نوقشت يوم 8 فبراير 2013 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية أكدال جامعة محمد الخامس – الرباط أطروحة الباحث رشيد يلوح في موضوع (التَّداخل الثقافيِّ العربي الفارسيّ: من القرن الأول إلى العاشر الهجري). وقد تكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة:
عميد الكلية عبد الرحيم بنحادة رئيسا
أحمد شحلان مشرفا
إدريس عبيزة عضوا
حسن المازوني عضوا
وبعد المداولة قررت اللجنة منح الطالب رشيد يلوح شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا.
الملخص:
اخترنا مفهوم (التّداخل الثّقافيّ) ليكون مُرتكزنا المفهوميّ في هذه الأطروحة، لسببين اثنين: الأوّل أنّ لفظة (تداخل) واضحة الدّلالة، وتعني التّشابك والتّفاعل والانتقال بالتّشارك، وثانيًا لأنّ التّحوّلات التّاريخيّة والثّقافيّة الّتي نحن بصددها لاتحتمل عبء مصطلحٍ غير دقيقٍ، فالّذي حدث بين الثّقافتين العربيّة والفارسيّة منذ تَحَقّقِ اتّصالهما، ينضبط بشكلٍ كبيرٍ لمصطلح (التّداخل الثّقافيّ) الّذي يستبعد كلّ سلبيّة أوقهريّة قد تفيد الهيمنة أوالإقصاء.
ويؤكّد المرحوم محمد عابد الجابريّ أنّ (التّداخل الثّقافيّ) “مفهوم محايد، لايحمل أيّ بطانة إيديولوجيّة؛ ذلك لأنّه يعبّر من دون تحيُّزٍ ومن دون الانخراط في أيّ صراعٍ مهما كان، عن واقع تاريخيّ جرى رصده كما هو من دون تمويه ولا تنويه”[1]. ويستحضر الجابري نموذج التّداخل العربيّ الفارسيّ موضّحًا: “..كما لاحظ ابن خلدون بحقّ، فإذا كان الظّاهر هو أنّ المغلوب يقتدي بالغالب، فقد يحدث العكس كما حصل بين العرب والفرس، لقد تغلّب العرب زمن الفتوحات على الفرس عسكريًّا وسياسيًّا، ولكن الفرس لم يقلّدوا العرب حضاريًّا، بل العكس هو الّذي حصل، أي أنّ الغالب هو الّذي قلّد المغلوب..”[2].
إن الدِّراسات المُتوفِّرة حتّى الآن في المجال الثَّقافي العربيّ الفارسيّ لَم تُحقِّق في نَظرنا المُقاربة الشموليّة للعلاقة بين الثقافتين، فَهي لم تبحث في نواظم وآليات التّداخل القائم بينهما، ولم تَرصد تجليّاته وأسئلته، بل اكتفى معظمها بالعمل ضمن دائرة الأدب المقارن، في مواضيع اهتمّت ببعض مظاهر التّأثير والتّأثر بين الأدبين العربيّ والفارسيّ، وتتبّع جماليّاتهما وخصائصها، ونذكر كمثال على تلك الأعمال القَيِّمة: محمد ابن تاويت في أبحاثه ودراساته اللّغوية والأدبيّة المُقارنة بين الأدبين العربي والفارسي، حسين نجيب المصري، خاصّة كتابه (الأسطورة بين الأدب العربي والفارسي والتركي)، وإبراهيم أمين الشورابي في كتابه (حافظ الشيرازي، شاعر الغناء والغزل في إيران)، وبديع محمد جمعة في كتابه (دراسات في الأدب المقارن)، وطه ندا في كتابه (الأدب المقارن)، وعبد النعيم محمد حسنين في (كليلة ودمنة بين العربية والفارسية)، وعبد الوهاب عزام في (الأدب الفارسي والأدب العربي)، إضافة إلى جهود كلٍّ من محمد آذرشب، وعيسى العاكوب، وإبراهيم الدّسوقي شتا، وعبد السّلام كفافي، وغيرهم.
إنّ جهود هؤلاء الدّارسين نجحت بحقٍّ في تأسيس بداية جيدة في الدراسات الأدبيّة العربيّة الفارسيّة المقارنة، لكنّها مازالت في حاجة إلى الاستمرار والتّوسعة وتعميق النّظر، كما أنّها في حاجة إلى نظرية ثقافيّة شاملة وناظمة، تستثمر نتائج تلك الجهود العلميّة، وتُقدِّم تصوُّرًا متكاملاً للعلاقة بين الثّقافتين العربيّة والفارسيّة.
في هذا السِّياق، ومحاولة منّا للمساهمة في هذا المشروع العلميّ المأمول، نقترح هذه الأطروحة تحت عنوان (التَّداخل الثقافيِّ العربي الفارسيّ: من القرن الأول إلى العاشر الهجري)، وهي جهد علميّ متواضع يروم المساعدة في تأسيس مقدِّمة نظرية جامعة بين الثّقافتين العربيّة والفارسيّة، تُمكّننا من استعادة المبادرة الثقافيّة العربيّة الفارسيّة المشاركة والعالميّة، وتجديد النّظر في الرّوابط والمشتركات القائمة بين الطّرفين، مايعني بناء تصوّر جديد للذّات الثّقافيّة العربيّة الفارسيّة التي تمتح وجودها من إبداع ومساهمة العرب والفرس على مدى قرون، وهذا لن يتأتى طبعًا إلاّ إذا حاولنا الدّفع بدراسات أكاديميّة تجتهد من أجل امتلاك مقدّماتها العلميّة، وأدواتها التّصوّرية، ومفاتيحها المفاهيميّة الخاصّة بها، بعيدًا عن التّلفيقات النّظرية والإسقاطات المنهجية التي قد تضرّ بالعَمل.
إنَّ هذا الهدف فرض علينا تأمّل ومراجعة كمٍّ كبير من نصوص التّراث العربيّ الفارسيّ المتقاطع زمنيًّا وجغرافيًّا ومضمونيًّا، ثمّ البحث بين ثناياه عن العناصر التّداخليّة الكامنة، ثمّ استخلاص نتائج تحاول تفسير حقيقة التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ، وقد تطلّب هذا المسلك الاستعانة بمناهج تاريخ الفكر والنّقد الثّقافيّ والأنثروبولوجيا الثّقافيّة، ومناهج الاستقراء والتّحليل والمقارنة، دون الاعتماد كليًّا على واحد منها، خاصّة أنَّ طبيعة موضوع البحث والدِّراسة تحتاج إلى بذل جهد مضاعف في رصد النّماذج الثّقافيَّة، دون التّورط في تتبُّع تشعّباتها، والغوص في تفاصيلها.
إنّ الحدود الزّمنيّة التي اختارنا الاشتغال ضمنها تمتدّ لعشرة قرون، وهي بلاشكٍّ شاسعة للغاية، والّذي دفعنا إلى هذا الاختيار هو الرّغبة في رصد المآلات الحضاريّة الكبرى لمسار التّداخل الثّقافيّ بين العرب والفرس، ذلك أنّه مسار متغيِّر شهد صعودًا وهبوطًا، ولم يبق طوال صيرورته على حال واحد، ورأينا أنَّ تتبّع مسافة عشرة قرونٍ كفيل بإعطاء أجوبة مقنعة عن هذا التَّداخل الّذي كان وراء ولادة حضارة إنسانيّة، هي الحضارة العربيَّة الإسلاميّة، والّتي كان لها دور أساسيّ في التحوُّلات الّتي عرفتها البشريّة في الغرب، ذلك أنّ وسعة المجال الجغرافيّ الّذي احتضن التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ قد سمحت بانتقال نتائجه وتلاقح عناصره مع الثّقافات الإنسانيّة الأخرى، خاصّة الهنديّة واليونانيّة، وهو ما فَرض علينا أيضًا الاعتناء بالمعطى الجغرافيّ، وإعطاءه الأهمّية اللاّزمة، وملاحظة تأثيره في عمليّات التّداخل بين الطرفين.
وانسجامًا مع الأهداف الموَضّحة آنفا؛ نعرض هنا لمجموعة من الفرضيّات المُؤَسِّسة، وهي كما يلي:
– كان التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ شاملاً ومولّدًا لأشكال ومجالات معرفيّة متعدّدة.
– لم يكن التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ مجرّد حدث تاريخيّ يتحرّك أفقيًّا من نقطة إلى أخرى، بقدرما كان حدثًا إنسانيّا فريدًا قام على عدد من القضايا الثّقافيّة والمعرفيّة المتشابكة.
– أخذت المعطيات الثّقافيّة الفارسيّة الّتي دخلت إلى المجال الثّقافيّ العربيّ هوية جديدة وأبعادًا مفارقةً.
– تميّز التّداخل العربيّ الفارسيّ بالقبول والتّلقائيّة، ولم يعرف الممارسات التّحميليّة الجائرة في عمومه.
– تميّزت أدوار العقل الفارسيّ داخل الثّقافة الإسلاميّة بخصائص مؤثّرة، خاصّة في نشأة المدارس الفكريّة والفلسفيّة الإسلاميّة.
– أنتج التّداخل العربيّ الفارسيّ حضارةً إنسانيّةً كان لها الّور الأهمّ في التّحوّلات الّتي عرفتها البشريّة في الغرب مع النّهضة الإنسيّة خلال القرنين 15 و16 الميلاديّين.
وإثباتًا لهذه الفرضيَّات، ستُناقش محاور عَملنا مجموعةً من الإشكاليَّات الجُزئيّة والرّئيسة المرتبطة بالتّداخل العربيّ الفارسيّ، وأعرضها كما يلي:
– قام التّداخل الثّقافيّ بين العرب والفرس داخل مجموعة من المجالات، تغيّرت بتغيّر الظّروف المكانيّة والزمانيّة، ماهي هذه المجالات؟ وماهي ظروف وعناصر تغيّرها؟
-ماهي مظاهر وأبعاد التّداخل الثّقافيّ العربي الفارسي؟
– هل كان التّداخل الثقافيّ بين العرب والفرس حدثًا تاريخيّا فقط ؟ أم أنّه صيرورة إنسانية منتظمة بنواظم محدّدة ضبطت حركته وتفاعله؟
– كيف ينظر المعاصرون من أبناء الثّقافتين إلى ماضيهم الثّقافيّ؟ وكيف يُقيّمون نتائج تلك الصّيرورة؟
– ماطبيعة المساهمات العربيّة والفارسيّة في صيرورة التّداخل الثقافي؟ وكيف كانت تلك المساهمات؟ وماذا أضافت إلى هذه الصّيرورة؟
– هل نجحت المحاولات الثّقافيّة الّتي قامت في الفضاءين العربيّ والفارسيّ للمطالبة بفكّ الارتباط بين الثّقافتين ؟ ماهي أسباب نجاحها أو فشلها؟
– هل نجح التّداخل الثّقافي العربيّ الفارسيّ في نقل كلا الثّقافتين إلى طور الحضارة؟
– ماذا أضاف التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ إلى الثّقافة الإنسانيّة بشكل عام؟
كانت هذه الأسئلة في مقدّمة المفاتيح الّتي عالجنا بها موضوع هذه الأطروحة، وذلك من خلال ثلاثة فصول رئيسة: في الفصل الأول بسطنا مدخلاً نظريًّا تاريخيًّا عبر مبحثين رئيسين، عرضنا في المبحث الأوّل لعلاقة الثّقافة بالتّاريخ، والحاجة الإنسانيّة إليها، ثم تناولنا مفهوم (التّداخل الثّقافي) في بعده الحضاريّ، وكيف قاربته جهود الأنثروبولوجيّة الثّقافيّة.
وفي المبحث الثّاني وقفنا على الإطار التّاريخيّ العامّ الّذي حكم العلاقات العربيّة الفارسيّة قبل الإسلام وفي فجر الدّعوة النّبوية، وحاولنا رصد لحظة التّحوّل في العلاقة الجديدة الّتي بدأت تنسج خيوطها بين الضِّفتين العربيّة والفارسيّة.
واشتمل الفصل الثّاني بدوره على مبحثين محوريين، المبحث الأوّل كان بسطا مفصّلا لمقدمة نظريّة في فهم آليات التّداخل العربيّ الفارسيّ، وهي الّتي اصطلحنا عليها ب”النّواظم الثّلاثة”. ثمّ المبحث الثّاني الّذي خصّصناه لعرض أهمّ قضايا وأسئلة النّقاش الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ، من خلال ثلاثة أسماء هي محمد عابد الجابري وعبد الحسين زرين كوب ومرتضى مطهري.
أما الفصل الثّالث والأخير من هذه الأطروحة، فقد اهتّم بالجانب التّطبيقي، وذلك عبر ثلاثة مباحث، خصّصنا المبحث الأول منها لعرض وتحليل بعض النّماذج الثّقافيّة التّداخليّة تنتمي إلى المرحلة المُمتدّة بين القرنين الأوّل والخامس الهجرييّن، بينما تناول المبحث الثّاني المرحلة الثّانية المُمتدّة بين القرنين السّادس والعاشر الهجريّين، بينما اهتم المبحث الثّالث برصد أهمّ مؤشّرات التّحول والتّأثير الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ في الثّقافة الأوروبيّة النّاهضة.
وقد حاولنا في نهاية كلّ محورٍ ومبحثٍ من هذه الأطروحة أن نُسجِّل نتائجنا الجزئيَّة والكليّة، وهي الّتي حشدناها مُندمجة في الختام تحت عنوان: “خلاصات واستنتاجات”، نعرض هنا أهمّ عناصرها كما يلي:
1- لن نستطيع الجزم بكون العلاقات العربيّة الفارسيّة قبل الإسلام قد كانت دائمًا علاقة بين طرفين متكافئين، فقد رأينا أنّ العرب قد عاشوا لقرون قبل ظهور الدّين الجديد في وضعية التّابع الخادم لمصالح الإمبراطوريّة الفارسيّة، ممّا رسّخ في أذهان الفرس تلك النّظرة الدّونية إلى العرب، ورغم ذلك لاحظنا أنّ بعض ملوك فارس كانوا يُقدّرون ملكة الشّعر عند العرب، ويعتبرونها عامل قوّة وتميُّز في حياتهم الصّحراويّة، وبناءًا عليه نعتقد أنَّ العلاقات الثّقافيّة العربيّة الفارسيّة قبل الإسلام لم تحقّق كفايتها التّبادليّة، إذ لم تنضج تلك العلاقات ولم تكن مؤهّلة لبلورة تداخل ثقافيّ عميق، لكنّنا لا ننكر وجود مؤثّرات أوجدت تفاعلاً شكّل الأرضيّة الخصبة لاكتمال الشّروط التّاريخيّة في ما بعد لانطلاق صيرورة التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ.
2- يُمثّل الإسلام المُحفّز الأكثر تأثيرًا في التّداخل العربيّ الفارسيّ، وهو الّذي ميّز بوضوح بين ما قبله وما بعده في مسار العلاقات الثّقافيّة العربيّة الفارسيّة، بحيث يستطيع الجميع أن يُلاحظ حضور عامل مركزيّ جديد في حركة التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ، نَقَل المُجتمعين العربيّ والفارسيّ نقلة نوعيّة إلى مسرح التّفاعل العالميّ.
إنّ نزول أوّل آية قرآنيّة تأمر النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام بالقراءة أعطى للهوية الثّقافيّة الإسلاميّة المتشكّلة سمة الوعي المبدع والمتطلّع للآفاق، وهو ما أسّس العلاقة بين الدّين الجديد والثّقافة منذ الوهلة الأولى على محور الإنسان، فالإنسان هو منطلق هذه العلاقة ومدبّرها والمستفيد الأوّل من مكتسباتها، كما لم يترك الإسلام العلاقة بين الدّين والثّقافة ساكنة أو محكومة بتلقّي الثّانية من الأوّل، بل ميّزها بعنصر الإبداع، يقول سبحانه وتعالى: (وقُل اعمَلوا فَسيرى الله عمَلكم ورَسُوله والمُؤمِنون)، فالإنسان مطالب بالإبداع والبحث وطرح الأسئلة، وقد مثّلت فترة الرّسالة النّبويّة الّتي امتدّت لثلاث وعشرين سنة، مرحلة نضج واكتمال المنهج النّبويّ في معالجة الحياة الإنسانيّة. إنّ هذا الفهم الجديد للجهد الثّقافيّ الإنسانيّ الّذي يربط الإنسان والكون بالخالق تعالى، هو الّذي أعطى للعرب قابليّة كبيرة للانفتاح على الشّعوب الأخرى، وتقبّل عناصرها الثّقافيّة والتّداخل معها، تفاعلاً وتبادلاً على قاعدة المشترك الإنسانيّ.
3- قادتنا قراءاتنا المتعدّدة والمتنوّعة في نصوص التّراثين العربيّ والفارسيّ إلى استشعار روح واحدة تسري في جسديهما، وبعد تتبّع وتفحّص وجدنا أنّ عموم مسار التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ بعد الإسلام كان محكومًا بثلاثة نواظم رئيسة نَظَمَت فاعليته وَوجّهت صيرورته، وعمّقت تأثيره في كلا الفضاءين العربيّ والفارسيّ، وهي على التّوالي: النّاظم الدّينيّ، النّاظم الجغرافيّ، النّاظم الزّمنيّ.
لقد كان للنّاظم الدّيني دور بالغ الأهميّة في تهيئة المناخ العامّ لقيام وتوجيه تداخل ثقافيّ بين العرب والفرس، إذ اقتنع الفرس بكون رسالة الإسلام الكبرى هي تحريرهم من أغلال الأكاسرة وأثقال الطّبقيّة وتقاليد العبوديّة.
وكان هذا النّاظم منطلق عملية التّداخل عندما رَتّب نظرة الطّرفين العربيّ والفارسيّ إلى الوجود، وإلى بعضهما البعض، وعلَّم كلّ طرف كيف يتخلّص من العوائق الأرضيّة والنّفسيّة، ويعقّد تبادلات ثقافيّة بعيدًا عن الحسابات الضيّقة. وقد مثّل هذا النّاظم صمام الأمان للصّيرورة العربيّة الفارسيّة التّداخليّة، خاصّة في القرون اللاّحقة عندما تعرّضت العلاقات بين الضّفتين لأزمات وهزات عنيفة.
وقصدنا بالنّاظم الجغرافيّ تلك المدن ومراكز التّماس والتّواصل المكانية الّتي احتضنت التّفاعلات التّداخليّة العربيّة الفارسيّة طيلة عشرة قرون كاملة، وقد برزت أهمّية هذا النّاظم منذ المرحلة السّابقة لظهور الإسلام، بينما نضجت أدوار المحاور الجغرافيّة التّداخليّة بعد الإسلام، حيث تعدّدت وتنوّعت مُلتقيات العرب والفرس، وأصبحت مناطق الرّيّ وخراسان وقزوين وفارس ومراغة ومرو، مفتوحة أمام العرب يتنقّلون فيها ويلتقون مع الفرس، تمامًا كما كانت العراق والجزيرة العربيّة واليمن والشّام وفلسطين مشرّعة الأبواب أمام أبناء بلاد فارس، وهكذا نقل الإسلام العنصرين العربيّ والفارسيّ من حالة التّقابل إلى حالة الاندماج والتّداخل، وقد تبيّن لنا بوضوح كيف كان للجغرافيا الأثر البالغ في التّحولات الثّقافيّة الكبرى الّتي ساهم في بلورتها كلا الفاعلين: العرب والفرس.
ولابدّ أن نشير هنا إلى التّحوّل الّذي أحدثه الإسلام في فلسفة المكان، إذ أصبح لهذا الأخير سلطة روحيّة، ورمزيّة معنويّة بالغة الحساسيّة، حيث مزج الدّين الجديد بين المكان والغيب، فربط قدسيّة الأرض بالأبديّة المطلقة، وتُشكِّل مشاعر الحجِّ في هذا السيّاق مثالاً جيِّدًا؛ لذلك نعتقد أنّ الجغرافيا لم تكن بأيّ حال من الأحوال عاملاً محايدًا في تاريخ التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ.
أمّا النّاظم الزّمنيّ فيمتح أهمّيته من كونه الوعاء التّاريخيّ الحيّ للصّيرورة التّداخليّة، إذ ليست هناك فاعلية إنسانيّة تحدث خارج الزّمن، وبناءً عليه لاحظنا أنّ الإسلام أعطى لحياة العرب وثقافتهم معانٍ زمنيّة جديدة، نقلتهم من حالة العبث والتّيه، إلى الرساليّة والقصديّة، وقد كان لهذا المفهوم الجديد للزّمن بالغ الأثر على العمليّة التّداخليّة العربيّة الفارسيّة، حيث ارتبط العمل عند النّاس بالوقت، وارتبط كلا الطّرفين (العمل-الوقت) بالمسؤوليّة؛ ممّا أعطى للجهود التّداخليّة قوّة حركيّة، وأشبع المنتج الثّقافيّ بروح الزّمن.
إنّ ماقيل عن التّحوّل الّذي أحدثه الإسلام على مستوى المكان، ينطبق أيضًا على الزّمن، ذلك أنّ الدّين ربط بين الزّمن والغيب بشكل وثيق. إنّ هذا الفهم الجديد للزّمن ساعد المسلمين على إنتاج ثقافتهم من داخل الزّمن.
وجدنا أنّ النّاظم الزّمنيّ يُمكّننا بسهولة من تقطيع الصّيرورة التّداخليّة إلى مراحل متعدّدة تساعدنا على فهم ما حدث وكيف حدث، ولعل من أيسر تلك التّقطيعات، ذلك الّذي يضعنا أمام ثلاث مراحل أساسيّة هي: مرحلة ما قبل الإسلام، ومرحلة النّبوّة والعصر الرّاشديّ، ثمّ مرحلة عصور الأمويّين والعباسيّين وبداية العثمانيّين.
وقد تميّز النّاظم الزّمنيّ بثلاث خاصيات هامّة هي: خاصّية الصّيرورة، وخاصّية الإبداع، وخاصّية الأنسنة.
لقد أثبتنا في الشّقّ التّطبيقيّ التّحليليّ من هذه الأطروحة أنّ أنشطة وتفاصيل عملية التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ كانت محكومة بقوّة النّواظم الثّلاثة: الدّينيّ والجغرافيّ والزّمنيّ، حيث وجدنا أنّ تلك الأنشطة تكون في الغالب تحت تأثير النّواظم الثّلاثة معًا، أو ناظمين على الأقل، وكمثال على ذلك نذكر الدّور الحاسم والمبدع لأبناء بلاد فارس في خدمة الثّقافة العربيّة الإسلاميّة وعلومها، وهي الخدمة الّتي أعطت للتّداخل بين الطّرفين بعد الوعي بالذّات والعالم، وقد كان الحافز النّاظم لهذا الموقف الفارسيّ هو النّاظم الدّينيّ، ذلك أنّهم رأوا في تأسيس علوم اللّغة العربيّة عملاً دينيًّا يخدمون به لغة القرآن، في حين تأخّر اهتمام النّخب الفارسيّة بلغتهم أربعة قرون، كانت وعاءً زمنيًّا كافيًا احتضن تفاعلات ثقافيّة معقّدة أنتجت في النّهاية لغة فارسيّة جديدة، أطلقنا عليها اللّغة الفارسيّة التّداخليّة. نلاحظ هنا بجلاء أهمّية النّاظم الزّمنيّ في تفعيل جانب هامّ من التّداخل الثّقافيّ بين العرب والفرس.
ونضيف إلى ما سبق نموذج ابن بطوطة التّداخليّ الّذي جمعت تجربته الثّقافيّة التّداخليّة بين النّواظم الثّلاثة: الدّينيّ والجغرافيّ والزّمنيّ، وهي الّتي تعرضها رحلته بتفصيل جميل، فإذا كان الحجّ إلى بيت الله الحرام هو المحفّز الأكبر لحركة الرّجل التّداخليّة، فإنّ المحور الجغرافيّ الرّابط بين فاس ودمشق ومكّة وبغداد وشيراز وأصفهان كان وعاؤها الجغرافيّ، أمّا النّاظم الزّمنيّ فيمثّل هنا بدوره الحاضن الضّروريّ للتّفاعل مع الطّرف الفارسيّ سواء في موسم الحجّ، أو في ربوع بلاد فارس. ونعتقد أنّ تجربة ابن بطّوطة ستكون مفيدة في تأمّل التّكامل بين عمل النّواظم الثّلاثة في إغناء مسار التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ.
4- بعد أن بسطنا مدخلنا النّظريّ بخصوص التّداخل العربيّ الفارسيّ بشكل كامل، حاولنا أن نلقي نظرة مختصرة على النّقاش العربيّ الفارسيّ المعاصر الّذي أحاط بقضايا هذه الصّيرورة التّاريخيّة الحضاريّة، فاختارنا ثلاثة أسماء كان لها تأثير بارز في هذا النّقاش، وهم: المفكّر العربيّ محمّد عابد الجابريّ، والمفكّران الإيرانيّان عبد الحسين زرين كوب، ومرتضى مطهّري، وبعد استعراضنا لأفكارهم ومواقفهم، وجدنا أنّ كلا من الجابريّ وزرين كوب دافع عن موقف سلبيّ من التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ، في حين حاول مطهّري أن يكون وسطيًّا في موقفه.
نستنتج في النّهاية أنّ موقف المثقّف المعاصر سواءً في الضّفّة العربيّة أو الفارسيّة من التّداخل العربيّ الفارسيّ، لم يستطع بعد التّحرّر من سلطة الأسطورة التّاريخيّة ومن إكراه الإيديولوجيا، كما لم يستطع الطّرفان إلى اليوم بلورة موقف علميّ موضوعيّ يقيم علاقتهما ببعضهما البعض، خاصّة بعد الشّرخ الّذي تعرّضت له هذه العلاقة بعد عصر الخلفاء الرّاشدين في القرن الأوّل الهجريّ، وبعد دخول الاستعمار الغربيّ على الخطّ في نهاية القرن التّاسع عشر وبداية العشرين.
5- كشفت دراستنا التّحليليّة والمقارنة لنتائج التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ طوال القرون العشرة، أنّ هذه النّتائج لم تكن دائمًا على مستوى واحد من الأهمّية والتّأثير والإبداعيّة، بل كانت تختلف عن بعضها البعض بحسب المقاطع التّاريخيّة، والمجال الثّقافيّ المعرفيّ الّذي برزت فيه، والفاعلين الثّقافيّين والعلميّين الّذين كانوا وراء إنتاجها.
فإذا اتّسمت المرحلة الأولى (بين القرنين الأوّل والخامس) بالعطاء الإبداعيّ والتّداخل الكامل بين الطّرفين، إضافة إلى الجدل والصّراع الدّاخليّ حول القيادة الثّقافية، فإنّ المرحلة الثّانية (بين القرنين السّادس والعاشر) كانت سمتها الأساسيّة هي الاتجاه نحو الضّعف والجمود في المسار التّداخليّ، لكن ينبغي التّأكيد على أنّ هذا التّوصيف ليس شاملاً ونهائيًّا؛ لوجود استثناءات حاضرة في كلا المرحلتين لا تندرج تحته، والسّبب برأينا أنّ التّداخل الثّقافيّ هو بالدّرجة الأولى عمليّة إنسانيّة معقّدة يصعب الإمساك بكلّ أطرافها وتتبّع كلّ خيوطها، وتعميم الأحكام بشأنها.
لقد بدأت الأنشطة التّداخليّة بسيطة من ناحية الشّكل والكمّ في بداية القرن الأوّل الهجريّ؛ لتتطوّر في ما بعد وتتركّز من خلال عطاء العلماء الفرس للعناصر العربيّة، وأقصد هنا علوم اللّغة العربيّة وآدابها، ثمّ تأخذ منحى مضطربًا بين القوّة والضّعف في مرحلة ضعف الخلافة العبّاسيّة إلى سقوطها في القرن السّابع الهجريّ، حيث ظلّت في هذه الفترة مساهمات العلماء الفرس والعرب متواصلة بلا توقّف، إلى أن أفرزت نتائج جديدة في النّصف الثّاني من المرحلة الثّانية، أهمّها الخطّ الفارسيّ الجديد (التّعليق) في القرن السّابع الهجريّ، والّذي استُخلص من الخطوط العربيّة المعروفة (النّسخ) و(التّثليث) و(الرّقاع)، وخطّ (النّستعليق) في القرن التّاسع، وكان عبارة عن مزج بين الخطّ العربيّ (النّسخ) والفارسيّ (التّعليق)، والّذي أصبح في ما بعد رمزًا بصريًّا للهوية الثّقافيّة والفنّيّة الفارسيّة الإسلاميّة.
6- إنّ دراسة وتحليل مظاهر وتجليات التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ أثبتت أنّ هذا التّداخل كان عملية واعية ومدركة، لقد ميّز معظم الفاعلين الفرس والعرب في هذا المسار بين انتمائهم لمشروع ثقافيّ تداخليّ عالميّ، وانتمائهم للخصوصيّة المحلّية، وأظهرت الكثير من النّصوص نجاح هؤلاء في تفادي الاصطدام بين الخاصّيتين الذّاتيّة المحليّة والعالميّة التّداخليّة، بل أبدعوا أيّما إبداع في استثمار قوة الأولى لأجل إغناء الثّانية.
وقد لاحظنا أيضًا أنّه كلّما تحرّر المنتج التّداخليّ العربيّ الفارسيّ من قيد التّعصُّب للخصوصيّة الذّاتيّة، كلّما عبّر بصدق عن المشترك التّداخليّ، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ كلّ المحاولات الثّقافيّة العربيّة أو الفارسيّة الّتي برزت خلال العشرة قرون بهدف فكّ الارتباط والاستقلال الذّاتيّ قد باءت بالفشل، وظلّ مفعولها ضعيفا أمام الدّفق التّداخليّ.
7- لقد نجح كيمياء التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ في بناء حضارة عرفت في التّاريخ الإنسانيّ بالحضارة العربيّة الإسلاميّة، ولم يُميِّز الغرب في استفادته من كسب هذه الحضارة بين ما هو عربيّ وما هو فارسيّ، بل كان يرى كلا الطرفين فاعلاً واحدًا، وعلى هذا الأساس نعتبر الحضارة العربيّة الإسلاميّة شريكة في كلّ ما تعرفه الحضارة البشريّة اليوم من كسب معرفيّ وتمدنيّ، بل نستطيع أن نشاهد اليوم إشارات النّتاج التّداخليّ العربيّ الفارسيّ حاضرة في ما يفتخر به العالم كمحصول حضاريّ غير مسبوق من قبل.
8- لايُبرز التّاريخ العربيّ الإسلاميّ الشّخصيّة الفارسيّة إلاّ في أدوارها السّلبيّة الهدّامة، بينما لا يذكر كثيرًا هذه الشّخصيّة عندما تكون مساهماتها إيجابيّة في البناء المعرفيّ والعلميّ، وهو ما رسّخ في العقل العربيّ الصّورة السّلبيّة للفرس وأثرهم في الثّقافة الإسلاميّة. وتُشكّل هذه النّظرة السلبيّة إحدى الدّلائل التي يسوقها الخطاب القومي الفارسي المتطرِّف اليوم، ليؤكِّد تحيُّز الخطاب التّاريخيّ العربيّ وعنصريّته وعقوقه للمرجعيّة الإسلاميّة، ونكرانه لخدمات الفرس وفضلهم على الحضارة العربيّة الإسلاميّة.
9- تعرّض مسار التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ طوال القرون الأربعة الماضيّة لضربات قاسيّة، وكان التّعصّب الطّائفي والإيديولوجيّ من أهمّ الوسائل التي استخدمت في تقويض هذا المسار، ويعتبر وصول الصّفويّين إلى سدّة الحكم في بلاد فارس، لحظة حاسمة في هذا السيّاق، حيث –ولأول مرة في تاريخ فارس الإسلامي- يتحالف الاستبداد والتعصّب العرقيّ والطّائفيّ، لتبدأ عمليّة عزل البلاد عن فضائها الحضاريّ شيئًا فشيئًا، حيث دفعت رغبة الصّفويّين -ذوو الأصول التركيّة السّنية- في الحصول على مشروعيّة تاريخيّة ودينيّة لحُكمهم، إلى توظيف عنصريّ المذهب الشّيعي الإثناعشري، والقوميّة الفارسيّة في حرب عسكريّة وثقافيّة ضد الخلافة العثمانيّة، ولانُنكر أن الصفويّين قد وجدوا بالفعل في التّاريخ الإسلاميّ العربيّ الفارسيّ من الأدوات ما سَهّل خُططهم.
أفرز الدّور الصّفويّ واقعاً تاريخيًّا معاكسًا لمقاصد التّداخل الثّقافيّ العربيّ الفارسيّ، وهيّأ الظّروف التّاريخيّة السلبيّة لمرحلة الاصطدام بالاستعمار، وسياسات الغرب المُفتّتة والمُدمّرة تجاه المجال العربيّ الإسلاميّ، ووفّر مايكفي من المخزون التّاريخيّ والطّائفي لتأبيد عُزلة الشعب الفارسي عن فضاءه الحضاري، وقيام نزوعات إيديولوجيّة معمِّقة لهذا الشّرخ.
لقد عاش العرب والفرس، سنّة وشيعة، لقرون طويلة صانعين –كما رأينا- للصّيرورة التّداخلية الثقافيّة، بل كان التعدّد العرقي والمذهبي عاملا محفِّزا لهذا المسار، واليوم، ورغم كلِّ ما حدث ويحدث، لا زلنا نقف باندهاش وإعجاب أمام استمرار مقوِّمات وأسس التَّداخل الثَّقافي العربيّ الفارسيّ في كلا الضِّفتين، العربيَّة والفارسيَّة، إذ نستطيع بسهولة كبيرة ملاحظة الحضور الدّائم والقويّ للعرب في حياة الفرس، ولحضور الفرس في حياة العرب، وهذا ببساطة هو معنى (التّداخل الثّقافي العربيّ الفارسيّ) هذه الظّاهرة الحضاريّة العابرة للإنسان والزمان والمكان.
وختاما، نريد أن ندعو هنا عموم الباحثين والمُختصِّين من كلا الضّفتين، العربيّة والفارسيّة، إلى التحرّر ما أمكَن من الأغلال النفسيّة والتّاريخيّة المانعة للانجماع الحضاريّ العربيّ الفارسيّ، ذلك أنّه من شبه المستحيل في نظرنا تصوُّر شخصيّة عالميّة للعرب والفرس، اليوم وغدا، دون استئناف كلا الطّرفان لمسارهما الحضاريّ التّداخليّ.
[1] – محمد عابد الجابري، “تداخل الثقافات والعولمة الثقافية”، جريدة الصحراء المغربية، ع 12-01-2008. متوفر أيضا على موقع الجابري: http://www.aljabriabed.net/culture3.htm
[2] – نفسه.
اترك رد