الحواريّة هي تفاعل قائم في الملفوظ أو القول بين عوني التلفّظ من يتكلم ومن يُتوجّه إليه بهذا الكلام. أو هي توافر صوتين أو وعيين أو أكثر في ملفوظ واحد مرتبطين بسياقين تلفّظيين مختلفين.
ومهما يكن من أمر المرجعيات التي أسّست لهذا المصطلح أكانت فلسفية حضارية أم كانت مما تختص به الموسيقى ولاسيما فيما يتعلق بالبوليفونية، فإنها غدت ملازمة لجنس خطابي هو الرواية وسمة من سماته الأجناسية التي تجعله مفارقا غيره من الأجناس مختلفا عنها.
والحوارية في الرواية تطلق على تلك الرواية التي تشتمل على أصوات متعددة ووجهات نظر مختلفة ولغات ولهجات وأساليب وأجناس خطابية. فهي رواية تكون بالضرورة مناقضة الرواية المونولوجيّة.
وفيما نزعمه أن الحوارية في الرواية قائمة فيها من مستويين اثنين: الرواية بوصفها خطابا والرواية بوصفها نصّا.
أولا: الحوارية في الرواية بوصفها خطابا:
ويمكن ضبطها في مستوى التحقق الخطابي، في ذلك التفاعل القائم بين المؤلف الروائي) والقارئ. وهذا التفاعل في هذا المستوى يتأدّى بالرواية بوصفها الأداة التي يتحقق بها هذا التفاعل ووسيلته.
فالرواية تكتب إجابة عن سؤال ما (ما الذي حدث أو ماذا يمكن أن يحدث). وتوجه إلى متلق ما للتأثير فيه بما هو من أصل الرواية ومن طبيعتها، وبما تفرضه قواعد نظمها وتأليفها. من هذا الجانب يمكن القول إن الرواية عمل باللغة أو هي تقرير كبير بما أنها حكاية والحكاية عمادها الإخبار.
فإن كان منطلق التفاعل فيما تقدم من المؤلف في اتجاه القارئ، فإنه متحقق –كذلك- في صورته العكسية. فليس المؤلف وحده من يكتب نصه الروائي، وإنما لا بد من أن يشاركه فيه قارئه أو متلقيه. فلا مناص من أن يستدعي المؤلف في ذهنه قبل الكتابة و وهو يكتب قارئا يراه كفيلا بان يتلقى نصه ويتقبله.
يستتبع هذا ضرورة تأثيرا من هذا القارئ فيما ينتجه أو يكتبه الروائي من جهات أهمها:
1-اختيار الموضوع الملائم والمناسب المفترض إن يقبل عليه القارئ ويتفاعل معه وأن ينفعل به فينال رضاه.
2-اختيار طريقة في الكتابة دون غيرها وفق ما يسمح به نشاط القارئ التقبليّ وميولاته. فيغلب مثلا الحكاية على الخطاب أو يميل الخطاب على حساب الحكاية أو يختار نهجا في الكتابة تقليديا أو يسلك مسلك التجريب. يعمد إلى التمثيل الحقائقي أو يتجاوزه إلى الغريب أو الفانتاستيكي أو إلى الميتاروائي أو يمزج بين هذه الضروب في متن حكايته.
ما يمكن قوله فيما يخص الحوارية في الرواية بوصفها خطابا إن هذه الحوارية في هذا المستوى تتحقق في المقام الأكبر مقام الكتابة والقراءة أو مقام المؤلف والقارئ. إذا هو ضرب من التفاعل بين عوني خطاب من خارج النص وإن كان بعض من آثار هذا التفاعل مما يجري داخله. إذ ليس المؤلف وحده من يكتب الرواية، وليس إنتاجها خاضعا لمونولوجيه مصدرها المؤلف، وإنما هي حصيلة هذا التفاعل المعلن أو غير المعلن بين هذا العون التلفظيّ ومخاطبه وحصيلة حوار بينهما له على فعل الكتابة تأثير وتوجيه.
على أن آثار هذا التفاعل ليست ظاهرة يمكن أن تدرك بيسر وأن ، وإنما يجري التفاعل في مستوى الذهن المنتج للرواية في الخطاطات المتوخاة في إنتاج الرواية والبرامج المنتهجة في كتابتها وإن كنا أحيانا نمسك بها في ما هو مصرح به من قبيل:
-التعديلات التي قد تخضع لها الرواية قبل نشرها وهو إجراء جار تداوله فيما بين الروائي ومن يتوسم فيهم القدرة على التوجيه والنصح لما فيه صالح النص قبل أن يغدو ملكا لقارئه.
-التصريحات التي قد يدلي بها هذا المؤلف أو ذاك.
-في متن الرواية ذاتها حين تلتفت لتصف ذاتها فيما يسمى بالميتاروائي، وإن كان هذا داخلا في مقام التخييل.
إن ما نظفر به من هذه الحوارية وأن نكون قادرين على تبينه هو الحوارية على مستوى الرواية بوصفها نصّا. وقد اتخذنا إلى توضيح ذلك رواية “رسمت خطا في الرمال ” لهاني الراهب.
ثانيا: الحوارية في الرواية بوصفها نصّا:
نلفي الحوارية في هذه الرواية مجسدة في عتبتها الأولى التي هي العنوان منها: “رسمت خطا في الرمال”. يتنازع الضمير في هذه الجملة الإسنادية أعوان كثر أو أصوات:
-فهو المستعمر (السيد فكس) وهو يخط بقلمه حدودا وهمية فتكون نفيطية (جيم) وتكون نفيطية (دال) … وتكون النفيطيات…..
-وهو المؤلف الكائن التاريخي وهو يخط حدا لحياته أو لنشاطه الإبداعي فتصدق النبوءة، إذا ما نظرنا إلى أن هذه الرواية هي آخر ما كتبه هذا المؤلف قبل أن يفارق ويغادر.
-وهو المؤلف الكائن الخطابي وهو يكتب هذه الرواية في إطار ما يعرف بحديث الرواية عن ذاتها.
والحوارية في هذا المقام ليست في تعدد الأنوات هذه، لا، وإنما لأن كلا منها يستدعي بالضرورة مخاطبا من صنفه يتفاعل معه حين يتوجه إليه بهذا الخطاب الإخباري المحمول بالعنوان. فنكون عندها إزاء أصوات متعددة وأنماط وعي مختلفة تتداخل تداخلا مكينا.
تتأكّد هذه الحوارية حين نتجاوز عتبة العنوان إلى الرواية. ويمكن معالجته من مداخل كثيرة لعل أهمها:
-تعدد الحكايات.
-تعدد الأجناس الأدبية.
-تعدد طرق التمثيل.
-تعدد وجهات النظر.
تعدد الحكايات:
تفارق هذه الرواية المتعارف عليه من أنماط الروايات التقليدية فتؤسس حكاياتها على حكايات متعددة نجملها في ثلاث كبرى:
-حكاية المؤلف
-حكاية الواقع .
-حكاية الرواية.
وهذه الحكايات بدورها تتشظى فتتفرع إلى أخرى صغرى. فحكاية المؤلف مثلا تتشكل من حكايات عيسى بن هشام وحكايات شهريار وشهرزاد وحكايات محمد عربي محمدين أو المؤلف في علاقته بأفقزاد.
وما يجعل هذه الحكايات من صميم الحوارية ليس تعددها وإنما هو أن كلا منها منزل في مقام سردي منفصل عن غيره من المقامات السرديّة متصل به معا. فكل حكاية من هذه الحكايات لا توجد في هذه الرواية إلا منضفرة بغيرها متداخلة معها مندمجة فيها متفاعلة وإياها.
تعدد الأجناس الخطابية:
وقد تشكلت رواية “رسمت خطا في الرمال” من أجناس خطابية شتى. منها ما هو منتم إلى الخطابات الإبداعية ومنها ما يفارقها. فقد حوت ضروبا شتى من هذه الخطابات منها المقامة والسيرة الشعبية وقصص العشاق والقصص الديني والتاريخ والرواية…
وقد ركبت هذه الخطابات في هذه الرواية بما يعمق فيها من ميسم الحوارية. فلا خطاب فيها إلا وهو متعدد من حيث الإحالة والإبانة. فشهريار مثلا هو مؤلف الرواية وهو السلطان أو الخليفة المعاصر وهو السلطان أو الخليفة التاريخيّ. والمؤلف هو عيسى بن هشام (أبو الفتح) وهو محمد عربي محمدين وهو هاني الراهب نفسه وهو شهريار. وشهرزاد هي شهرزاد في حكاياتها المعروفة وهي الرواية ذاتها تروي عن نفسها وهي المعادل للمرأة العربية في الواقع . ومأتى الحوارية إلى هذه الوجوه المتعددة أن كل وجه منها تسهم في تشكيله أنماط وعي مختلفة وأصوات متعدّدة.
تعدد طرق التمثيل:
توخت رواية “رسمت خطا في الرمال ” في التمثيل طرقا متنوعة جمعت بين ما هو حقائقي يحيل على ما هو من خارج الرواية مهما كان انتماؤه إلى الواقع أن إلى التاريخ وما هو غير حقائقي في إطار ما يمكن أن نطلق عليه التمثيل الذاتي سواء تعلق بالفوق طبيعي أم بما هو من قبيل الميتاروائيّ.
فقد جمعت نثار حكاياتها من سيرة مؤلفها وواقع المجتمع العربي وخاصة بعد الطفرة النفطيّة. وكانت قد رصدت حقبا مختلفة من التاريخ العربي منذ النشأة إلى تخوم تنتهي عند حرب الخليج الثانية. وقد أضافت إلى ذلك الفنون مما تشكل به متن هذه الرواية كالرسم والفلم والسينما والمسرح… وإلى ذلك جميعه ضمّت الغريب والفانتاستيكي ولم تشأ أن تكون هي نفسها مدارا تمثيليا لذاتها.
وكل وجه من وجوه التمثيل في رواية “رسمت خطا …” مرتبط بنمط وعي معين وبوجهة نظر مختلفة لها رؤيتها المخصوصة للكتابة الروائية ولوظائفها ولعلاقتها بالمرجع…
تعدد وجهات النظر:
وإن كانت وجهة النظر في هذه الرواية في أساسها داخلية فإنّها قد شملت الأنواع الصغرى التي من الممكن أن يتفرع إليها هذا النوع من وجهات النظر. فكل شخصيّة من شخصيات هذه الرواية تروي حكايتها الخاصة بها وفق يطلق عليه الإنشائيون التبئير المتغير.
ويتجلى تعدد الأصوات في هذه الرواية واختلاف أنماط الوعي في أبرز مظاهره في حدث مركزيّ فيها هو حرب الخليج الثانية. فكل من هذه الشخصيات تروي حكاية هجوم الحجاج بن يوسف على دول نفيطية من منظورها الخاص بها المختلف عن مناظير غيره انطلاقا مما عايشه واختبره وانطلاقا من موقعه في علاقته بهذه الحكاية والأطراف الفاعلة فيها والزاوية التي اتخذها للنظر إليها وتقييمها. فبلقيس في هذه الرواية وفكس وبث تمبلر ومحمد عربي محمدين منهم من كان يرفض هذا الحدث رفضا قاطعا ومنهم من كان يؤيده ومنهم من كان يخطط لتنفيذه ومنهم من اكتفى بالشهادة عليه… فتتصارع وجهات النظر إزاء مروي واحد وتتدافع بما يقوي المنزع الحواريّ في هذه الرواية ويعمقه فيها.
عود على بدء:
كيف يمكن أن نسم الرواية بالحوارية والحال أن كل ملفوظ مشتمل بالضرورة على وعيين مختلفين منزلين في سياقين مختلفين إن على سبيل اليقين أو على سبيل الافتراض؟
كيف يمكن أن نقول إن الرواية جنس حواري والحال أن كل ملفوظ لا يمكن أن يوجد في حالته العذرية حتى لغة آدم غير منفلتة من هذا السنن “وعلم آدم الأسماء كلها…”؟
كيف يمكن التمييز بين نوعين من الروايات فنقول عن هذه إنها حوارية والأخرى إنها مونولوجية؟ والحال أن الحوارية هي سمة أجناسية قارة للرواية تتميز بها من سائر الخطابات الأخرى؟
إن كل جنس خطابي هو بالضرورة جنس حواري. وإن كل رواية حوارية لا شك في ذلك. وإن الرواية تظل قابلة لأن تكون حوارية أكثر من غيرها من هذه الأجناس. غير أن سمة الحوارية في الرواية تتفاوت نسبها من رواية إلى أخرى. فمنها ما يجري في الرواية عفو الاستعمال والتداول ومنها ما يقصد فيها إليه قصدا يكون عبارة عن عقد قراءة بين الروائي وقارئه يقر بانتساب هذه الرواية أو تلك إلى الاتجاه التجريبي ويضفي عليها ما تقتضيه شروط الكتابة الروائية الحداثية ومواصفاتها.
وأن الحوارية إذن على مستوى الرواية بوصفها نصا هي حوارية مفتعلة من قبيل ما هو لعبيّ فيها ما دام كل تعدد في الأصوات فيها وكل تعدد في أنماط الوعي لا بد أن يشكل وفقا الإستراتيجية الذات الواضعة لها والتي تتموقع في المقام الأخير مقام المؤلف والقارئ.
ومن هذا المنطلق نزعم أن الحوارية الحق هي تلك التي تتحقق بالتفاعل القائم بين هذا المؤلف ومن يتوجه إليه بروايته.
* (قدمت هذه المداخلة في ندوة سؤال الرواية سؤال التعدد المنعقدة بمدنين – تونس أيام: 11- 12- 13 أفريل 2014.)
اترك رد