بقلم: د. محمد برقعي
تقديم وترجمة: د. رشيد يلوح*
دفعت الثورات العربية المثقفين الإيرانيين إلى طرح أسئلة عميقة حول الذات الإيرانية، وقدرتها على الخروج من أزماتها الثقافية والتاريخية، ثم التواصل والتأثير في محيطها.
وفي هذا السياق انطلق عالم الاجتماع الإيراني الدكتور محمد برقعي من نقد صريح لبعض القضايا الفكرية والنفسية التي أعاقت تقارب إيران مع محيطها، وهي مراجعة بيَّن فيها الباحث الأسباب التي أوصلت إيران إلى عزلتها الحضارية والسياسية.
ونشر محمد برقعي مجموعة من الدراسات التي تناولت بنية وخصائص المجتمع الإيراني، وهو من المعارضين المقربين من الجبهة القومية الدينية الإيرانية، ويقيم حاليا خارج إيران.
ويأتي هذا العمل بهدف مد النخبة العربية بما يلزمها من معطيات تتصل بالمراجعات التي تروج في الأوساط الثقافية الإيرانية، والتي مسَّ جزء مهمٌّ منها التَّصورات الدينية والقومية الأساسية في إيران.
ويعرض هذا المقال ـ الذي كتبه برقعي باللغة الفارسية ـ في ثناياه لبعض المعطيات التي لا أتفق معها، لكن ذلك لن يمنع من التعرف على أفكار الرجل وتوجهه الواضح نحو المراجعة والإنصاف.
تمثل الثورة الإيرانية أهم ثلاث ثورات كبرى في التاريخ وأكثرها شعبية، بينما تعتبر الحركة الخضراء1 أول حراك شعبي استخدم الوسائل الالكترونية لتعبئة الناس، وكلا الحدثين استفردا بتغطية استثنائية في وسائل الإعلام العالمية.
أما الذي رأيناه في تونس ومصر، ليس سوى انفجار لغضب كان مكتوما، إنه حراكٌ يفتقد إلى التفكير المنسجم والقيادة السياسية، وإلى الحد الأدنى من البرمجة.
لكن لماذا أوجدت هذه الحركة البسيطة وربما العمياء موجة عظيمة في المنطقة، تتسع نارها كل يوم لتحرق الديكتاتوريات ؟ في حين لا الثورة الإيرانية ولا الحركة الخضراء بكل خصائصهما ومزاياهما لم يستطيعا أن يُحدثا هبة شعبية وتحولا سياسيا في أي بلد. وهذا بالطبع لايعني أنهما لم يؤثرا في شعوب المنطقة، لكننا نعلم أن هناك فرقا كبيرا بين التأثير وإيجاد الحركة.
لاشك أن كل بلد يربط نفسه بمجال حضاري محدد، وعلى هذا الأساس يتقاسم مع جيرانه مشتركات تاريخية وثقافية، أمامنا مثلا النموذج الأوروبي أو الأفريقي أو العربي أوالهندي أو الصيني، ولهذا السبب قامت الاتحادات بين دول هذه المناطق، وأي تحول يحدث في بلد ما من هذه المجموعات ينتقل بسرعة إلى البلدان الأخرى.
أما نحن الإيرانيون فلازلنا منفصلين عن جيراننا، لذلك تجد علاقتنا مثلا بالعرب خصامية، لأننا نعتبر أنفسنا آريين وهم ساميون.
لم نغفر أبدا للعرب هجومهم على الإمبراطورية الإيرانية، رغم أن المناطق التي نعتبرها عربية اليوم مثل مصر والعراق وسوريا، بدورها بعد إسلامها وإجبارها على اللغة العربية، كانت جزءً من الإمبراطورية الإيرانية، بينما بغداد ليست سوى امتدادا لتسفون عاصمة الساسانيين.
وقد تَعَمَّق لدينا الشعور بالقهر والغربة منذ تشيعنا في عهد الدولة الصفوية، عندما أسس رجال الدين لعلاقة عدائية مع العرب، رغم أن النجف [العربية] مَثّلت باستمرار أكبر حوزة علمية شيعية، كما كانت مستقرا لكبار مَرَاجِعنا، وكانوا جميعهم تقريبا إيرانيون. أما العرب السنة المتدينون، فلا يمثلون بالنسبة لنا سوى قتلة الأئمة، وفي طقوس العزاء التي نقيمها كنا دائما نصور العرب على أنهم موجودات وحشية ودموية.
ورغم أن الكثير من كتب فقهائنا حُررت باللغة العربية، لاحظنا في بدايات الثورة عندما زارنا ياسر عرفات وشخصيات عربية أخرى، كيف كان العلماء في حاجة إلى مترجمين، والسيد الخميني نفسه كان طوال مدة نفيه في العراق لايتواصل مع العلماء وعامة العراقيين.
قبل العصر الصفوي كان الشيعة مثل باقي المذاهب السنية يعيشون في سلام مع أهل السنة، ولم تستوجب الاختلافات الموجودة بين المذاهب نشوء عداوة عميقة بينهم، لذلك يتساءل البعض هل سعدي وحافظ كانا سنيين أم شيعيين؟ وقد كان الكثير من العلماء أمثال الخواجة نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي من الشيعة، لكنهم عملوا مع الملوك من أهل السنة.
ولكي يحقق الصفويون أهدافهم ومصالحهم السياسية اتخذوا المذهب الشيعي إيديولوجية رسمية لدولتهم، وعلى هذا الأساس أطلقوا حملة إعلامية واسعة ضد السنة، واستخدموا فيها مؤلفاتٍ لعلماء شيعة كانوا في خدمة البلاط الصفوي أمثال المجلسي. وبعد ذلك أصبح الهجوم على أهل السنة وظيفة فقهاء الشيعة والدولة على السواء، واستمر هذا الأمر لقرون عدة، مما رسخ في ثقافتنا التهجم على أهل السنة.
ولهذا السبب خرجت إيران الشيعية المعادية لأهل السنة من دائرة الحضارة الإسلامية، تماما كما فعل محمد علي جناح بباكستان وبانغلاديش عندما فصل باكستان عن الهند.
لقد أدى رسوخ كراهية السنة في ثقافتنا إلى حد مَنَعت فيه إيران التي تدعي قيادة العالم الإسلامي أهل السنة من بناء مسجد ومن إقامة صلاة الجمعة.
وإذا كان فقهاؤنا والمتدينون منا يذكرون العرب بكونهم أهل السنة الغاصبون حق أهل البيت، فإن الحداثيين والجامعيين منا يُعبِّرون عن هذا العداء بدرجات أكبر، وذلك عندما يدَّعون أن عِرقنا الآري هو الأفضل، وهذا بالطبع من آثار سياسات النظام الملكي البهلوي.
لقد عمل النظام البهلوي على جعل القومية الفارسية القديمة الميزة الأساسية والأهم لشخصيتنا بدل الإسلام، حيث اشتغلت وسائل الإعلام الحكومية حينئذ على الترويج لأفضلية العرق الآري على العرق العربي، حتى أرجعت جميع مفاخرنا الثقافية إلى الشاعر الفردوسي، وهكذا أعطى النظام الملكي لمشاعر كراهية السنة لون العداء للعرق العربي، وقد عَبَّرت بوضوح أعمال الكاتبين صادق هدايت وكسرفي عن هذه الكراهية للعرب.
ومع تزايد جرائم واعتداءات الجمهورية الإسلامية، تزايد سخط الشعب الإيراني على النظام، وهكذا أدت كراهية الفقهاء وحكومتهم الإسلامية، إلى اعتبار الإسلام دينا عربيا وفقهاء الشيعة عربا، وبالتالي أصبحت حكومة الجمهورية الإسلامية حكومة عرب متسلطة على الإيرانيين، وفي النهاية تصاحب السخط على الحكومة مع السخط على العرب.
ومما عَّمق هذه المشاعر كون جميع القوى السياسية في البلاد ومنذ زمن بعيد، كانت تؤكد دعمها للمقاومة الفلسطينية، مما أدى بالساخطين إلى رفع شعار “لا غزة، لا لبنان،روحي فداء إيران”، وقد انتشر هذا النوع من الشعارات الخاطئة تماما بمساعدة قنوات فضائية أجنبية.
وبسبب العوامل التاريخية المذكورة آنفا، أدت هذه التصورات المُعوَجّة إلى تعميق مشاعر الكراهية والعداء تجاه جيراننا العرب، بما فيهم المصريين الذين لم يستثنوا من ذلك كله.. فالمصريون بسبب نُطقهم العربي اشتهروا بكونهم عربا، رغم أن مصر هي الدولة الوحيدة التي استقبلت محمد رضا شاه المُشرد ومنحته اللجوء عندها.
هذا النكران للجميل جعل المطالبين برجوع الملكية إلى إيران غير راغبين في رؤية قبر محمد رضا شاه في بلد عربي، في حين لو كان قبر الشاه في بلد أوروبي أو في أمريكا الشمالية أو الجنوبية، أو حتى في باكستان أو تركيا، لذهب الكثير من أنصار الملكية لزيارته، خاصة في هذه المرحلة التي نرى فيها تصاعد الحنين إلى العهد البهلوي.
نحن لانشعر بالغربة مع العرب فقط، بل مع الأفغان والطاجيك والأوزبك الذين يشاركوننا اللغة، وكذلك مع التركمان الذين تجمعنا بهم ذكريات من الغارات والحروب..
ورغم أن أكثر مفاخرنا الثقافية ترتبط ببخارى وسمرقند وبلخ وهرات، ومدن أخرى في أفغانستان وطاجكيستان واوزبكستان، لكننا لازلنا ننظر إلى هذه الشعوب التي تشاركنا اللغة والثقافة من فوق، وكأنهم يتربصون برموزنا الثقافية والحضارية لسرقتها منا.
أوليس محمود وأشرف الأفغاني وتيمورلنك من هذه الشعوب الضعيفة والقليلة الثقافة، ولاعلاقة لهم بالشعب الإيراني المتعالي؟
هذه الأنانية والانعزال عن الجيران، أوصلت مُتعلمينا إلى الجهل بخصائص هذه الشعوب، فتجد منهم من لايعرف أي من تلك الشعوب يتكلم اللغة الفارسية، وربما يعرف أحدهم مصادفة أن هذه البلدان تكرم رموزنا الثقافية وتقيم لها نصبا تذكارية في ساحاتها، مثل النظامي والفردوسي ومولانا جلال الدين الرومي والرودكي، فيحدث نفسه مفتخرا: إنهم يكرمون ثقافتنا المتعالية التي تُنجب النوابغ.
نظرتنا إلى الشعب الباكستاني والهندي ليست أفضل من سابقتها، لذلك فنحن لا نهتم بما يحدث في تلك البلدان.
وفي المقابل تجد عامتنا يعرفون الكثير عن أوربا وأمريكا التي لايربطنا بها أي شئ، أكثر مما يعرفون عن الهند وباكستان، والسبب أننا نرى أنفسنا في صف الدول الغربية لامع الدول المتخلفة مثل باكستان والهند وبانغلاديش. وحتى إذا كانت لدينا معلومات عن هذه البلدان فعادة ما نأخذها من مصادر غربية. وإذا حدث أن تُرجم عمل لكاتب هندي إلى الفارسية سيصبح عندنا الكاتب إنجليزيا كما هو الحال مع سلمان رشدي.
المثير فعلا هو أننا في الوقت الذي نتحدث فيه عن جرائم العرب طوال 14 قرنا، لم نشعر أبدا بالحياء تجاه الجرائم التي ارتكبناها في الهند. ومع أننا مدينون لثقافة الهند العظيمة (بما فيها باكستان وبانغلادش) والتي تعتبر من أكثر الثقافات العالمية عطاءً، إلا أننا ننظر إلى شعبها باحتقار، لذلك نُثني هنا على جهود كل من داريوش شايكان ورامين جهانبكلو ومحمود تفضلي، الذين نَدين لهم بمعرفتنا المحدودة عن الحضارة الهندية.
الأتراك بدورهم ضحايا أحكامنا المستعلية والقائمة على الأنانية، والتي ترجع جذورها بالطبع إلى العصر الصفوي لما عرفه من صدامات وحروب مع جيراننا العثمانيين، وهي أحكام تَعَمَّقت مع انتشار نظرية تعالي العرق الآري الإيراني في عهد الحكومة البهلوية، حتى حسبنا أتراك الأناضول تورانيين2 خطأً، لكي نُقنع أنفسنا بأن العداء بين الإيرانيين والأتراك يعود إلى الزمن الغابر، زمن رستم وأفراسياب [أبطال إيرانيون أسطوريون]، هذا التحقير والطرد استمر لقرن من الزمن حتى طالت ناره الإيرانيين الناطقين باللغة التركية.
وتشدّدَ العداء الإيراني العثماني مع سياسات الدولة القوية الآرية المتمركزة3، ليتحول فيما بعد إلى عداء بين الناطقين بالفارسية والتركية داخل إيران.
وهكذا أصبح التركمان والطاجيك والأوزبك خارج أذهاننا نحن الفرس الذين نعتبر أنفسنا إيرانيين أصليين، في حين القليل من الإيرانيين مطلعون على حدودنا الجغرافية معهم.
وقد زاد من ضعف اتصالنا بهم دخولهم ضمن الاتحاد السوفياتي، حتى انقطع الرابط في عهد الحرب الباردة، وكأنهم ليسوا جيراننا، بل وكأنهم يعيشون في جهة ما من الكرة الأرضية.
إننا لا نعتبر أنفسنا جزءً من المنطقة التي نوجد فيها، لأننا نتصور أننا نوجد في القارة الأوربية أو ينبغي أن نكون فيها. إنه المكان الذي يليق بالأمة الإيرانية العظيمة والذكية، ولهذا السبب ليست لدينا الرغبة في التعرف أو التعاون مع جيراننا.
ومن أهم الأسئلة التي شغلت مثقفينا، سؤال العلمانية، خاصة الجانب المتعلق منها بفصل الدين عن الدولة.
سبق لي أن طرحت في أكثر من مناسبة جمعت مثقفينا أن كل أمة لامفر لها من مواجهة هذه القضية من الناحية الثقافية، وبالنسبة لنا من المفيد قبل أن نعرف كيف أجاب الغرب المسيحي عن هذه القضية، أن نرى كيف تعامل معها جيراننا من المسلمين. لكن التجربة أظهرت أن مثقفينا يعتبرون هذا الطرح بلا معنى، ويبررون موقفهم بأنهم لن يعيدوا اختراع العجلة في كل مرة، ويكفي التعلم من الغرب لأنه عَبَرَ هذا الطريق وكتب حوله الكثير.
لم أَرَ اختلافا بين مثقفينا حول هذا الأمر، بما فيهم المتدينيين، والشاهد هو الدراسات والأبحاث التي نُشرت، والتجربة نفسها واجهتُها حول موضوع الصراع بين التقليد والحداثة.
لهذه الأسباب كلها نحن معزولون وبعيدون عن جيراننا، ليس بسبب مذهبنا الشيعي الذي فرضه الصفويون على بلادنا السنية في الأصل، وليس بسبب اختلاف لغتنا عن التركية والعربية، لأن اللغة الفارسية ليست فقط لغة تغطي منطقة واسعة تضم إيران وأفغانستان وطاجكيستان وازبكستان…بل لأن كل ما سبقت الإشارة إليه من الانفصالات كان بسبب السياسات غير المباركة لحكوماتنا طوال الخمسة قرون الماضية، حيث تم توظيف العامل الثقافي والمذهبي من قبل الحكومة الإيرانية لتغريبنا عن جيراننا، وجعلنا منزويين في كلا المجالين: الحضارة الإسلامية والحضارة الإيرانية.
وبسبب انزوائنا وطبعنا العدائي تجاه جيراننا، أصبحت عبارة “الفن عند الإيرانيين فقط” على لسان العام والخاص، ليس هناك اعتراض على الجزء الأول من العبارة، أي “الفن عند الإيرانيين”، لأن كل أمة تمجد نفسها، ناهيك عنا نحن الذين نملك أقدم حضارة ساهمت في رقي الثقافة الإنسانية، لكن الذي ليس صحيحا بل ومُسَمِّما، هو الكلمة المضافة للجملة، وهي “فقط”، وهذه لوحدها كافية لتوضح ما قدمته هنا..
هوامش
1- “الحركة الخضراء” تيار يجمع داخله كل أطياف المعارضة الإيرانية، وهي التشكيلات السياسية بزعامة مير حسين موسوي ومهدي كروبي داخل إيران، والليبراليين واليساريين والملكيين خارج إيران. ظهرت في إيران بعد انتخابات 2009 واتخذت اللون الأخضر شعارا له.
2-ذُكر التورانيون في المصادر الزردشتية والفارسية القديمة مثل (الافستا)، كانوا يستوطنون آسيا الوسطى، ويعتقد أن أصولهم تعود إلى العرق الفارسي، وعرفوا في التاريخ القديم بحروبهم مع الإيرانيين.
3 -يقصد النظام الملكي البهلوي.
****
اترك رد