ، التفاعلية الرمزية ، البنيوية والتأويلية النقدية.
يتضمن الفصل الثالث علاقة نظرية الحتمية القيمية في الإعلام بالنظريات الأخرى في علوم الإعلام والاتصال ( المشكلة وغير المشكلة ) : الإعلام الإسلامي ، التنمية والتحديث والمسئولية الاجتماعية ، كما يتضمن هذا الفصل حدود الوصل والفصل بين الحتمية القيمية في الإعلام وأسلمة المعرفة، ونقاط التقارب و /أو التباعد بين النظرية والأطروحات التأصيلية. مع الإشارة أن نظرية الحتمية القيمية في الإعلام قد تلتقي مع كل هذه الأطروحات والنظريات والمقاربات على بعض المستويات المنطقية والواقعية ولكن قد تفترق عنها على مستوى منظورها للقيمة .
ويتضمن الفصل الرابع إسهامات الباحثين الأوائل في تطوير النظرية ودفعها إلى الأمام، فعدد المساهمين في النظرية وصل إلى حد الآن إلى أزيد من عشرين باحث وأستاذ جامعي من عدة أقطار عربية، ويلتقي هؤلاء الأساتذة عند القيمة ( مصدرها الدين ) كمنطلق وكمرجعية ومركز رؤية في دراسة الظاهرة الإعلامية ماضيا وحاضرا، مشكلين بذلك مدرسة جديدة في علوم الإعلام تسعى هذه المدرسة إلى تطوير نظرية الحتمية القيمية البديل الحضاري للمجتمع الذي ننتمي إليه .
ويشير الفصل الخامس إلى النظرية في اللغات الأخرى، حيث بدأت تسجل حضورها في اللغتين الفرنسية والإنجليزية من خلال دراستين اعتمدتا المنهج المقارن بين الحتمية التكنولوجية المنتسبة لـ: ماكلوهان، والحتمية القيمية المنتسبة لـ: عزي عبد الرحمن. وهناك مشروع قادم من أجل تسجيل حضورها بشكل بارز في اللغة الإنجليزية .
وفي الأخير، يدعو صاحب النظرية من خلال سلسلة ” دعوة إلى فهم ” التي دأبت الدار المتوسطية على نشرها إلى فهم هذه المرة نظرية الحتمية القيمية ومحاولة تجلية وجهها المشرق المضيء، وحسبي أنها خطوة على طريق فهم واستيعاب كلي للنظرية .
ج- تقييم النظرية و موقعها المعرفي:
تمثل هذه النظرية استجابة منطقية وواقعية لما يعانيه البحث العلمي في مجال الإعلام والاتصال من انسداد معرفي يمثله مرحلة الفراغ في تطوير النظريات، حيث أصبحنا حبيسين التراكمات المعرفية القديمة وعدم تفاعلها مع التجليات المعاصرة في شتى المجالات. وفي هذا المجال المتجدد يقول الدكتور عبد الرحمان عزي: “إن النهج الذي نسلكه في هذا الطرح غير مألوف في الأبحاث الإعلامية إلا ما ندر، وقد اعتمدنا على منهج تأملي تأويلي انطلاقا من بعض معالم تراثنا على سبيل الاجتهاد لا النقل، فهذا التناول هو بناء نظري أساسا، أما تجلياته فمن الواقع المعيش” 11. حيث أصبحنا ندرس في الكثير من الحالات تاريخ العلوم لا العلوم، وحتى فلسفة العلوم مازلنا عالة على الفلسفات العتيقة.
سبب ذلك يرجع إلى:
• غياب روح المبادرة و التجديد.
• غياب مؤسسات تتبنى المبادرات النادرة، إذ اعتقد أن نظرية صراع الحضارات لم تكن لترى النور ولا لصاحبها أي يشتهر إلا بعد تبني المؤسسات الأمريكية والغربية لهما، و في المقابل نجد كتابات مالك بن نبئ التي تشمل على نظريات نفسية واجتماعية وسياسية وحضارية رائدة حبيسة تفاعلات فردية لا غير.
إلى هذا الحد الفاصل جاءت نظرية الحتمية القيمية لتؤسس لمرحلة جديدة ومشرقة يكون فيها الاتصال حاملا للقيم الثقافية والروحية التي تدفع بالإنسان والمجتمع إلى الارتقاء والسمو وهو ما ينعكس إيجابا على محيط الإنسان المعنوي والمادي سواء على المستوى المحلى أو الدولي” 12.
خاتمة و توصيات:
تمثل هذه الدراسة خطوة في طريق الـتأسيس لمرحلة جديدة في إطار رسم رؤية متجددة في مجال الموقف من العلوم المعاصرة، ومن بينها علوم الإعلام و الاتصال التي أخذت حيزا كبيرا في الكتابات المعاصرة وتطبيقاتها وأبعادها النفسية والاجتماعية و السياسية و الاقتصادية.
وعندما نقوم بهذا العرض لنحدد موقعنا و نرسم معالم انطلاقتنا المعرفية الجديدة ، و لأهمية الإعلام في دنيا الناس و لآثاره على الجمهور و تأثيراته على الرأي العام كان من الواجب كمسلمين أن نتعامل بحكمة أساسها المنهجية العلمية ، من ثم نخلص إلى مايلي:
• يجب أن نتعامل مع بحوث الإعلام و الاتصال الغربية كتراكمات معرفية ظهرت للمبررات موضوعية وواقعية، فيجب التعامل معها كما هي و في إطارها المنهجي، و لا يجوز إخراجها من ذلك الإطار .
• ان عملية تطوير البحوث و تأهيلها لتكون موافقة للتصور الإسلامي تكمن في البحث عن المنطلقات و المبادئ التي تقوم عليها النظرية ،و البحث عن العوامل المشتركة بين الإيد التي تليق بالأمة الإسلامية.
هذه التجربة المعرفية تجعلنا نتجاوز الموقفين الطرفين،الأول يتعلق بالإسقاط غير الواعي للنظريات الغربية و الثاني الرفض غير المبرر ، فكانت هذه النظرية -التي نعتز بها – مخرجا موضوعيا تملأ الفجوة المعرفية التي تعاني منها الدراسات العربية و الإسلامية ، خاصة في مجال علوم الإعلام يولوجيات، ومن بين المشتركات الإنسانية الاتفاق على القيم كأرضية للإنتاج العلمي و المعرفي.
• ومن هنا انطلق الدكتور عبد الرحمان عزي بنظريته القيمية التي يفهما و يدركها الإنسان مهما كانت ديانته و إيديولوجيته ،ليؤسس لمرحلة جديدة في التنظير المعرفي ،و يجد البدائل الحضارية و الاتصال التي تعاني فقرا موضوعيا و عجز منهجي – أقصد الدراسات الإسلامية – .
ومن خلال ما سبق نستطيع أن نرصد التوصيات التالية أملا في التواصل المعرفي وانطلاقا من التراكمات السابقة :
• تثمين هذا الجهد الذي قام به الدكتور عبد الرحمان عزي الذي بسط الله لنظريته القبول ليكون حلقة وصل أساسية في تاري
•توسيع دائرة الاهتمام ببحوث الدعوة الإسلامية التي تحقق الجانب الإسلامي في الإعلام، من خلال رصد نظريات الاتصال في دعوة المرسلين، أو من خلال الإشارات القرآنية للكثير من النظريات التي يجب أن تؤسس عن طريق منهجية علمية متفق عليها. علوم الإعلام و الاتصال.
•تبني هذه النظرية من قبل المؤسسات الرسمية والأكاديمية من خلال توجيه الطلبة لدراستها وتحليلها في بحوثهم.
الهوامش:
[1] البحث الإعلامي مفهومه إجراءاته ومناهجه، د السيد احمد مصطفى عمر مكتبة الفلاح للنشر والتوزيع ط ٢٠٠٢ ص ٢٨.
[2] بوعلي نصير و آخرون ،قراءات في نظرية الحتمية القيمية في الإعلام، حوار مع د سعيد بو معيزة،مكتبة
إقرأ ،قسنطينة،الجزائر،2009،ص 182.
[3] Fred inglis ,media theory,lodon,basil,blackwell,1992,p2.
[4] عبد الرحمان عزي،دراسات في نظرية الاتصال –نحو فكر اعلامي متميز-،مركز دراسات الودحة العربية ،سلسلة كتب المستقبل العربي(28)بيروت،ط1،2003،ص8.
[5] فلسفات الإعلام المعاصرة في ضوء المنظور الإسلامي محمد يوسف السماسيري، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، ص2008،ص80.
[6] إشكالية التحيز -رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد –المعهد العلمي للفكر الإسلامي – سلسلة المنهجيةالإسلامية- ، 1998،ص 5.
[7] بوعلي نصير و آخرون ،قراءات في نظرية الحتمية القيمية في الإعلام، حوار مع د سعيد بومعيزة،مكتبةإقرأ ،قسنطينة،الجزائر،2009،ص 187.
[8] المرجع نفسه ،ص187.
[9] موقع جامعة الشارقة :
http://www.sharjah.ac.ae/English/Academics/Colleges/Communication/Documents/CV-Azzi2011F.pdf
[10] قراءة أولية في كتاب دعوة إلى فهم نظرية أضيف بواسطة تلميذه أد . نصير بوعلي أستاذ الإعلام
موقع البوابة العربية لعلوم الاعلام و الاتصال :http://www.arabmediastudies.net/index.php?option=com_content&task=view&id=435&Itemid=1
[11] دراسات في نظرية الاتصال –نحو فكر إعلامي متميز-،مركز دراسات الوحدة العربية ،سلسلة كتب المستقبل العربي(28)بيروت،ط1،2003،ص123-124.
[12] عبد الرحمان عزي،دراسات في نظريات الاتصال ،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،ط1؟،2003،
ص 144.
اترك رد