العلاقات المغربية الأمريكية خلال الحماية الفرنسية

بسم الله الرحمن الرحيم.

شهدت رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس يوم 2 ماي 2013 مناقشة أطروحة الدكتوراه في التاريخ المعاصر في موضوع “العلاقات المغربية الأمريكية خلال الحماية الفرنسية ” التي تقدم بها الباحث محمد مزيان وقد تكونت لجنة المناقشة من السادة:

– الدكتور عبد اللطيف مرون رئيسا.

– الدكتور ميمون مدهون عضوا.

– الدكتور سمير بوزويتة مشرفا ومقررا.

– الدكتور محمد حاتمي مشرفا ومقررا.

وبعد المناقشة، منحت اللجنة للطالب شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا. وفيما يلي التقرير الذي تقدم به الباحث أمام اللجنة العلمية.

أولا: دوافع اختيار موضوع البحث.

تفرض التحولات التاريخية الراهنة التي يعرفها المغرب اليوم ، ضرورة بناء معرفة تاريخية في أفق إبداع وعي تاريخي وإلغاء التأويلات ألا تاريخية الابتعاد عن الجاهزية والنظرة المطلقة والتقريرية مما يفرض الإيمان بمبدأ النسبية في ممارسة المعرفة التاريخية، فالتاريخ كما يقول بروديل: “مندور دائما لإعادة الكتابة فهو في حالة صنع دائم لنفسه وفي حالة تجاوز مستمرة تحت إيحاء ضغط أسئلة يلقيها الحاضر على الماضي.” فقد مضى الآن على حصول المغرب على استقلاله أكثر من نصف قرن وهي مدة تضع بيننا وبين تاريخ الحماية مسافة زمنية كافية تمكننا من النظر إليها بوضوح أكثر وبموضوعية أكبر. فالتفكير في هذا المرحلة يقودنا إلى التفكير في الحاضر وفي المستقبل كذلك. علما أن الدولة المغربية ظلت قائما عمليا وقانونيا، وعليه فمن منطلق الضرورة الملحة لإيجاد سبل كفيلة بتنوير المناطق المعتمة في تاريخ المغرب المعاصر وجعل علاقاته الدبلوماسية أكثر إيجابية ونفعية والكشف عن مواطن الاختلاف والتلاقي وأيضا محاولة معرفة مثانة العلاقات المغربية الأمريكية وأسباب استمرارها في ظل التطور الذي تعرفه والتركيز على مدى ثبات هذه العلاقة رغم التحولات السياسية والاقتصادية على الساحة الإقليمية والدولية بعد الحرب العالمية الثانية، ولاتزال تداعياتها مستمرة إلى حد الساعة.

ولعل المتمعن في الكتابات التاريخية المعاصرة حول العلاقات للدبلوماسية للمغرب يلحظ تزايدا في الاهتمام بها، بعدما تنبه الباحثون المعاصرون إلى قيمتها التاريخية وما تثيره من قضايا نقدية وسياسية جديرة بالبحث والمدارسة، لكن فحص الأعمال التي اختصت بدراسة العلاقات المغربية الأمريكية خلال فترة الحماية يظهر انصراف الدارسين، إلا فيما ندر، عن مقاربة هذا الموضوع من منظور تاريخي،- على الأقل باللغة العربية – الشيء الذي حفزنا للخوض في هذا الموضوع.

تحكمت في اختيارنا لهذا الموضوع سببين الأول موضوعي علمي يكمن في ندرة إن لم نقل انعدام الدراسات المخصصة لفحص هذا الجانب فإنه لم توجد، في حدود علمنا، دراسة اختصت بالبحث في العلاقات المغربية الأمريكية خلال الفترة التي أطرها البحث. وكذا الرغبة في تنمية البحث العلمي في حقل العلاقات الدولية بالانفتاح على ما توفره رؤية التحليل التاريخي والسياسي في أبعاد جديدة.

سبب ذاتي: الرغبة في توفير بحث للقارئ المغربي عن الحضور الأمريكي بمغرب الحماية.

ثانيا: إشكال البحث:

تمركزت الإشكالية المركزية لهذا البحث حول إشكالية الحديث عن علاقات مغربية أمريكية في ظل الحماية الفرنسية وموقف فرنسا باعتبارها دولة حامية من التقارب المغربي الأمريكي ومدى استفادة المغرب من علاقته مع الولايات المتحدة الأمريكية؟

تفرعت عن هذه الإشكالية تساؤلات أخرى مفسرة لها ومتفاعلة معها بل ومكملة نذكر:

. ما موقف الإدارة الأمريكية من معاهدة الحماية؟ ومن تم هل ستطور مفاهيم جديدة حول العمل الدبلوماسي بالمغرب؟ أم ستكتفي بالأساس النظري والقانوني الذي وضعته بنود الاتفاقيات الثنائية مع المغرب؟ أم تطلب الأمر بلورة مفاهيم جديدة وتصورات حديثة لتتلاءم مع الوضع الدولي للمغرب؟

. ما محددات العلاقات الفرنسية الأمريكية حول المغرب؟

. ما جدوائية المساعدات الأمريكية للمغرب وماحدود التعامل مع الحركة الوطنية؟

. هل أشرت سنوات (1943-1944) لنقلة ما لمنعطف ما في علاقات المغرب الناهض والمنبعث سواء مع ذاته أو في صراعه مع المستعمر؟

. لماذا حصل المغرب على استقلاله سنوات قليلة بعد الإنزال الأمريكي بالشواطئ المغربية؟ وكيف يمكن موضعة الحدث في إطاره العام؟

. كيف ستتصرف الدبلوماسية الأمريكية أمام مستجدات الأمور بالمغرب خلال النصف الأول من القرن العشرين؟

. ما الأهمية التي يحتلها المغرب في إطار تنفيذ الولايات المتحدة الأمريكية لإستراتيجيتها بالمنطقة؟

ثالثا: منهج البحث:

المنهج المعتمد في تفكيك هذا الموضوع المتنوع من حيث حقوله المعرفية (التاريخ السياسي، العلاقات الدولية) وعلى هذه الدرجة من الدقة والحساسية من حيث أحداثه وطبيعة الفاعلين فيه لايمكن إلا أن تكون مقاربته وتحليلاته على درجة خاصة من الصعوبة والتعقيد. فالبحث يتداخل فيه ما هو تاريخي عميق بما هو معاصر تتعدد فيه القواسم المشتركة وتتنوع الاختلافات وحتى الخصوصيات. لذلك تم اعتماد المنهج الاستقرائي الاستنباطي في استنطاق الوثائق بعد جمعها وتصنيفها ودفعها للبوح بأسرارها ومكنوناتها والخروج بخلاصات واستنتاجات.

رابعا: هيكل البحث:

فيما يتعلق بالتصميم الإجرائي لتنفيذ المنهج فقد تم توزيعه إلى 3 أبواب مسبوقة بتقديم ومذيلة بخلاصات واستنتاجات.

إذ عنونت الباب الأول ب: “الإطار القانوني والدبلوماسي للحضور الأمريكي بالمغرب”. حاولت من خلاله رصد البدايات الأولى الحضور الأمريكي بالحوض المتوسطي بشكل عام والمغرب بشكل خاص عبر تحديد السياق التاريخي لتوقيع الاتفاقيات الثنائية بين البلدين والتي حصلت بموجبها الولايات المتحدة الأمريكية على امتيازات وحقوق لمواطنيها زكتها بمشاركتها المتميزة في مؤتمرين دوليين حول المغرب الأول حول الحمايات القنصلية 1880 والثاني مؤتمر الجزيرة الخضراء 1906.

جاء الباب الثاني بعنوان “العلاقات المغربية الأمريكية في فترة ما بين الحربين” ليحلل موقف الحكومة الفدرالية من أهم القضايا التي طرحت على الساحة المغربية بعد توقيع معاهدة الحماية إلى غاية الإنزال الأمريكي سنة 1942. تجلى ذلك بالخصوص في الاعتراف المتأخر بمعاهدة 30 مارس 1912 وحفاظها على امتيازاتها وحقوقها التجارية المخولة لها بموجب المعاهدات السابقة الذكر. وهو ما تناولته بالتفصيل في الفصل الأول. تطرق الفصل الثاني إلى موقف الولايات المتحدة الأمريكية من حرب الريف وتعاطف جزء من الرأي العام الأمريكي مع الحرب الريفية باعتبارها حربا تحررية ومقدسة لكن الجديد في الأمر هو تعزيز طيارين أمريكان للسلاح الجوي الفرنسي وتكوينهم لفرقة جوية أطلق عليها “الفرقة الشريفة” وهو ما اعتبر خرقا سافرا للقانون الجنائي الأمريكي الذي يمنع انخراط المواطن الأمريكي في جيش أجنبي، كما خلق أزمة دبلوماسية بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا التي حاولت إيجاد مبرر ومخرج قانوني من هذه الورطة.

وخصص الفصل الثالث للحديث عن وضعية مدينة طنجة الدولية ورغبة الولايات المتحدة الأمريكية في الحفاظ على الطابع الدولي للمدينة حسب مقتضيات الاتفاقيات السابقة في هذا الشأن. ظهر أيضا استنكار واشنطن للاجتياح الاسباني لمنطقة طنجة خلال الحرب العالمية الثانية لكنها مع ذلك نهجت سياسة الترقب والانتظار قبل الهزيمة النهائية لدول المحور، لذلك انخرطت بقوة في صياغة الوضع الدولي الجديد للمدينة استنادا لقانون 1923، لكن مع مراعاة للمصالح الأمريكية الجديدة لعالم ما بعد الحرب الكونية الثانية. أما الفصل الرابع فقد ركز على تفكيك الوضعية الاقتصادية والسياسية بالمغرب عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية وكيف ساهم هذا البلد في المجهود الحربي للحلفاء ماديا وبشريا. أضف إلى ذلك حرص المقيم العام نوجيس على إبقاء المغرب والشمال الإفريقي بعيدا عن ساحة الوغى خاصة بعد انهزام فرنسا أمام ألمانيا. تطرقنا أيضا إلى الحديث عن دور الحركة الوطنية خلال هذه المرحلة وبداية تشكل خطابها الإصلاحي ومحاولة استفادتها من الوضعية عن طريق تقديم مذكرة الإصلاح للإقامة العامة ورد فعل هذا الأخيرة إزاء ذلك.

وأُفرد الباب الثالث للحديث عن”العلاقات المغربية الأمريكية بين الثابت والمتحول”، والذي جُزء إلى فصول مترابطة ومكملة لبعضها البعض. ركزت كلها على تحليل الرهانات الاقتصادية والجيوستراتيجية لدخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الثانية ومن تم الإعداد السياسي والعسكري والاستراتيجي لـ”عملية المشعل” وهو ما أبان عن برجماتية السياسة الأمريكية التي عزفت على أكثر من وثر (الاقتراب من فيشي ومن رجالات الحركة الوطنية، ومن رجال المقاومة الفرنسية) بغرض إنجاح دخولها للمغرب بشكل خاص وشمال إفريقيا بشكل عام. إن الإنزال الأمريكي كحدث لم يكن بمعزل عن الظرفية الدولية التي جاء فيها، ولم يكن محدود النتائج، بل خلف مجموعة من التداعيات انعكست على وضعية المغرب الدولية وأصبح هذا البلد في صميم اهتمام صانعي القرار السياسي الأمريكي بعد أن تراجع نسبيا قبل هذا التاريخ. لذلك ستعمل الإدارة الأمريكية على تعزيز تواجدها اقتصاديا عن طريق محاولة الاستفادة من المواد الإستراتيجية التي يزخر بها واستقرار رجال أعمال أمريكان بالمغرب، وعسكريا عن طريق بناء قواعد عسكرية أمريكية وبذلك سيدرج المغرب ضمن خطط الحرب الباردة (التواجد العسكري الأمريكي بالمغرب) وكذا محاولة إدارة واشنطن احتواء المد الشيوعي وموقفها من الأزمة الفرنسية المغربية. كما تم تتبع انعطافاتها للبحث عن دور الولايات المتحدة الأمريكية في تأليب الصراع بين الطرفين فتم الوقوف على مجموعة من التناقضات في الممارسة الأمريكية انعكست بشكل أو بآخر على سير المغرب نحو الاستقلال.

دون إغفال كذلك الحديث عن ردود الفعل الوطنية الرسمية والشعبية من الحضور الأمريكي الذي أحدث مجموعة من التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بهذا المجال، حاول المغاربة الاستفادة منها في نضالهم ضد الاستعمار والانتقال بالقضية الوطنية من حدودها المحلية إلى مجال عالمي أرحب، ساعدهم في ذلك التنافس الاقتصادي الأمريكي الفرنسي حول التجارة بالمغرب وتشبث الولايات المتحدة الأمريكية بحقوقها ووضعها الاعتباري بالمغرب (النزاع الأمريكي الفرنسي حول حرية التجارة بالمغرب) إذ ظلت تردد أنه ليس لها مطامح سياسية وترابية بالمغرب ولا تريد سحب البساط من تحت أقدام السلطات الفرنسية، وهو ما أوقعها في كثير من التناقضات خاصة مع الدعم المبهم لفرنسا أمام هيئة الأمم (عرض القضية المغربية أمام هيئة الأمم المتحدة).

عموما يتعلق هذا العمل بدراسة العلاقات المغربية الأمريكية خلال فترة الحماية وتغير أسس علاقاته الدبلوماسية، فقد كان المغرب نتيجة موقعه الجغرافي مطمع العديد من القوى الامبريالية وحقلا ملائما لتدخلها، وما زكى ذلك الإطار القانوني المتمثل في المعاهدات والاتفاقيات مع الدول الأجنبية من ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية التي استفادتها من وضعها الخاص بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء حيث لعبت دورا محوريا في إنجاح هذا المؤتمر عبر تقريب وجهات النظر الفرنسية الألمانية إذ يمكن أن نفهم وظيفة التحكيم التي قامت بها على الأقل في بداية أشغال المؤتمر قبل الانحياز إلى الجانب الفرنسي ضد ألمانيا، بعد إقرار مبدأ الباب المفتوح الذي شكل أحد الدعامات الأساسية التي قادت السياسة الخارجية الأمريكية باعتبارها نظاما معقدا ليس له مظاهر اقتصادية فقط، ولكن كذلك له امتدادات سياسية.

غير أن توقيع معاهدة الحماية عقد الوضع الدولي للمغرب وظهر تناقض بينه وبين النظام الكولونيالي وبالنتيجة الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية المتشبثة بنظام الباب المفتوح، وفرنسا أحد أهم الإمبراطوريات الاستعمارية. فتفكيك هذا الصراع ينم عن السيطرة المزدوجة التي عانى منها المغرب. إنها امبريالية اقتصادية وأخرى سياسية وهو ما يفسر تأخر اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالحماية الفرنسية (اعتراف محدود). وما عقد هذا الوضع أكثر هو تناقض وتضارب المصالح التي انعكست على طبيعة العلاقات الثنائية بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، لهذا ستلجأ فرنسا إلى ما يمكن تسميته بنظام التعويض لضمان السيطرة الاقتصادية على المغرب التي تمر بالضرورة عبر الاستقرار السياسي على خلاف ما عرفه الوضع المغربي (عمليات التهدئة والحرب الريفية….)

فضلاً عن ذلك يهدف البحث إلى معرفة الاهتمامات التي كانت تشغل صناع القرار في كل من المغرب وواشنطن، وكيف أن الأخيرة حاولت التوفيق بين مصالحها في المغرب من جهة، وبين توجهات ومصالح حليفتها في حلف الناتو –فرنسا- من جهة أخرى. تشير التقارير الأمريكية أن التفكير الأمريكي لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية انصب حول محاولة حكومة واشنطن لتعريف وتوصيف مصالحها في هذه المنطقة، كما أظهرت حقيقتين حول السياسة الأمريكية هما أن المنطقة مهمة من الناحية الإستراتيجية وبالتالي فهي مكان يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن ترتب نفسها لوجود طويل فيه.

كانت أولويات السياسة الأمريكية في المغرب تتمثل ببقاء موارده متاحة لها ولحلفائها، و منع النفوذ السوفيتي والعقيدة الشيوعية من الامتداد إليها، فضلاً عن ضمان استمرار ارتباطها بالمعسكر الغربي، ورغبة من الإدارة الأمريكية في المحافظة على المنطقة فقد عملت ومنذ مرحلة مبكرة على إتباع سياسة توفيقية بين مصالحها العليا ومطالب الحركة الوطنية المغربية من جهة وبين المصالح الفرنسية من جهة أخرى.

خلاصات و استنناجات

ü لامسنا أثناء تحليلنا للعلاقات المغربية الأمريكية قوة هذه الأخيرة في الدفاع عن مصالحها التجارية ومصلحة رعاياها رغم ضعف الأداء الدبلوماسي لقناصلها مقارنة مع نظرائهم الفرنسيين والإنجليز، وتزايد عدد المحميين الأمريكان بالمغرب بعد مؤتمر مدريد، دون إغفال موقف حكومة واشنطن من التنافس الاستعماري حول المغرب. لهذا ارتهن مصير المغرب بموقف الدول المتنافسة بشأنه وبدا في هذه اللحظة مدافعا عن استقلال ترابه في علاقاته مع محيطه الأوروبي.

ü نسجل الخروج التدريجي للولايات المتحدة الأمريكية من عزلتها السياسية وتكييف مبدأ مونرو مع مستجدات الظرفية التاريخية للحفاظ على مصالحها بالمغرب، فقد امتنعت عن التدخل في الشؤون الأوروبية التي يمكن أن تورطها في نزاعات سياسية، لهذا بقيت بعيدة عن ما كان يهيئ في كواليس السياسية الأوربية. لكن ذلك لم يمنع حكومة واشنطن في إحاطة نفسها بمجموعة من النصوص القانونية والدبلوماسية لحماية مصالحها الاقتصادية. وأيضا إدخال مجموعة من الإصلاحات على الجهاز التمثيلي بالمغرب للرفع من مستوى أداءه وتصحيح الأخطاء والتناقضات، خاصة مع المستجدات التي عرفتها القضية المغربية مع مستهل القرن العشرين.

ü لم يستوعب مبدأ الباب المفتوح تماما المشكلات الجديدة المتصلة بتوقيع معاهدة الحماية مما أوقع الدبلوماسية الأمريكية في تناقضات واضحة. لهذا لامسنا خلال الحيز الزمني (1912-1942) أن الحضور الأمريكي بالمغرب كان ضعيفا إذ اقتصر حضورها على الجانب الاقتصادي بحيث لم يسعفنا أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية في الإمساك بجميع خيوط العلاقة المغربية الأمريكية في فترة ما بين الحربين إذ أبرز فحوى المراسلات بين كتابة الدولة وقناصلها في طنجة والدار البيضاء انشغالها بما يمكن أن يقدمه المغرب كفضاء اقتصادي للتجارة الأمريكية وكذا حول وضعية المغرب عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية. خاصة إذا علمنا أن المقومات الإستراتيجية لمغرب الحماية كانت تثير الشكوك حول قدرة الصمود أمام استمرار الهجوم النازي.

ü تعزيز حضور الولايات المتحدة الأمريكية بالمغرب بعد عملية المشعل وسيصبح أكثر تأثيرا على وضعية الحماية الفرنسية على مختلف الأصعدة. وسيبرز مشروع أمريكي بالمغرب ضمن سياسة كتابة الدولة التي أخذت في إحصاء أصدقاءها وخصومها وتتأهب للقيام بأدوار ليوطي إن اقتضى الحال. إذ بدا كأنها تزحف على أنقاض الإمبراطورية الفرنسية ولاح في الأفق أن المغرب متجه إلى مرحلة جديدة مشحونة والتقاطعات، ودلالات ذلك واضحة على كافة المستويات.

ü تُظهر تجربة حضور الولايات المتحدة الأمريكية بالمغرب بعد الحرب الكونية الثانية، بشكل أكثر وضوحا الصراع بين القيم الأمريكية والضروريات الجيوسياسية. وقبل عام تقريبا من الهجوم الياباني على “بيرل هاربر”، ألقى الرئيس “فرانكلين ديلانو روزفلت” (1933 – 1945) خطابه الشهير عن الحريات الأربع والذي أعلن فيه أن للبشر “في كل مكان في العالم” الحق في حرية التعبير والعبادة وحرية العيش بدون فاقة والتحرر من الخوف. وأصبحت هذه المبادئ نداء لاستجماع القوة بالنسبة للولايات المتحدة عند انضمامها إلى الحرب العالمية الثانية.

ü اغتنم الرئيس الفرصة لتعزيز الديمقراطية وحق تقرير المصير عن طريق إرساء الأساس لنظام عالمي منسجم مع المثل الأمريكية. ورغم انزعاج حلفائه الأوروبيين فقد كان روزفلت عدوا مجاهرا للإمبريالية، سعى لإخراج البريطانيين والفرنسيين من مستعمراتهم المنتشرة في كل مكان. وقدّم خلال مأدبة عشاء مع سلطان المغرب خلال مؤتمر الدار البيضاء في سنة 1943 دعمه لاستقلال المغرب، فيما كان تشرشل يجلس أمامه على المائدة، وهو يغلي ويخشى على مصير المستعمرات البريطانية. كما ندد بالحكم الفرنسي في الهند الصينية كشيء غير منسجم مع أهداف الحرب المعلنة للحلفاء. و كان روزفلت يطمح إلى تصحيح أخطاء التسوية غير السليمة لما بعد الحرب العالمية الأولى.

ارتباطا بما سبق:

يتضح سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقوية وجودها بالمغرب ومنع اندحار القوى الأوروبية التقليدية أمام الاجتياح النازي، بحيث جاء الإنزال الأمريكي بالمغرب ليعمق أزمة الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية ويعلن عن ميلاد إمبراطورية جديدة في توجهاتها السياسية والاقتصادية والإستراتيجية.

انصهار الرهانات الاقتصادية والإستراتيجية العسكرية والسياسية خدمة للرهان الأساس وهو محاصرة المد الشيوعي، وهكذا تأرجحت السياسة الأمريكية خلال مرحلة الحرب الباردة بين الاحتواء والردع بشكل يخدم مصالحها في مختلف مناطق العالم. وهو ما أوقعها في مجموعة من الأخطاء والتناقاضات والتصرفات المبهمة. إذ كان السؤال الذي يتردد دائما هو كيف يمكن لإدارة واشنطن أن تحافظ على وحدة الحلف الأطلنتي وأن تكون منسجمة مع مبادئها خاصة تلك المعادية للاستعمار؟ لذلك جاء دعمها للحركة الوطنية المغربية مبهما غير واضح في كثير من الأحيان كما حدث خلال تقديم الملف المغربي على أنظار مجلس الأمن ودعم الأطروحة الفرنسية. بالمقابل ترخيص الإدارة الأمريكية لممثلي الحركة الوطنية المغربية بفتح مكتبين للدعاية بنيويورك وواشنطن للتعريف بالقضية المغربية وبالانتهاكات الجسيمة التي تقوم بها فرنسا بالمغرب. وضغطها على سلطات الإقامة العامة لإدخال مجموعة من الإصلاحات التي تراها ضرورية للحفاظ على استقرار الأوضاع بهذا البلد.

ü وجدت الولايات المتحدة الأمريكية صعوبة في نهج خط سياسي واضح تجاه المغرب، لكن هذا لا يعني تخليها عن المغرب الذي أدرج ضمن الحرب الباردة عن طريق إنشاء خمس قواعد عسكرية أمريكية ابتداء من 1951، بموجب اتفاقية فرنسية أمريكية وأدرج كذلك ضمن نظام الدفاع المشترك ضد دول المحور الشرقي.

ü تدفق كبير للمواد ورؤوس الأموال ورجال الأعمال الأمريكان. حيث أصبح الحضور الأمريكي بالمغرب يتزايد يوما بعد يوم بعد. مما أثر بالضرورة على المغاربة فخلف نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية.

سادسا: الآفاق التي يفتحها البحث.

لسنا ندعي أن بحثنا قد استنفد جميع القضايا التي تثيرها العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة الأمريكية، فالنتائج التي انتهت إليها هذه الدراسة يمكن أن تكون منطلقات لأبحاث أخرى تتولى وصف وتفسير وتفكيك أسس العلاقات المغربية الأمريكية من زوايا مختلفة. ذلك أن تحليل رهانات المغرب في الانضمام إلى الغرب يمكن أن يكون أفقا من آفاق الدراسات التاريخية و السياسية التي ترمي إلى تلمس دور الأنساق الفكرية والسياسية في توجيه العلاقات الدولية.

حاولت هذه الدراسة تقديم ملامح عن للعلاقات المغربية الأمريكية خلال المساحة الزمنية 1912-1956 وتفكيك مساراتها التي كانت محط تقاطبات قوية، يجدر التنبيه إلى أن حلقاتها المختلفة جد معقدة وغير واضحة بالشكل الكافي فقد تخللتها مراحل مد وجزر صعود وهبوط عبر مراحل تاريخية مفصلية. منبهين إلى ضرورة تجاوز النظرة التبسيطية للسياسة الخارجية الأمريكية التي تنهل من بعض الأفكار الجاهزة المتداولة والـتأكيد على صيرورة السياسة الخارجية الأمريكية وحفاظها على ثوابت لا محيد عنها.

فهدف هذا العمل هو تحليل لحظات طبعت تطور هذه العلاقة وكذا رصد مسارها وتحديد الدينامكية الجيوسياسية وتشابكها طيلة الفترة المدروسة. إذ اتضح أن المصالح الأمريكية بالمغرب لم تكن واحدة ولكن متعددة، فالمصلحة الإستراتيجية والإيديولوجية والمصلحة الاقتصادية.

أضفت المصالح المختلفة التي ذكرنا على هذه العلاقة محتوى مثينا، ومن تم وجد الجانبين معا نفسيها تلقائيا مشتركين في شبكة من الأفعال وردود الأفعال القوية والمستديمة بطريقة غير مسبوقة، وبالتالي فإن درجة التشابك وتطوير العلاقات التي تحركهما كانت جد قوية أثرت على وضعية المغرب ليس فقط في حصوله على الاستقلال بل تعداها إلى مابعدها، خاصة مع اختيار المغرب الانضمام إلى الغرب وما جره ذلك من تبعات على الأجندة السياسية للطرفين.

غير أن الملاحظ هو ضعف استفادة المغرب من ذلك، خاصة فيما يخص قضاياه الإستراتيجية وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية وقضايا التنمية الاقتصادية ومسألة الأمن. وهو ما يفرض وضع إستراتيجية شاملة تستوعب كل الفاعلين في صنع السياسة الخارجية الأمريكية، وبالمقابل إحداث إصلاح متكامل للفعل الخارجي المغربي، مؤسساتيا ومنهجيا لكسب موقع ريادي وسط المنافسة الدولية والجهوية.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.


نشر منذ

في

,

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ nacim
    nacim

    يرجى ارسال كل عناوين الملتقيات على البريد الالكتروني وشكرا

  2. الصورة الرمزية لـ NOYAR
    NOYAR

    شكرا جزيلا

  3. الصورة الرمزية لـ karmounabdelhafid@gmail.com

    لك الشكر الجزيل استاذي العزيز

اترك رد