فضائل الإسلام على لغة القرآن:[1]
المقدمة:
اللغة العربية هامة جدا في العلوم الشرعية عموما، وفي علم تفسير القرآن المُنزَّل بالعربية والمصدر الأول للتشريع خصوصا. لذا اهتم بها المفسرون لتحديد معانيه والأصوليون لاستنباط أحكامه، اهتماما أكثر من اهتمام اللغويين بها أنفسهم. فقدّم علماء الإسلام عموما، والعلماء في أصول الفقه خصوصا،[2] خدمات أساسية للغة العربية، طوّرتها وجعلتها من أكثر اللغات ضبطا.
لكن للتنبيه، ما زالت لغتنا تحتاج للضبط والتطوير أكثر، خاصة في عصرنا حيث ازدهرت تكنولوجيا المعلوميات. فصار لزاما ومن آفاق البحث الآنية، تجديد آليات اللغة العربية لتواكب التطورات الحديثة[3].
اللغة العربية لغة القرآن:
نزل القرآن بلغة العرب، التي كانوا يَنظِمون بها أشعارهم البديعة، ويلقون بها خُطبهم البليغة، ويتخاطبون بها فيما بينهم فصيحة بالسّليقة، مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}[4]، وقوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[5]. فخاطب الله عِباده في كتابه الأخير، بأسْمى لغاتهم وأحْسن أساليبهم لدرجة الإعجاز. وفضّلها حتما، بالاختيار على سائر اللغات.
لذا، لزم كلَّ مسلم، سواء كان عربيا أو غير عربي، أن يفهم العربية لِيفهم القرآن كما نزل بها لا بالتّرجمات، وليكون دينه صحيحا على التمام. فصار المسلمون أمة موحدة في لغتها الفصحى، التي انتشرت في مواقع كثيرة، رغم كل الدعوات التي تتنافى مع وجوب الحفاظ عليها.
فضائل القرآن خصوصا على اللغة العربية:
قرآننا هو الكتاب المقدس الوحيد الذي حافظ على لغته الأصلية، لأنه أدى إلى الاهتمام بها لأقصى حد. فكان من أثاره عليها، ثبات ألفاظها الفصيحة، لارتباط تفاصيل الشريعة واستنباط الأحكام بها. وفي هذا يقول أحد الباحثين: “إن لفظ القرآن وهو كلام الله المنزل على رسوله كما هو، وكما انحدر إلينا بالتواتر والتوارث الذي منع عن أي لفظ أن يدخله تغيير أو تبديل مرتبط أشد الارتباط لا بعقائد المسلم وعباداته فحسب، بل بتشريعه واقتصاده وعلمه وفلسفته وحروبه وجهاده، بل بتفاصيل حياته اليومية، فلا يكاد يوجد شيء في حياة المسلم الإنسان إلا وله في القرآن هدى هو نص، أو هدى هو استنباط،، ولا في خاص أمْره، ولا في عام أمر المسلمين، ولا في علاقة المسلمين بالأفراد من غير أهل مِلتهم أو الأمم التي لا تدين بدينهم. ويستنبط من النص أحكام، للوقائع الحادثة التي تَجِد في حياة الناس، ولاستنباط أصول ضابطة بها يتبين الناس كيف يختلفون”[6].
لقد أعطى القرآن اللغة العربية معنى أكثر من كونها لغة، لأنه بحِفظه حُفظت ألفاظها الفصحى. فلا تدين للإسلام بانتشارها فحسب، بل بكل علومها التي نشأت أساسا لخدمة علومه.
إن الإسلام فتح أمام اللغة العربية آفاقا جديدة، ونقلها إلى ميادين واسعة من الفكر والبحث، بعد أن كانت تدور في فلك أنواع الشعر الجاهلي ومجالات حياة العرب المحدودة. فجاء القرآن بها، ليقدم للبشرية جمعاء رسالة واسعة الآفاق في مختلف المجالات.
فضائل الإسلام عموما علي اللغة العربية:
فقد كانت اللغة العربية قبل ظهور الإسلام، في مرحلة التداول أكثر بالسليقة، لقلة الكتابة والضبط. فلما نزل القرآن بها، تطورت تدريجيا إلى أن صارت منضبطة بعلوم شتى.
وبانتشار الإسلام انتشرت، حتى عند غير المسلمين لارتباطها بالقرآن. فصارت بحق، جزءا لا يتجزأ منه. وتَوحّدت الأمة الإسلامية حولها، بنِسب متفاوتة بين العرب والعَجَم. وقد أكد ابن خلدون انتشارها بهذا السبب، في قوله: “كما هجر الدين اللغات الأعجمية، وكان لسان القائمين بالدولة الإسلامية عربيا، هُجرت كلها في جميع ممالكها، فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب، وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك، وصار اللسان العربي لسانهم، حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم، وصارت الألسنة الأعجمية دخيلة فيها وغريبة”[7].
والعجيب أن اللغة العربية أتقنها عدد كبير من المسلمين غير العرب، حتى صاروا من أعلامها الكبار والمدافعين عنها باستمرار، كسيبويه، والفيروزآبادي، والبخاري، والزمخشري. فأكد الواقع التلازم بين الإسلام واللغة العربية، حتى حلَّت حيثما حل. لكن هذه الاستثناءات، لا تُلغي أبدا أن العرب كانوا ولا يزالون أقدر على فهم الإسلام، لقدرتهم أكثر على فهم القرآن والحديث، المصدران الأساسيان للشريعة الإسلامية.
علوم اللغة العربية في تفسير القرآن:[8]
لمّا كان القرآن مُعجزا بفصاحته وبلاغته وبيانه، لم يكن ممكنا فهْم ألفاظه واستنباط معانيه إلا بالتمكن من لغته وعلومها، نحوا وصرفا وبلاغة ودلالة. فصارت دراستها ضرورية لفهم كتاب الله، لاستخلاص معانيه الصحيحة لا المحَرّفة.
لذا اعتنى المفسرون بالناحية البلاغية للقرآن، واهتموا بالكشف عن نواحي إعجازه في نظمه وأسلوبه، واستشهدوا لذلك بما ورد عن لغة العرب من شعر ونثر وأمثال.
وجوب تَعلم وتعليم اللغة العربية:
لمّا اختار الله نبيه الخاتم صلى الله عليه وسلم عربيا، وكان من السنن أن يكون كتابه بلسان قومه، فإنه لا يمكن التفريط في لغة الكتاب المقدس تَعلُّما وتعليما، لأن معرفة معاني ألفاظه لا تؤخذ إلا منها.
فقال ابن فارس عن وجوب تعلُّم العربية: “إن العلم بلغة العرب واجب على كل متعلق من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب، حتى لا غِنى بأحد منهم عنه، وذلك أن القرآن نازل بلغة العرب، ورسوله صلى الله عليه وسلم عربي، فمن أراد معرفة ما في كتاب الله عز وجل، وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل كلمة غريبة أو نظْم عجيب، لم يجد من العلم باللغة بُدّا”[9].
وقال الشاطبي أيضا: “لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عُرْف مستمر فلا يصلح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثَم عُرف، فلا يصح أن يجري في فهمها على ما لا تعرفه، وهذا جار في الألفاظ والمعاني والأساليب”[10].
إن معرفة اللغة العربية شرط في فهم القرآن، لأن من أراد تفسيره، وهو لا يعرف لغته التي نزل بها، فإنه لا شك سيقع في الزلل. ومَن زعم أنه قادر على فهم كلام الله من غير معرفة لسان العرب، فقد ادّعى مُحالا.
لذا قال أبو الوليد بن رشد في جواب له عمن قال : _إنه لا يحتاج إلى لسان العرب_ “هذا جاهل فلينصرف عن ذلك، ولْيَتب منه، فإنه لا يصلح شيء من أمور الديانة والإسلام إلا بلسان العرب، يقول الله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}[11]، إلا أن يرى أنه قال ذلك لخُبث في دينه، فيؤدبه الإمام على ذلك بحسب ما يرى، فقد قال عظيما”[12].
اللغويون في تفسير القرآن:
لقد أسهم اللغويون في تفسير القرآن، بشكل مباشر وغير مباشر. فاعتنوا بإبراز وتوظيف الأساليب العربية، الواردة في كتاب الله العزيز وفي آياته المعجزة.
1- المشاركة غير مباشرة:
غالبا ما يَذكر اللغوي عند تحديد معنى لفظ، الآية التي ورد فيها، إن وُجدت. فتكون حينئذ، المناسبة لتفسيرها به، تفسيرا لغويا مَحضا.
2- المشاركة المباشرة:
ظهرت مشاركة مباشرة للغويين في التفسير، من خلال علمين: علم غريب القرآن، وعلم معاني القرآن. فأُلفت فيهما كتب عديدة منها: غريب القرآن لابن قتيبة، وغريب القرآن للأخفش، ومعاني القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام، ومعاني القرآن لابن كيسان، ومعاني القرآن للفراء، وغيرها من الكتب التي اعتنوا فيها ببيان الأساليب العربية الواردة متميزة في القرآن، مع الاستشهاد لها من لغة العرب.
الخاتمة:
لابُد في الختام من إظهار نتائج هذا البحث، الموجز في كَمِّه والواسع في آفاقه، لأنه مجرد أرضية للتحفيز على أبحاث، تَخدم لغتنا العربية وتضعها في مكانتها اللائقة بها.
ومن أبرز النتائج، ما يلي:
– اللغة العربية شرفت حَقا، بنزول القرآن العزيز بها. فكان معجزا بها، وحافظا لها على التمام.
– إنها صارت من أعظم لغات العالم، بل أعظمها على الإطلاق، سواء بذاتها أو باستعمالاتها. فلْنفخر بها، باعتزاز على الدوام.
– إن علومها لازمة في طلب العلوم الشرعية، التي في طليعتها علم تفسير كتاب الله القرآن. فصارت معرفتٌها، معرفة أساسية بالإلزام.
– المفسرون في تفاسيرهم للقرآن، يحتاجونها ليس في التفسير فحسب، بل أيضا في ترجيح وتصويب الأقوال التي تُوافِقها في الكلام.
– اللغويون في كتبهم باختلاف أنواعها، ركزوا أكثر على معاني المفردات. فكان الفضل في تطوير علومها، يرجع لعلماء الإسلام.
أما عن آفاق البحث، فمن أهمها مما ينبغي إظهاره:
1- خِدمة علم أصول الفقه الإسلامي، منذ نشأته، لتطور اللغة العربية العلمي.
2- واقع اللغة العربية اليوم، مع التحديات التي تواجهها.
3- تطوير اللغة العربية، لتواكب تكنولوجيا المعلوميات.
لائحة المصادر والمراجع:
– القرآن الكريم برواية ورش.
– التفسير اللغوي للقرآن الكريم: د مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار. ط1 . دار ابن الجوزي، 1422م.
– جامع البيان في تأويل آي القرآن: محمد بن جرير الطبري، دار الحلبي، 1405هـ/1984م.
– زاد المسير في علم التفسير: ابن الجوزي، المكتب الإسلامي، 1984م.
– الصاحبي في فقه اللغة: ابن فارس، تحقيق أحمد صقر.
– الفصحى لغة القرآن: أنور الجندي. دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، 1402هـ/1982م.
– الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: جار الله الزمخشري، رتبه وضبطه وصححه محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، ط 1، 1415هـ/1995م،.
– مجمع البيان في تفسير القرآن: الطبرسي، تحقيق هاشم الرسولي المحلاثي وفضل الله الطباطبائي، ط 2، 1408هـ/1988م.
– المقدمة: عبد الرحمن بن خلدون، تحقيق حامد أحمد الطاهر، ط 2، 1431هـ/2010م.
– الموافقات في أصول الأحكام: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشاطبي(ت790ه)، عليه تعليق الشيخ محمد حسنين مخلوق، دار الفكر، دت.
[1] اختيار هذا الموضوع، يتناسب هذه السنة مع الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، الذي صادف يوم الثلاثاء 18 دجنبر 2012 (يوم إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة، حيث أن المنتظم الدولي استجاب للمقترح الذي كانت المملكة المغربية والمملكة العربية السعودية قد تقدمتا به لجعل يوم 18 دجنبر من كل سنة يوما عالميا للغة العربية).
[2] مادة علم أصول الفقه أساسا، قواعد لغوية لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
[3] أرجو أن أُوفق في مستقبل الأيام للإسهام في هذا البحث، الذي يتطلب تَضافر جهود جماعية، لإنجازه تاما ومكتملا في كل نواحيه، وبالأخص على مستوى الكتابة، لتتوافق لغتنا مع كل خدمات تكنولوجيا الحواسيب المعلوماتية.
[4]سورة إبراهيم: الآية 5.
[5]سورة يوسف: الآية 2.
[6]الفصحى لغة القرآن– أنور الجندي:ص35.
[7]مقدمة ابن خلدون:ص699 بتصرف.
[8]في طليعة علماء اللغة العربية من المفسرين:
1- ابـن جـرير الطـبري الـمتوفى سـنة 310هـ وتفسيره “جامع البيان”.
2- الزمخشري المولود في رجب سنة 467هـ وتفسيره “الكشاف”.
3- ابـن الجـوزي الـمتوفي سنة 597هـ وتفسيره “زاد المسير في علم التفسير”.
4- أبـو عـلي الفـضل الطـبرسي الـمتوفي سـنة 835هـ وتفسيره “مجمع البيان لعلوم القرآن”.
[9] الصاحبي في فقه اللغة – ابن فارس: ج 1 / ص 50.
[10]الموافقات – الشاطبي: ج 2 / ص 56.
اترك رد