منذ أن أمر الله – عز وجل – بالصلاة خلف المقام فى قوله : ” واتّخذُوا من مقام إبراهيم مصلّى ” ( البقرة /125 ) وجبَ على المسلمين أن يتعاهدوه بالحفظ والوقاية بكل الوسائل المصونة له ، كما نحافظ على الحجر الأسود ، ولكن ما المراد بالمقام فى الآية ؟
اختلف العلماء فى المراد بالمقام – بفتح الميم من قام يقوم موضع القيام وأما المقام بالضم فهو من أقام يقيم – فقيل المسجد كله مقام إبراهيم ، وقيل هو الحجر الذى وضعته زوج إسماعيل تحت قدم إبراهيم عليه السلام حين غسلت رأسه ، ولعل الرأى الراجح أنه هو الحجر الذى كان يقوم عليه إبراهيم عليه السلام لبناء البيت الحرام لما ارتفع جداره ، وكان إسماعيل عليه السلام يناوله الحجارة فيضعها بيده ، وكلما كمل من ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه ، حتى انتهى إلى وجه البيت .
ولقد كان من معجزات إبراهيم الخليل عليه السلام أن صار الحجر تحت قدميه رطباً فغاصت فيه قدماه ، وقد بقى أثر قدميه ظاهراً فيه من ذلك العصر إلى يومنا هذا ، وإن تغير عن هيئته الأصلية بسبب مسح الناس بأيديهم قبل وضع الحجر فى المقصورة النحاسية ، وكانت العرب تعرف ذلك فى جاهليتها ، يقول أبو طالب – عم النبى صلى الله عليه وسلم فى قصيدته اللامية المشهورة – قالها حين تحالفت قريش على بنى هاشم فى أمر النبى – صلى الله عليه وسلم – :
وموطئ إبراهيم فى الصخر رطبة … على قدميه حافياً غير ناعل .
فيكون الحجر الأسود والحجر المقام أقدم أثر محترم لدى المسلمين بالاتفاق ، إذ بيننا وبين أبينا إبراهيم عليه السلام أكثر من أربعة آلاف سنة .
وعلى ضوء ما سبق يجب تصحيح مفهوم العامة أن المقام هو المكان الذى دفن فيه الخليل ، فقد دفن عليه السلام فى حبرون بفتح ثم سكون وهى البلدة المعروفة بالخليل اليوم فى فلسطين .
وأول من سن الصلاة خلف المقام – عمر رضى الله عنه – ، ففى البخارى عن أنس ابن مالك قال :
قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه – : ” وافقتُ ربى فى ثلاث أو وافقنى ربى فى ثلاث قلت : يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى … ” ( إلخ الحديث ) ، وعن جابر أنه قال : ” استلم رسول الله الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ : ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ” فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين ” ، قال ابن كثير فى تفسيره : ” وهذا قطعة من الحديث الطويل الذى رواه مسلم فى صحيحه من حديث حاتم بن إسماعيل ” ( ج 1 /392) .
إذن السُّنة أن تنتهى عبادة الطواف دائماً بأداء ركعتين خلف المقام ، بأن يكون المقام بين المصلى والكعبة ، ولا يشترط مقابلة عينه ومحاذاته ؛ لأنّ حجم المقام الذى هو الحجر صغير نحو ذراع ، لا يكفى أن يكون مصلّى لشخص واحد ؛ فمن صلّى وراءه المقام فقد أتى بالسنة وإن لم يقف خلف الحجر بالتمام ؛ لأنّ ما قارب الشئ يعطى حكمه ، فلو اشترطنا على المصلى مقابلة عين الحجر للزم أن يصلى الناس خلفه فرداً فرداً لصغره ، وفى ذلك من الحرج والمشقة ما لا يخفى ، فـــ ” من ” فى الآية بمعنى ” عند ” وما ذهب إليه الأخفش بأنها زائدة فهو بعيد ، وكذا من قال بمعنى في .
ويقرأ فى الركعة الأولى بعد الفاتحة ” قل يأيها الكافرون ” ، وفى الثانية ” قل هو الله أحد ” ،ويستحب أن يدعو بعدها لنفسه ، ولمن أحب ، وللمسلمين ، وعلى أنه إذا تعذر أداء الركعتين خلف المقام لازدحام الطائفين وتكاثرت أعدادهم – كما نشاهده فى هذه الأيام – فإن الركعتين تصلى حيثما تيسر من المسجد إلا فى الحجر والبيت وعلى ظهر البيت – كما هو مذهب المالكية – ، فقد ورد أن عمر ركعهما بذى طوى – وهى بئر معروفة خارج المسجد الحرام بمسافة ليست باليسيرة – ، ويوالى بين الطواف وركعتيه ، والتفريق اليسير مغتفر .
والراجح أن حجر المقام من الجنة كالحجر الأسود ، نزل مع أبينا آدم عليه السلام من الجنة فقد روى الترمذى وأحمد أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ” إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله تعالى نورهما ، ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب ” ( المسند 2/214 ) والترمذى ح 878 ) .
وموضع المقام مختلف فيه ، فقد ورد أنه كان فى زمن رسول الله وزمان أبى بكر ملصقاً بالبيت ثم أخّره عمر بن الخطاب لما جاء السيل .
وذلك أنه جاء سيل أم نهشل – امرأة من مكة ذهب بها السيل وماتت فسمى باسمها – فى خلافة عمر سنة 17هــ إلى مكة من أعلاها فدخل المسجد الحرام ، وكان سيلاً عظيماً ، بحيث اقتلع المقام من موضعه وذهب به فلمّا جفَّ الماء وجدوه بأسفل مكة ، فأُتى به وألصق فى وجه الكعبةِ وربط بأستارها ، وكان عمر يومئذ بالمدينة ، فلما بلغهُ ذلك هاله الأمر ، وركب من ساعته فزعاً إلى مكّة ، فدخلها بعمرةٍ فى رمضان من السنة نفسها ، فلمّا دخل المسجد الحرام ووقف على حجر المقام قال : أنشد الله عبداً عنده علم فى هذا المقام ، فقال المطلب بن أبى وداعة السهمى – رضى الله عنه – أنا يا أمير المؤمنين عندى علم بذلك ، فقد كنتُ أخشَى عليه من هذا الأمر ، فأخذتُ قدره من موضعهِ إلى الركن ، ومن موضعه إلى باب الحجر ، ومن موضعه إلى زمزم بمقاط ( أى حبل ) وهو عندى بالبيت ، فقال له عمر : فاجلس عندى ، وأرسل إليها ، فأتى بها فمدّها ، فوجدها مستوية إلى موضعه هذا ، فسأل الناس وشاورهم ، فقالوا : نعم ،هذا موضعه ، فلما استثبت هذا عمر أمر به ، فأعلم ببناء تحت المقام ، ثم وضعه ، فهو فى مكانه هذا إلى اليوم . وسواء كان المقام فى مكانه أو أخّره عمر بإجماع الصحابة فنحن مأمورون باتباعهم والتمسك بطريقتهم .
وكان المقام فى أرض المطاف من أيام إبراهيم الخليل إلى ما بعد الإسلام معرضا للتلف بسبب السيول والأمطار واللمس ، ثم عملت له مقصورة ، عليها قبة ووضعت فوق المقام ، فبذلك صار فى حرز مكين مأمون العاقبة ، وكان أهل مكة يجعلونه فى جوف الكعبة حرصاً عليه وخوفا من الضياع . .
ولا يعرف بالضبط أول من وضع له تابوتا ، وكان فى غرفة كبيرة خلف زمزم قبل أن يصبح فى شكله الحالى ، فقد وصفه المرزوقى ( ت نحو 854 هــ ) فى كتابه القيم النفيس ” أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار ” : … والمقام مربع ، سعة أعلاه أربعة عشر أصبعا فى أربعة عشر أصبعا ، ومن أسفله مثل ذلك ، وفى طرفيه من أعلاه وأسفله طوقا من ذهب ، وما بين الطوقين من الحجر من المقام بارز بلا ذهب عليه ، طوله من نواحيه كلها ، تسعة أصابع ، وعرضه عشرة أصابع عرضا فى عشرة أصابع طولا ، وذلك قبل أن يجعل عليه هذا الذهب الذى هو عليه اليوم من عمل أمير المؤمنين المتوكل على الله ، وعرض حجر المقام من نواحيه واحد وعشرون إصبعا ، ووسطه مربع . …
إذن كان المقام فى قبو ، ضربت عليه قبة بجوار زمزم ، وسور من خشب ، ويبدل بسور من حديد فى أيام الحج ليتحمل الزحام – كما ذكر ابن جبير الأندلسى فى رحلته للحج سنة 578هـــ – وموضع القدمين ملبس بالفضة ، وعمقه من فوق الفضة سبعة قراريط ونصف قيراط من ذراع القماش المستعمل فى مصر آنذاك – كما نص الفاسى صاحب شفاء الغرام – القرن الثامن الهجرى – ، ويبدو أن أثر القدمين
عفت بعض الشئ من كثرة المسح الناس بأيديهم رغم أنهم لم يؤمروا بذلك ، وإنما أمروا بالصلاة عنده .
وفى وصف صفة حجر المقام ورد أنه حجر رخو من نوع حجر الماء ، ولم يكن من الحجر الصوان ، وهو مربع ، ومساحته ذراع يد فى ذراع يد طولا وعرضا يعنى نحو خمسين سنتيمترا ، وفى وسطه أثر قدمى إبراهيم الخليل وهى حفرتان على شكل بيضاوى مستطيل
، وفى ذا الحجر الشريف غاصت قدما خليل الله تعالى سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام مقدارا كبيرا الى نصف ارتفاع الحجر فعمق إحدى القدمين عشرة سنتيمترات ، ولا تستطيع أن ترى الآن وتشاهد أثرا لأصابع القدمين مطلقا فقد انمحى كما ذكرت من طول الزمن واخلولق من كثرة مسح الناس بأيديهم ، وأما موضع العقبين : فلا يتضح إلا لمن دقق النظر وتأمل ، وحافة القدمين الملبستين بالفضة أوسع من بطنهما من كثرة المسح – أيضا – ، وتبقى معالم وهيئة القدمين واضحة بينة لم تتغير ولم تتبدل ، وستبقى كذلك إلى يوم الدين مصداقا لقوله تعالى : ” فيه آيات بينات مقام إبراهيم ” .
وقد كتبت هذه الآية ” فيه آيات بينات ” فى المقام الذى تميز بشبابيك خشبية وحديدية وستارة معروفة كانت مثل كسوة الكعبة يضعها غالبا الخليفة العثمانى فقد كان من عادتهم أن يكسوا مقام إبراهيم ، ويبدو أن آل عثمان أول من اخترعوا ذلك .
ثم فى العصر الحديث عند توسعة الحرم المكى أزيلت هذه الغرفة التى تعلوها القبة ووضع الحجر مكانه فى هذه الأسطوانة المطعمة بالفضة ، ولا تأخذ حيزا كبيرا ولا تعوق الطواف .
حقا يجب المحافظة على المقام و ووقايته من التلف ، وعدم تعرضه للسرقة كما حدث من قبل حينما ادعى رجل يهودى أو نصرانى يقال له جريج أنه أسلم ففقد المقام ذات ليلة ، فوجد عنده ، وكان أراد أن يرسله إلى ملك الروم ، فأُخذ منه وقتل ” .
اترك رد