أولا ـ مكانة العلماء وفضلهم:
العلماء.. هم ورثة الأنبياء، وخزَّان العلم، ودعاة الحق، وأنصار الدين، يقول -جل وعلا-: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ). ويقول -سبحانه-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ). ويقول -جل وعلا-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ). وروى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين”. وروى أبو الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة القدر. العلماء هم ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر “(1). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به، وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض، حتى الحوت في البحر. وقال لقمان لابنه: “يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله عزَّ وجلّ يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض بوابل السماء”.
وإن موت العلماء ثلمة في الدين، وخسارة فادحة للإسلام والمسلمين، فبموتهم يذهب العلم، ويظهر الجهل، ويترأس الناسُ الجهال, فقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ).
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة “أنهم يدينون الله باحترام العلماء الهداة”، وقال الحسن البصرى: “كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار”. وقال الأوزاعي: “الناس عندنا أهل العلم. ومن سواهم فلا شيء”.
وصدق الشاعر:
النـاس من جهةِ التِّمثال أكفَاءُ أبـــوهُمُ آدم والأمُّ حــوّاءُ
فإن يكـنْ لهمُ في أصلهم نسبٌ يفاخرون به فـالطينُ والمـاءُ
مـا الفضـل إلا لأهل العلم إنهمُ على الهُدى لمن استهدى أدلّاءُ
وقدر كل امرئٍ مـا كان يُحسنه والجاهلون لأهل العلـم أعـداء
ثانيا ـ حرمة سب المسلم:
سب أى امرئ ينتمى لدين الإسلام ـ بغض النظر عن درجة إيمانه ـ يعد من الكبائر، يقول -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم مبينا ذلك: ” كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله”. فالغيبة محرمة، وغيبة العلماء من أشد أنواع الغيبة، يقول -جل وعلا-: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم “أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته “2 . هذا إذا كان فيه ما يقول، وهو من عوام ومن عموم الناس، كيف بالحديث عن العلماء بالحق وبالباطل؟!
يقول -جل وعلا-: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)، (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ)، (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)، (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى).
وفي الحديث الذي رواه الترمذي: “وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم”(3)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: “من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه؛ أضمن له الجنة”(4). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”(5)،ويقول صلى الله عليه وسلم: “إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبيّن فيها، يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب”(6).
ثالثا ـ أسباب سب العلماء:
1 ـ الغَيرة والحسد: قال الذهبي: “كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا كان لحسدٍ أو مذهبٍ أو هوى”.
2 ـ الهوى: قال الله -جل وعلا-: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ). وقال شيخ الإسلام: “صاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه”. وكان السلف يقولون: “احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه”.
3 ـ التقليد: التقليد ليس مذموما بعمومه، وقد فصل العلماء في قضية التقليد، ولكنني أحذر من التقليد الذي يؤدي إلى الحديث في لحوم العلماء. قال الله -جل وعلا-: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ). قال ابن مسعود: “ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر؛ فإنه لا أسوة في الشر”. وقال أبو حنيفة: “لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت”. وقال أحمد: “من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال”.
4 ـ التعصب: من أشد أنواع التعصب الحزبية: الحزبية لمذهب، أو جماعة، أو قبيلة، أو بلد. قال أبو حامد الغزالي: “وهذه عادة ضعفاء العقول، يعرفون الحق بالرجال لا الرجال بالحق”.
5 ـ النفاق: يقول تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً)، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ)، (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).
رابعا ـ الآثار المترتبة على سب العلماء:
1ـ ردّ ما يقوله العالم: كان الرسول قبل بعثته صلى الله عليه وسلم هو الأمين، هو الصادق، هو الحكم، هو الثقة.. ما الذي تغير عندما جاء بهذا الدين؟ أصبح كاهنا شاعرا كذابا مجنونا.
2ـ جرح العلم الذي معه: جرح العالم جرح لإرث النبي صلى الله عليه وسلم وهذا معنى قول ابن عباس: “من آذى فقيها فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آذى رسول الله فقد آذى الله -جل وعلا “.
3ـ ابتعاد الطلاب عن الشيوخ: جرح العلماء سيؤدي إلى بعد طلاب العلم عن علماء الأمة وسلفها الصالح، وأخذهم العلم ممن ليس أهلا له.
4ـ تقليل قدرهم عند العامة: تجريح العلماء تقليل لهم في نظر العامة، وذهاب لهيبتهم وريحهم، وهذا يسُرُّ أعداء الله ويفرحهم.
5ـ تمزيق الأمة: إن المستشرقين حينما أرادوا الطعن في الصحابة أتعلم بمن بدءوا؟ بدءوا بأبى هريرة .. لماذا لأنه أكثر الصحابة رواية للسنة، وحينما أرادوا الطعن في كتب السنة بدءوا بالبخارى لأنه الأشهر والأضبط، فإذا سقط هذان الرجلان وهما الأعلى فسقوط بقية الرواة سهل يسير .. فليحذر الشباب أن يكونوا عونا لأعدائنا في ذلك.
خامسا ـ ما هو واجبنا تجاه علمائنا؟
1ـ أن نحفظ للعلماء مكانتهم ودورهم في قيادة الأمة، وأن نتأدب معهم. قال طاوس بن كيسان: “من السنة أن يوقر العالم”. وقال الزهري: “كان أبو سلمة يماري ابن عباس؛ فحرم بذلك علما كثيرا”. وقال المغيرة: “كنا نهاب إبراهيم كما نهاب الأمير”. وقال عطاء بن أبي رباح: “إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له، كأني لم أسمعه أبدا، وقد سمعته قبل أن يولد”. وقال الشافعي: “ما ناظرت أحدا قط إلا وتمنيت أن يجري الله الحق على لسانه”. وذُكر أحد العلماء عند الإمام أحمد بن حنبل، وكان متكئا مريضا، فاستوى جالسا وقال: “لا ينبغي أن يُذكر الصالحون فنتكئ”.
2ـ أن نعلم أنه لا معصوم إلا من عصمه الله، وهم الأنبياء والملائكة. قال الإمام سفيان الثوري: “ليس يكاد يفلت من الغلط أحد”. وقال الترمذي: “لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة؛ مع حفظهم”. وقال ابن حبان: “وليس من الإنصاف ترك حديث شيخ ثبت صحة عدالته، بأوهام يهم في روايته، ولو سلكنا هذا المسلك تُرك حديث الزهري، وابن جريج، والثوري وشعبة؛ لأنهم أهل حفظ وإتقان، ولم يكونوا معصومين حتى لا يهموا في رواياتهم”..
3ـ الخلاف قائم إلى قيام الساعة: نعم.. الخلاف منذ عهد الصحابة وإلى أن تقوم الساعة، سيبقى (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ).
4ـ أن نفوت الفرصة على الأعداء، وأن ننتبه إلى مقاصدهم وأغراضهم، وندافع عن علمائنا. فالنصارى لهم من يعظمونه فى كنائسهم، ورغم اختلاف مللهم فهم مجمعون على تقديس بابا الفاتيكان، وهكذا كل الملل.
5ـ لا نسيء الظن فيهم: قال عمر رضي الله عنه “لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا”.
6ـ أن ننشغل بعيوبنا،
يا واعظ الناس قد أصبحتَ مُتَّهمًا إن عِبْـتَ منهم أمورًا أنت تأتيها
وأعظـم الإِثـم بعد الشرك نعلَمُهُ في كل نفس عماها عن مَساويها
عرفتها بعيوب الناس تُبصرُهـا منهم ولا تبصر العيب الذي فيها
قد يقصر العالم، ولكن هل يعني أنه إذا قصر نترك علمه وعمله؟!
اعملْ بعلمي وإن قصَّرْتُ في عملي ينفعْكَ علمي, ولا يضرُرْكَ تقصيري
7ـ التثبت من صحة ما ينسب إلى العلماء، فليس كل ما ينسب إلى العلماء صحيح، فكم استمعنا إلى أقوال نسبت لكبار علمائنا، ولما ذهبنا إليهم قالوا: والله كذب، ما قلنا شيء.
8 ـ يجوز لنا ألا نأخذ بالفتوى إذا لم توافق الدليل، لكن لا يجوز لنا الطعن في العلماء.
9ـ أن يقصد المتحدث بكلامه وجه الله -جل وعلا، وأن يحذر من الهوى والتشفي، وحب الظهور. (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).
10ـ الإنصاف والعدل، إذ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “أهل السنة أعدل مع المبتدعة من المبتدعة بعضهم مع بعض”.
11ـ الخطأ على نوعين: خطأ في الفروع، وخطأ في الأصول، أما مسائل الفروع فهي مسائل اجتهادية يجوز فيها الخلاف.
12ـ الاتصال بمن وقع منه الخطأ: لأنك إذا رددت عليه قد تُقنع نصف الناس، لكن إذا رجع هو سيقتنع كل الناس الذين أخذوا بفتواه.
والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات
الهوامش:
-1 الترمذي: العلم (2682) وأبو داود: العلم (3641) وابن ماجه: المقدمة (223) وأحمد (5/196).
-2 مسلم: البر والصلة والآداب (2589) والترمذي: البر والصلة (1934) وأبو داود: الأدب (4874).
-3 الترمذي: الإيمان (2616) وابن ماجه: الفتن (3973) وأحمد (5/231 ,5/237).
-4 البخاري: الرقاق (6474) والترمذي: الزهد (2408) وأحمد (5/333).
-5 البخاري: الإيمان (10) ومسلم: الإيمان (40) والنسائي: الإيمان وشرائعه (4996).
-6 البخاري: الرقاق (6477) ومسلم: الزهد والرقائق (2988) والترمذي: الزهد (2314).
اترك رد