بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، يوم 22 نونبر 2013 تمت مناقشة أطروحة الباحث سعيد بنتاجر لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة بعنوان “الدليل الواقعي في الخطاب الطبيعي: بين المقاربة الوصفية والمقاربة المعيارية”، تحت إشراف الأستاذ عبد السلام بن ميس، وقد تكونت لجنة المناقشة بالإضافة إلى الأستاذ المشرف من السادة الأساتذة: ذ. محمد السيدي رئيسا وذ. إبراهيم مشروح عضوا وذ. محمد مزوز عضوا. ثم نال الباحث شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا.
يدور هذا البحث، كما هو واضح من العنوان،على مفهوم الدليل الواقعي في مقامه الخطابي الطبيعي. وحتى نقترب جيدا من طبيعة هذا الموضوع المدروس نحتاج إلى الوقوف عند كل كلمة من كلمات العنوان. فالدليل هو المحور الأساسي للبحث، وهو في الأصل موضوع للمنطق، لكنه يُدرس أيضا في مباحث أخرى كالابستمولوجيا والجدل والخطابة. تشترك التعريفات الاصطلاحية للدليل في اعتباره مجموعة من العبارات مرتبطة فيما بينها بعلاقة ترتب منطقي، بحيث تكون إحداها نتيجة والأخريات مقدمات. وهذه التعريفات يعود أصلها إلى مفهوم القياس كما أثله أرسطو في “الأورغانون”. لكن مشكلة هذا التصور البنيوي هو أنه اختزالي لا يعبر عن حقيقة الدليل كما نجده فعلا في الواقع. لذلك، قيد “الدليل” بصفة الواقعي لكي يفهم منه الدليل كما يمارس في الواقع، وليس كما يبنى نظريا في الأمثلة الاصطناعية المنطقية الصورية. وقد اضطلعت نظريات الحجاج المعاصرة بمهمة البحث في هذا الموضوع، على اعتبار أن الدليل هو، في جزء منه أو في كليته، فعالية حجاجية ضمن خطاب طبيعي. وقد حصرنا مجال البحث عن الدليل الواقعي في الخطاب الطبيعي، نظرا لاعتبار هذا الأخير المقام الأصلي للدليل الواقعي. وقصدنا بالخطاب الطبيعي في بداية الأمر اللغة الطبيعية كما تمارس في مقاماتها الواقعية، غير أننا حاولنا توسيع هذا المفهوم لينطبق على معنى أعم.
تحديد الإشكالية والمطلوب
لقد اشتغلنا في هذا البحث على الإشكالية الأساسية التي يمكن صوغها في التساؤل التالي: هل يمكن بناء نظرية مستوفية قادرة على بيان ما هو الدليل الواقعي من جهة، وما هو الدليل الواقعي الجيد من جهة أخرى؟ وتتفرع هذه الإشكالية إلى إشكاليتين كبيرتين: هل يمكن بناء نظرية تحليلية ملائمة لوصف الدليل الواقعي؟ وهل يمكن إنتاج نظرية في الدليل الواقعي الجيد؟
عالجنا في هذه الإشكالية الإمكان النظري لبناء نظرية في الدليل، أكثر من فعل البناء نفسه. مما جعل بحثنا يتخذ بعدا ابتستيمولوجيا، من خلال تركيزه على الأسس الفلسفية الإبستيمولوجية لإنتاج النظرية. دون أن يكون ذلك مانعا من من مناقشة مفهوم/ظاهرة الدليل. لذلك، كنا مطالبين، من جهة، بدراسة المباحث والمناهج التي جعلت مهمتها دراسة الدليل وتقديم الأجوبة عن الإشكالات التي تطرحها هذه الدراسة؛ ومن جهة أخرى، بدراسة التصورات المقدمة للدليل من داخل تلك المباحث وباستعمال تلك المناهج. هذا النوع من الدراسة وضعنا أمام إشكالات متعددة متعلقة بمناهج ومضامين النظريات المقدمة في الموضوع، سواء من جهة عدم التطابق الابستيمولوجي بين الأطر النظرية والمعطيات التجريبية والواقعية، أو من جهة عدم المناسبة بين التأسيس الفلسفي والأغراض النظرية والعملية للمعايير التقويمية.
استحضرنا في دراستنا لهذه الإشكالية التمييز المنهجي بين المقاربة الوصفية للدليل، وهي التي تروم الكشف عن “ظاهرة” أو “واقعة” الدليل الواقعي وطبيعتها وتفسيرها، وحاولت أن تجيب عن سؤال ما هو الدليل؛ والمقاربة المعيارية، التي تختص بالتنظير للخصائص التي يفترض، أو يجب، أن تكون في الدليل لكي يكون جيدا، وكذا الكشف عن المعايير والنماذج التي يتم بها تمييز الدليل الجيد عن الدليل السيء. بذلك، كان المطلوب الأول لنظرية الدليل هو تقديم وصف وتفسير لكل تجلياته. وذلك بالجواب عن سؤال: ما هو الدليل؟ وكان المطلوب الثاني من نظرية الدليل هو الكشف عن النموذج المعياري للدليل الجيد، والمعايير التي يتم بها تمييز الدليل الجيد من السيء، والكيفية التي يمكن بها تجنب الوقوع ضحية للأدلة السيئة والمغالطات.
فرضيات:
لقد افترضنا في بداية البحث أن الخلط بين المقاربتين الوصفية والمعيارية هو الذي يحد من إنتاج نظرية مستوفية وملائمة للدليل، سواء من حيث كونه ظاهرة واقعية أو من حيث كونه نموذجا جيدا قادرا على التمييز في الأدلة الواقعية بين الجيد منها والسيء. حيث أن النظريات التي تروم تقديم تصور لما هو الدليل في الواقع، تسقط في تقديم تصور لما هو الدليل الجيد. وتحتاج النظريات التي تروم تقديم نموذج معياري للدليل الجيد تتوفر فيه شروط معينة إلى أن تنطلق من نظرية في ماهية الدليل، قبل البحث في ما هو الدليل الجيد.كما أنها تحتاج دائما إلى تأسيس فلسفي لمعاييرها ونماذجها. وفي هذا الإطار تبرز العلاقة الابستيمولوجية الملتبسة بين الدليل والاستدلال في سياق الاكتشاف والدليل والاستدلال في سياق التبرير.
كما افترضنا أيضا أن بناء نظرية في الدليل تصير ممكنة فقط إذا انتقلنا من الأفق المنهجي الذي تدور فيه النظريات المنطقية والجدلية والخطابية القديمة والمعاصرة، التي تؤطر الدليل في مقامات ضيقة، إلى أفق منهجي أعلى قادر على أن يسمح بتأطيره في مقام أوسع يمكنه أن ينطبق على كل التجليات الواقعية للدليل. وأن هذا الأفق يفترض أن يكون هو الأعلى من بين كل المستويات النظرية الفوقية. حيث كان المطلوب من هذا التأطير العام أن يقدم لنا تصورا للدليل الواقعي يتميز بشموله لكل العمليات الاستدلالية.
المنهجية المعتمدة
لقد اعتمدنا في معالجة هذه الإشكالية على منهج مستمد أساسا من مقررات المدرسة التحليلية التي تعتمد على تحليل التصورات والنظريات. وهو تحليل يحاول العودة إلى الأصل الاستعمالي واللغوي للتصورات، كما يحاول العودة بالنظريات إلى مسلماتها المنهجية والفلسفية. وبذلك، كنا مطالبين بتحليل تصوري لغوي منطقي لمفهوم الدليل من خلال المقامات الواقعية التي يستعمل فيها. وإذا استحضرنا أن المقام العام الذي انحصر فيه بحثنا هو الخطاب الطبيعي، فإن منطلقنا في البحث، بعد عرض ومناقشة التصور المشهور للدليل، كان هو التوقف عند معنى الخطاب الطبيعي الذي يستعمل فيه الدليل. ومعلوم أن مفهوم “الاستعمال في المقام” هو أحد المفاهيم المفاتيح في المنهج الفلسفي التحليلي. الخطوة التحليلية الثانية، تمثلت في تحليل مفهوم الدليل، كما هو مستعمل في المجال الأكاديمي، إلى عناصره الأساسية، بما يشكل إطارا نظريا لفحص التصورات المقدمة في الدليل. وبذلك وجدنا أن الدليل يعالج من جهة عناصره العامة المحددة في طبيعته أو بنيته أو وظيفته أو أصله (علاقته بالإنسان).
بالموازاة مع ذلك، تطَلَّب منا هذا المنهج تحليل الأسس النظرية والفلسفية للمقاربات التي تناولت الدليل. سواء منها ما تعلق بالحدود النظرية أو بالمسلمات التي تنطلق منها النظرية. في هذه الخطوة كنا مطالبين بتحليل نماذج من النظريات التي تدعي أنها تقدم تصورا كافيا وملائما للدليل. وهو تحليل مكننا من الانتقال إلى فعل تقويمي ابستيمولوجي للقدرة التفسيرية لهذه التصورات باستحضار الأبعاد الواقعية للدليل.
كما اعتمدنا على المنهج التحليلي أيضا في الكشف عن الأسس الفلسفية لبعض المباحث والنظريات المعيارية التي تناولت الدليل والحجاج، وفحص النجاعة التوجيهية لهذه المباحث في اتجاه تجويد الدليل والحجاج وتقديم المعايير الملائمة لذلك.
هكذا قسمنا بحثنا إلى بابين، باب مخصص للنظرية الوصفية للدليل وباب مخصص للنظرية المعيارية للدليل. عالجنا، في الباب الأول، إمكانية صياغة نظرية تحليلية وصفية للدليل الواقعي كما يرد في الخطاب الطبيعي. وكان ذلك من خلال ثلاثة فصول: حاولنا، في الفصل الأول، أن نعرض للأسس النظرية والمفهومية لوصف وتحليل الدليل الواقعي والعناصر الكبرى للنظرية الوصفية للدليل، بالإضافة إلى لمحات أولية عن المقصود بالدليل الواقعي وبالخطاب الطبيعي. من خلال مناقشة التصور التقليدي الشائع لمفهوم الدليل، وما درج عليه الفلاسفة والمناطقة السابقين في تعريف وتصور الدليل، والتي تناولت التعريف الأرسطي للقياس وحدوده الداخلية والخارجية، وكذا تعريف كوبي في مصنفه التعليمي للمنطق وحدوده.الخطوة الثانية في هذا الفصل كانت هي مساءلة واستشكال المقصود بالدليل الواقعي من جهة، والخطاب الطبيعي من جهة أخرى، خاصة وأن كلاهما يمثلان إشكاليتان في الفلسفة. وفي مناقشتنا للمقصود بالواقعية في وصف الدليل، وجدنا في طريقنا عدد من العقبات التي تحول دون تقديم تصور واضح لهذا المفهوم. ذلك أن مفهوم الواقع نفسه موضوع إشكالي في الفلسفة، وبالتالي فإن الإدعاء أن هناك تصورا فلسفيا واضحا لما هو للدليل الواقعي أمر لا أساس يسنده. لذلك اكتفينا بالحدس في استكشاف عام للأبعاد الواقعية للدليل من خلال عرض التجليات التي يتخذها الدليل في مختلف المجالات العلمية والعملية، المتخصصة والعامة. واجتمع لنا بذلك على الأقل خمسة أبعاد للدليل هي أنه ذو بعد نفسي واجتماعي تواصلي ومعرفي وعملي وقيمي. وقد حرصنا أن تشمل هذه الأبعاد أوسع ما يمكن من المقامات، بمعنى أننا لم نحدد دائرة معينة للاستكشاف. انتقلنا بعد ذلك إلى مدارسة مقام الخطاب الطبيعي وانتهينا فيه إلى صعوبة الحصر النهائي للمقام الخطابي الطبيعي في مستوى من المستويات التي عولج فيها من داخل النظريات التداولية. يعمق هذا الإشكال أن الدليل، كما تؤكد ذلك بعض النظريات الحجاجية، لا ينحصر فقط في كونه ظاهرة لغوية، بل إن هناك أنساق سيميائية أخرى يتشكل فيها الدليل. وفي المبحث الثالث من هذا الفصل تم عرض الآلات المنهجية الأساسية (المفاهيم والمناهج) التي تم أو يفترض أن يتم بها مقاربة الدليل الواقعي في مقامه الطبيعي وكذا الإشكالات النظرية التي تثيرها أثناء التطبيق من حيث كفايتها في التعامل مع الأبعاد الواقعية للدليل والمطالب التفسيرية للنظرية التحليلية للدليل؛ أما الفصل الثاني من البحث، فقد خصص لعرض ثلاث نظريات تحليلية وصفية للدليل، كل واحدة منها تستلهم أسسها ومقاربتها من التقليد النظري والمنهجي الذي تنتمي إليه. النظرية الأولى هي نظرية جونسون المنطقية اللاصورية، والنظرية الثانية هي نظرية والتون الجدلية التداولية، وفي النظرية الثالثة ارتأينا أن نقدم نظرية ويلارد التواصلية البنائية التفاعلية، والتي تمثل إحدى للتطورات الكبيرة التي لحقت بالنظرية الخطابية في الولايات المتحدة الأمريكية، ما أدى إلى نشوء فروع كثيرة لنظرية الخطابة، خرج بعضها عن وصف الخطابة نفسه، وقد تناولنا قبل عرض نظرية ويلارد انطلاق وتطور دراسة مفهوم الدليل عند مؤسسي دراسة الدليل في هذا التراث الخطابي الأمريكي دوغلاس إهنينغر وواين بروكرايد. ومثلت النظرية التواصلية الأمريكية بتشعباتها المختلفة أحد ثمار الخروج عن الدراسة التقليدية للدليل، كما يمثل ويلارد أحد أهم منظري هذه المدرسة. أما الفصل الأخير من هذا الباب، فقد كان عبارة عن مناقشة نقدية للنظريات الثلاثة واستكشاف لأسسها النظرية. وفي هذا الفصل تم إيراد مجموعة من الملاحظات النقدية حول تلك النظريات والمناهج التي اعتمدَتها، مرة باستحضار الأبعاد الواقعية لدليل، وأخرى باستحضار الأسس المنهجية والفلسفية للنظريات الوصفية. سنعرض لأهمها في فقرة لاحقة.
حاولنا، في الباب الثاني، معالجة القسم الثاني من الإشكالية وهو المتعلق بما هو الدليل الجيد، والكيفيات التي يمكن بها تمييز الجيد والسيء من الدليل في الواقع، سواء عند إنتاجه أو عند تلقيه. وقد شاكلت بنية هذا الباب بنية سابقه. إذ تناولنا في فصله الأول الأسس النظرية والتاريخية للنظريات المعيارية في تقويم الدليل، من خلال التوقف عند ثلاثة أنواع من التقويم، وهي: التقويم المنطقي والتقويم الجدلي والتقويم الخطابي. وعرضنا في كل نوع منها للنظريات الكبرى المؤثرة في كل مبحث من المباحث المعيارية الثلاثة: المنطق والجدل والخطابة. في الفصل الثاني من هذا الباب، عرضنا لنظريات كبرى في تقويم الدليل، كل منها يمثل أطروحة قوية للمبحث والمنهج الذي تمثله، الأولى هي نظرية كل من جونسون وبلير المنطقية اللاصورية، التي قدم فيها المناسبة والكفاية والمقبولية كمعايير لتقويم الدليل؛ والثانية، هي نظرية كريستوفر تيندال الخطابية، وهي النظرية التي اعتبر أنها تمثل بديلا أفضل وأقرب للواقعية من المنطق اللاصوري، من حيث أنها تراعي المقام الخطابي للدليل؛ والأخيرة هي نظرية دوغلاس والتون التداولية الجدلية، وهي النظرية التي اعتمد فيها على التقويم الجدلي التداولي المزدوج للبنيتين الداخلية التعقلية والخارجية الحوارية للدليل، من خلال الخطاطات الحجاجية وأسئلتها النقدية من جهة والملاءمة الجدلية لأهداف أنماط الحوار، من جهة أخرى. الفصل الأخير من هذا الباب، كان على شكل مناقشة نقدية للنظريات الثلاثة، مناقشة لا تقف عند مقرراتها، بل تصل إلى مناقشة الأسس النظرية والفلسفية التي تتأسس عليها تلك النظريات والمباحث التي تؤطرها.
نتائج البحث
لقد اكتشفنا في هذا البحث وجود صعوبة فلسفية في بناء نظرية ملائمة للدليل الواقعي. وتتجلى في عدم الانفكاك من النزعة الاختزالية الناتجة عن الخلط بين المقاربة الوصفية التجريبية والمقاربة المعيارية القبلية. ذلك أن النظريات الوصفية المدروسة تسقط في تضييِق مقامات الدليل وتكثير وظائفه وتهميش دور القصدية الإنسانية في الدليل. وهي بذلك لا تقدم تصورا جامعا قابلا للانطباق على كل الأبعاد الواقعية للدليل. ويعود سبب عدم ملاءمة التصور الذي تقدمه هذه النظريات إلى إشكالية العلاقة الإبستيمولوجية بين الأطر النظرية والتجليات الواقعية للدليل، المتمثلة في ضيق الأولى عن استيعاب اتساع الثانية.
هكذا، يمكن القول أن النظريات المقدمة لتوصيف وتحليل الدليل تعاني من ضعف يعود إلى أسبابا متعددة، أهمها غلبة البعد المعياري في التعامل مع الدليل، إذ أن أغلب النظريات المعروفة، باستثناء النظريات التواصلية الأمريكية، كانت منشغلة بمعرفة الدليل الجيد لا بمعرفة الدليل، ومعرفة الدليل من أجل تقويمه وليس من أجل فهمه وتفسيره، كما أن الأطر النظرية التي تم التوسل بها لتحليل الدليل كانت في الغالب مؤسسة على مباحث ذات طابع معياري صريح، كما هو حال المنطق والجدل، أو غلب عليها الطابع المعياري، كما هو شأن الخطابة الأرسطية والبيرلمانية. وبالإضافة إلى الطابع المعياري لهذه النظريات ونتيجة لها، يكمن السبب الثاني لضعف النظريات المقدمة للدليل في انطلاقها من مباحث وحقول أضيق من أن تتناول هذا الموضوع، ذلك أنها تنجح في وصفه وتحليله فقط عندما تقوم باختزاله إلى ما يلائم أطرها النظرية وما يَنْحَدُّ بحدودها المنهجية. هذا الحكم ينطبق على المباحث الثلاثة المنطق والجدل والخطابة، كما ينطبق على مباحث أخرى مثل الابستيمولوجيا وعلم النفس وعلوم التربية وغيرها.
لقد أشرنا إلى أن النظريات المنطقية والجدلية، وإن اعترفت بتعدد وظائف الدليل، إلا أنها فرضت أثناء التأطير النظري وظيفة وحيدة للدليل مستقلة على الإنسان، هي عند جونسون الإقناع العقلي وعند والتون حل نزاع أو اختلاف في الرأي، وفي كل واحدة منهما، نجد تقسيمات جزئية إلى وظائف دنيا. لقد أغفلت جل النظريات ذات التوجه الجدلي القصدية الإنسانية، بسبب انطلاقها من مبدأ التعاون المعياري. لأن أخذ القصدية بعين الاعتبار قد يؤدي إلى تعدد وظائف الدليل، كما أنه قد يؤدي إلى نوع من النسبانية. وكما تم إغفالها قصدا في بعض الأحيان لصعوبة وضعها في إطار نظري ملائم. لهذه الأسباب، التي قد نجد لها مبررات نظرية مقبولة بدرجة من الدرجات، نجدها تستبعد التعالق الذي نراه ضروريا بين وظيفة الدليل وقصدية منتج ومقدم الدليل. هذا الاستبعاد نراه يضعف من القدرة التحليلية لأي منهج وإطار نظري يريد تحليل وظيفة الدليل. وإذا استحضرنا أهمية تحديد الوظيفة بالنسبة لتصور الدليل، ندرك حجم الضعف الذي سيعتري أية مقاربة نظرية وصفية للدليل دون الأخذ بعين الاعتبار لدور القصدية الإنسانية في تحديد ما هو الدليل الواقعي.
أما مشكلة النظريات المعيارية للدليل، فتتجلى في الافتقار إلى التأسيس الفلسفي الملائم والمقبول للنماذج المعيارية التي تقدمها. وقد لاحظنا أن النظريات المعيارية التي درسناها في حاجة إلى أسس فلسفية مقبولة اختيارا أو اضطرارا. كما أنها في حاجة، أيضا، إلى التلاؤم مع الواقع المتمثل في القابلية للتطبيق على الدليل في تجلياته الواقعية.
لقد كانت القوة المعيارية للمنطق الصوري مستمدة أساسا من موضوعيته واستقلاله عن التقويم الذاتي للإنسان. ذلك أنه يربط تقويم الدليل بصورته، أي بالعلاقة بين الأقوال والقضايا، وليس بأي عنصر آخر. وسواء تعلق الأمر بنظرية البرهان الأرسطية القديمة أو بالنظرية الصورية الاستنباطية المعاصرة، فإن للدليل قوته الخاصة من حيث أنه بنية استدلالية متعالية على الإنسان ومستقلة عنه وشمولية، لذلك فإن تقويمه كان مبنيا على معايير موضوعية تقررها الآليات التي يحددها النسق المنطقي السائد. لكن الانتقال من هذا النموذج، الذي أتهم بالاختزال والمثالية والبعد عن الواقع وعدم مراعاة المقام الطبيعي للدليل، إلى نموذج منطقي يراعي هذه الأبعاد كان له أثر في إبعاد المنطق من تلك الموضوعية الكاملة التي ادعاها أصحابه لمدة طويلة. فكانت النظريات البديلة المقدمة مثل المنطق اللاصوري والنظريات الجدلية الصورية مطالبة بأن تقترب ما أمكن من الدليل الواقعي ومن المقام الطبيعي للدليل، ولكنها كانت مطالبة أيضا من تقدم معايير موضوعية متعالية على الأهواء الشخصية والخصوصيات الثقافية لتكون صالحة لتقويم جودة الدليل وتمييزه من المغالطات والأدلة الفاسدة. فكان الجمع بين هذين المطلبين هما مشكلة المقاربات المعيارية الحجاجية غير الصورية. هذا بالإضافة إلى مشكلة متعلقة بكل نظرية معيارية على حدة والمتعلقة بالتأسيس الفلسفي لمعاييرها وآلياتها.
في المنطق اللاصوري، يعاني مبدأي المقبولية والكفاية، اللذين قدما كمعياران لتقويم الدليل، من تعليق التقويم بممارس الدليل، من خلال عدم تدقيقهما للمعايير موضوعية لتحديد أن مقدمة ما مقبولة وأن أخرى غير مقبولة، وأن إسناد ما كاف أو غير كاف. فالمقبولية متعلقة بمقبولية المخاطَب بالدليل، أو بجماعة المخاطَبين بالدليل، وهذا التعليق يؤدي بنا إلى السقوط في النسبانية المرفوضة، بحيث تصير جودة الدليل من عدمه غير متعلقة بالدليل نفسه، بل بهوى المخاطَب، فإن شاء قَبِلَ مقدماته وإن شاء رفضها. وحتى شرط أن تكون المقبولية متعلقة بجماعة المخاطَبين النموذجيين، الذي اقترحه أنتوني بلير ورالف جونسون، وجدنا أنه لا يحل المشكلة بقدر ما يخفف منها فقط.
في النظرية الجدلية، وهي للإشارة أفضل آلية منهجية تقويمية عامة، يجب على كل أفعال الحجاج أن تستند في تقويمها إلى معايير خارجية متعلقة أساسا بالأطراف الفاعلة والمنفعلة في الحجاج. ويُفترض غالبا وجود نوع معين من التعاون من أجل تحقيق المطلوب من الحجاج. هذا التعاون يتخذ أشكالا مختلفة لكن شرط التعاون ليس مسألة إرادية بين المتداولين بالأدلة بل يجب أن يكون متعلقا بتوجيه معياري خارجي. ولكي تكون هذه المعايير مقبولة يجب أن لا تكون عرضية أثناء الجدل، بل جوهرية قبل الجدل وأثناءه وبعده. وإلا صارت تلك المعايير نفسها موضوعا للجدل، وصار الاختلاف على كيفية تقييم الجدل موضوعا للجدل نفسه. بهذا المعنى، يكون الجدل في حاجة دائمة إلى معايير أخلاقية مقامية يضطر المتجادلين النزول عند قهرها، أو على الأقل القبول بمبادئها الكبرى.
وفي الخطابة، وإذا استحضرنا أن الدليل الواقعي ذا بعدين متكاملين: بعد تعقلي ذهني فكري وبعد اجتماعي، فإن التأصيل المعياري يجب أن يكون مبنيا على أسس اجتماعية أشبه بالمواضع الخاصة التي عرضها أرسطو في كتاب الخطابة، أو بمفهوم الحقل الحجاجي كما قدمه تولمين وتدارسه باستفاضة منظري الحجاج الأمريكيين، وعلى مواضع عامة أو قواعد معيارية عامة مجردة، كما هو الأمر في جدل أرسطو أو الخطاطات الحجاجية كما نظر لها منظري الحجاج منذ بيرلمان إلى والتون.
لقد بدا لنا، بعد فحص هذه النظريات، أن الاعتماد على ما يمكن تسميته بالتأسيس الداخلي للتقويم قد لا يفيد في بناء معيار ملائم للدليل الواقعي. ونقصد بالتأسيس الداخلي ربط معيار تقويم الدليل بممارسي الدليل أنفسهم سواء بمنتجه أو بمتلقيه أو بالتعاون بينهما. لذلك نرى أنه لا مناص من أن يكون المعيار مؤسس على أصل خارجي، سواء كان أصلا نظريا (رؤية فلسفية سائدة) أو أصلا اجتماعيا (قيم المجتمع، قيم الجماعة العلمية، …) أو كلاهما. بهذا المعنى يمكن القول أنه من الصعب على النظريات التقويمية للحجاج الانفلات من الأخلاق، بل إن جوهر المشكلة في هذا المقام متعلق بالأخلاق. مع توسع في فهم المقصود بالأخلاق في هذا الصدد، والتي نريد بها التوجيهات المعيارية لما يفترض أو يجب أن يكون عليه الحال أو التصرف.
اترك رد