إنّ العجز عن التّواصل بين المسلمين وخاصة النخبة منهم، وعدم قدرتهم على التّعاون وفهم المعنى الحقيقي للاختصاص في العلوم على أنّه يكمّل بعضنا بعضا كمسلمين، وليس الاختصاص هو من باب التفرقة وبث العداوة والبغض فيما بيننا، كان له تأثيره السلبي على الأمّة الإسلاميّة عامّة، فلا اتفاقا اتبعوا ولا علوما أتقنوا. وبقي الصّراع والتنازع حول قضيّة قديمة متجدّدة وهي: لمن الأولويّة في الاصلاح ومن له الأولويّة على بعث مشروع نهضة الأمّة واسترجاع هيبتها بين الأمم؟
إنّ هذا الطرح فيه ما فيه من القصور عن فهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه زرع للالتباس وتثبيط للهمم، مع التأكيد على حقيقة ضعف المسلمين وتواضع اهتماماتهم وأهدافهم عموما وذلك من دون اتهام لنوايا أصحاب مختلف التيّارات المطالبة بالاصلاح.
فأرقى درجات السّعادة التي قد يشعر بها المخترعون، والعلماء، والمبدعون هي سعادة خدمة البشريّة ونفعها. ونفع البشريّة هذا قد يكون مطلبا وغاية لذاته في طلب العلوم والتعمّق فيها، كما قد يكون النتيجة التي تؤول إليها جهود العلماء حتى ولو لم يكن مطلبا أوليّا. هذا الفهم العام لغاية الاجتهاد في العلوم تحصيلا وتطبيقا لها، قد يستوي فيه كلّ بني البشر، سواء القدماء منهم أو المعاصرون، مسلمهم وكافرهم، العالم بالدّين أو المختصّ في حقول علميّة أخرى.
إذا سلمنا بهذا، فلا شكّ بأنّ غاية المسلم هي أرقى من أن تكون مجرّد سعادة دنيويّة عابرة ومنتهية، فغايته هي تحقيق معنى الاستخلاف في الأرض وتحقيق معاني العبوديّة لله التي تكون مطلبا في كلّ الأفعال والأقوال وذلك ابتغاء مرضاة الله سبحانه والفوز بالسّعادة الأبديّة وليس الاكتفاء بالسعادة الدنيويّة فقط. فالمطلوب منّا هو الرؤية الواضحة والمبنيّة على أسمى وأرقى الأهداف. وبالتالي فإنّ العلوم لا تنفكّ عن هذا المطلب العام لكلّ مسلم مخلص، ولا تُستثنى منه، بل هي المرشد والمؤطّر لكلّ ذلك.
وتأتي مسألة تقسيم العلم إلى علم شرعي وآخر دنيوي لتلقي بظلالها على الأمّة الإسلامية، وذلك بسبب الانتقال بها من مجرّد التصنيف الذي يعتمد على التفريق بينها بناءا على المحتوى كما قصده العلماء قديما، إلى التفريق بينها في المآل والغاية وهذا ما زاد من الهوة الحاصلة بين من يناصر علما دون آخر. وقد يجد البعض منّا بأنّ هذا التقسيم الاصطلاحي في صورته المعاصرة لم يخدم الأمّة الإسلاميّة وزادها اختلافا إلى اختلافها، وبعدا عن الاجتهاد وعن الغاية السّالفة الذكر بسبب تشتّت جهود العلماء والمبدعين والمفكرين وتمسّك كلّ طرف بعلمه لا من باب التمسّك بالاختصاص كمطلب معقول في ذاته، وإنّما من باب الأفضليّة والأسبقيّة للعلم المُختّص فيه. ولا يتمّ ذلك عند البعض إلاّ بعزل بقيّة العلوم أو التقليل من أهميّتها وفضلها. ومن هنا تبرز ضرورة ايضاح فكرة تقسيم العلوم وترتيبها، كما تبرز أهميّة اجتماعها في الغاية والهدف وليس افتراقها.
إنّ المفاهيم والتقسيمات أوالتعريفات في الإسلام قسمان: قسم شرعيّ وضعه الشّارع ليسير عليه المسلمون في أحكامهم الخاصّة كإطلاق لفظ مسلم ومؤمن على من دخل الإسلام. وقسم يجوز الاصطلاح عليه بين عموم المسلمين والاتّفاق بينهم ومراجعته عند الضرورة باعتبار أهميّته والدور الذي يؤدّيه المصطلح داخل الأمّة، مع مراعاة الزمن والظروف.
وإذا ما أردنا تقسيم العلم بين شرعي ودنيوي، فإنّه سيكون من باب القسم الثّاني الذي يعني بأنّه اصطلاحي وقابل للبحث ومراجعة الدور الذّي يؤدّيه داخل الأمّة.
ولهذا نقول بأنّ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت متضمّنة لشيئين رئيسيين وهما الهدى والحق، لقوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَل َرَسُولَه ُبِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْكَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ الصف:﴿9﴾. وللمفسرين أقوال في هذه الآية من أهمّها: القول بأنّ الهدى في هذه الآية هو العلم النّافع، ودين الحقّ هو العمل الصّالح المشتمل للإخلاص لله والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلّم. والعلم النّافع يتضمن كلّ ما يكون للأمّة فيه خير وصلاح سواء في معاشها أومعادها. ومنه فإنّ اهتمام العلماء بمختلف العلوم والمعارف التي انتفع بها المسلمون قديما، وكان تصنيف العلوم هو من باب التفريق في محتواها وتبيان الأولى والأهمّ فالمهم منها وليس من باب الحثّ على بعضها والزّهد في بقيّتها أو عزلها كما يحدث الآن.
إنّ تقدّم المسلمين وازدهار مدنهم ودولهم ورقي حضارتهم كان بفضل التبصّر والحكمة في أخذ العلوم من دون استثناء أحدها ومن دون إغفال لتفاصيلها. ولذلك وُجد من العلماء من مارس الطب وأتقن الرياضيات والكيمياء والفيزياء وغيرها مع كونه عالما بشرع الله. كما اختصّ بعضهم بما أصبح يُعرف الآن بالعلوم الإجتماعية والإنسانية والفلسفة. وترجمت الكتب والمجلدات من لغات مختلفة إلى اللّغة العربيّة تحقيقا للمنفعة والفائدة. وإن دلّ هذا على شيء، فإنما يدل على الحرص في طلب كلّ العلوم وسعي العلماء لتبوّء أعلى مكانة وأرقى مرتبة بين الأمم. وكذلك هناك من تحدّث في السياسة والاقتصاد والمجتمع بما جعلهم على دراية واسعة وفهم عميق لحال الأمّة في وقتها وللظروف التي عاصروها. وهذا ما سهّل عليهم العمل على الارتقاء بها وإصلاح حالها وإدارة شؤونها.
ومع بداية عصور انحطاط المسلمين وتراجعهم، ظهرت ملامح الزهد في العلوم، وتراخى الطلاّب عن الطلب، وتراجع الدّعاة عن الدّعوة، وانكمشت العلوم وترُكت، بل وانحصر طلب العلم على حفظ بعض النصوص ومحاولة فهمها وتلقينها في أحسن الأحوال. ولقد كان لهذه الحالة أسبابها ومبرّراتها، ولعلّ من أهمّها هو بعد الأمّة عموما عن دينها وانحرافها اللاّمسبوق عن مبادئها وأصول تماسكها وارتباطها. ثمّ بتعرّضها لمختلف أنواع الاحتلال والتقسيم والفرقة. وفي خضم ّكلّ ذلك، كان من الطبيعي أن تكون الأولويّة للعلوم المرتبطة بالدّين ارتباطا مباشرا كالعقيدة والتّوحيد، وذلك من أجل استرجاع هيبة الدّين وارشاد عموم المسلمين.
ومع تطوّر الزمان وتنوّع في نواحي الحياة، يضاف إليها صعوبة حصر العلوم وتجمّعها في الشخص الواحد، كان لا بدّ من التخصّص في طلب العلوم من أجل اتقانها والتبحّر فيها بدل البقاء في خانة العموميّات والجمود. وبدل أن يتحقّق هذا المطلب، كان العكس من ذلك، فازدادت امكانية التباعد والاختلاف،كما ازدادت درجة التوظيف السلبي لمصطلح تقسيم العلوم إلى شرعيّة ودنيويّة بين تيّارات مختلفة لا تنفك عن خدمة مصالح أيديولوجيّة ضيّقة بدل خدمة الأمّة.
فهناك من أصبح تلميذا نجيبا للغرب، ودأب على محاولة إفهام بني قومه بأنّ الرقي والتقدّم لا يكون إلاّ بالانسلاخ عن العلوم الشرعيّة وذلك لأنّ التاريخ يعيد نفسه وهكذا فإنّ سعادة المسلمين وازدهارهم سوف لن تتحقّق إلاّ باتباع ما وقع في أوربا أثناء عصر التنوير، من محاولة لعزل علوم الدّين وتغييبها وهكذا سيستقيم أمر بقيّة العلوم ومنه حال المسلمين معها.
ومن جهة أخرى، نقول بأنّه لا شك بأنّ للعقيدة و التّوحيد ولحديث والتّفسير مرتبتها ومنزلتها الشّريفة والرفيعة بين سائر العلوم ولكن الاقتصار عليها من دون التحفيز على بقيّة العلوم قد يكون من المبررّات التي تقف بالأمّة عند نقطة لم يرضها لها العوام فأنّى ترضى بها النّخبة من العلماء والباحثين والمفكرين؟
إنّ الإسلام الحق هو حافز للمسلم لخدمة أمّته ودينه والبشريّة جمعاء. وخدمة الدّين والأمّة تحقيقا لغاية الاستخلاف في الأرض، تكون بعلوم الدّين والدنيا معاً. إذ إنّ تدريس العلوم الآنفة الذكر وخاصة التوحيد، كان من المفترض بأن يكون باعثا وحافزا على التقدّم في علوم أخرى، وذلك من أجل بلوغ مراتب أرقى بين الأمم. فكيف للمسلم أن تمرّ عليه الآيات والأحاديث الدّاعية إلى التفكّر في الخلق والمحفّزة على التدبّر والتأمّل ثمّ يزهد في كلّ ذلك مقتصرا على تلاوتها وحفظها من دون إعمالها أومحاولة فهمها علميّا؟
ومع أنّ هذا التقسيم كان الغرض منه التعريف بالعلوم المهمّة والتي لها الأولويّة عند المسلم، إلاّ أنه تحوّل مع الوقت ليفرّق بينها، فمن المسلمين من زهد في العلوم التي توصف بالدنيويّة بل وأصبح عدوا لذوذا لها، كما تحوّل البعض عن التفقّه في الدّين وتحقيق مبدأ الأولويّات التي تصحّ معها عبادة العبد لربّه، وانشغلوا بما يعرف بالعلوم الدنيويّة فقط فحدث الافتراق والتّنازع.
لعلّ القارئ لهذه السطور قد بدأ يفهم كيف أنّ التّقسيم قد انعكس سلبا على الأمّة بحيث أصبح المختصّ في علم من العلوم التي ليس لها ارتباط مباشر بالدّين، يُصنّف على أنّه من طلاّب العلوم الدنيويّة. بل وذهب الكثير من الدعاة إلى درجة استصغار الكثير من العلوم ولو عمليّا وإنكار كلّ ما يكون قادما من الغرب منها أو تُرجم من كتبهم أو فُهم من انجازاتهم. فماكان للطرف الآخر إلاّ أن فهمها على أنّها وصاية على العقول وكان لمتطرّفهم بأنّ قرّر أنّه لا دخل للدّين في علوم الحياة فماذا استفاد المسلمون من كلّ ذلك؟ وبدل التعاون والاتفاق كان التفرّق والاختلاف الذي نهينا عنه شرعا لقوله تعالى﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ الأنفال:46.
وبالرجوع إلى الآية الكريمة في سورة (الصف)، يتّضح بأنّ المقصود وغاية المشرّع منها هو الحثّ على الانتفاع بكلّ العلوم والاختصاصات مع الإخلاص النية لله بخدمة الأمّة ونفع المسلمين بها. فحريّ بالمسلم وواجب عليه أن يكون متقدّما ومتفوقا في كل المجالات العلمية والعمليّة. لأنّ القرآن العظيم فيه تبيان لكل شيء، كما أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم علّم أمّته جميع ما تحتاجه في أمور الدّين والدّنيا. ومن هنا، فإنّ كل العلوم التي لا تخالف الشّرع داخلة تحت هذه الجملة العامّة من المقاصد التي بيّنها الشّارع في الكتاب والسنّة. فإن جاز قولنا بأنّ اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيويّة واجب أو مسنون، جاز قولنا بأنّ العلوم التي يقال عنها بأنّها دنيويّة كالطّب والكيمياء والهندسة والعلوم الإنسانية والإجتماعية والاقتصاد وغيرها هي من باب الواجب أو المسنون تعلمّها شرعا كذلك.
ومن هنا، فإنّ الدّعوة إلى طلب العلم يجب أن لا تستثني الدعوة إلى الاختصاص في العلوم المتنوّعة والسعي إلى التفوّق فيها مع تحصيل ما هو أولى بقدر يُحصّن صاحبه من السقوط في الالحاد أو الشرك وماعدا ذلك فباب الاجتهاد مفتوح لكلّ مختصّ في علمه لتحقيق الغايات والوصول إلى الأهداف. وكنتيجة لما سبق، نقول بأنّ الأمّة بحاجة إلى كلّ العلوم من دون تصنيفها على أساس ديني ودنيوي. بل الصواب أن تبقى على أصلها علوما مطلوبة ومصنّفة على أساس الأولويّات حتىّ يعلم المسلمون بأنّهم مطالبون ومخاطبون بالاجتهاد في كلّ العلوم النافعة للأمّة واتقانها مع الاختصاص والتنوّع، وبأنّه لا يسقط الواجب عنهم إلاّ بتحقيق الاكتفاء في الكثير من الاختصاصات التي أصبحنا فيها عالة على باقي الأمم بسبب نقصها أوانعدامها داخل الرقعة الإسلاميّة. كما أنّ العلماء والباحثين والمخترعين يكمّل بعضهم بعضا في العلوم والإختصاصات، ولا تتعارض اهتاماتهم وأهدافهم، كما أنّه لا يستغني أحدهم عن الآخر في رسم النّهوض المنشود والتّخطيط المقصود للرجوع بالأمّة إلى مكانتها الطبيعية في تصدّر الأمم.
اترك رد