كثيرا ما نطرح إشكالية الأصالة والمعاصرة على أنها مشكل الاختيار بين نموذجين الغربي في السياسة والاقتصاد والثقافة …الخ وبين التراث بوصفه يقدم، أو بإمكانية أن يقدم نموذجا بديلا وأصيلا ، يغطي جميع ميادين الحياة المعاصرة، ومن هنا توصف المواقف بـ “عصرا نية” تدعو إلى تبني النموذج الغربي المعاصر باعتباره نموذجا للعصر كله، أي النموذج الذي يفرض نفسه تاريخيا كصيغة حضارية للحاضر والمستقبل ومواقف سلفيه تدعو إلى استعادة النموذج العربي الإسلامي كما كان قبل “الانحراف” و”الانحطاط” أو على الأقل الارتكاز عليها لتشييد نموذج عربي إسلامي أصيل يحاكي النموذج القديم في الوقت ذاته الذي يقدم فيه حلول خاصة لمستجدات العصر ومواقف انتقائية تدعو إلى الأخذ بأحسن ما في النموذجيين معا والتوفيق بينهما في صيغة واحدة تتوافر لها الأصالة والمعاصرة معا.
اعتقد أننا ومنذ اصطدامنا بالنموذج الحضاري الغربي المعاصر لا نملك حرية الاختيار، بين أن نأخذ به وبين أن نتركه ، لقد فرض هذا النموذج نفسه علينا منذ بداية التوسع الاستعماري الأوربي وبكيفية خاصة وحاسمة ، ومنذ القرن الماضي كنموذج موجود في النماذج الحضارية السابقة له، مثل التنظيم العقلاني لشؤون الاقتصاد وأجهزة والدولة واعتماد العلم والصناعة والتبشير بقيم جديدة تماما ، كقيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية…الخ.
وفي ظل هذا الوضع أصبح الإنسان العربي منقسم على نفسه ، ويعيش انفصاما خطيرا في شخصيته فهو خاضع بحكم المصلحة والضرورة الحياتية للنماذج القيمة الغربية ، التي تتسم بالفاعلية والعملية والقدرة الإنجازية والتطور العلمي والمعرفي والتكنولوجي ، رغم أنها تستنبط نماذج إلحادية كفرية لا يقبل بها الإنسان المسلم رغم ما تكلفته من تضحيات… من جهة ومن جهة أخرى يحاول التمسك بقيمه التي امتزج بها وامتزجت به عبر القرون، وهذا ما يشكل له الأزمة الثقافية إذا أصبح الإنسان العربي المسلم منقسم بين انجازات الثقافية الغربية التي تيسر عليه معيشته، وتقدم كل التسهيلات للحصول على إشباعات كاملة لكل حاجاته بأقل تكلفة في ، المال ، والوقت…الخ ، ومعتقدات الثقافة الإسلامية التي تشكل بالنسبة له يقينات غير قابلة للمناقشة، لذا نجده يحاول أن يزاوج بين هذين النموذجين القيميين ، ولكن وكنتيجة لهذا التزاوج نتجت لنا ثقافة هجينة تتميز بالصراع والتناقض واللافاعلية كما يصفها الأستاذ “مالك بن نبي”.(مالك بن نبي ، 2000 ، 98-103 بتصرف).
وعليه فإننا نستنتج ومن هذا المنطلق أن قضية التغيير القيمي في الشارع العربي تتحكم فيه عدة عوامل لكن يمكننا تلخصها في الأبعاد المعرفية والتصورية والإعتقادية التي تتقاسمها منظومتان معرفيتان هما: “المنظومة المعرفية الغربية” وما تنضوي عليه من معايير تجاه الإنسان والطبيعة والكون وما وراء الطبيعة و”المنظومة المعرفية الإسلامية وما تقدمه من تصورات واعتقادات حول الإنسان والطبيعة وخالقهم ومصير الإنسان ووظيفته الوجودية.
فهذه المشكلة تعيق حل المشكلات المختلفة والتي هى نتاج طبيعي لهذه الوضعية الثقافية التي تسود المجتمع ، ما ينتج اغتراب لدى هذا الإنسان وتمزق بين عالميين عالم ثقافته وتاريخه لا يستطيع أن يضمن إشباع حاجاته المختلفة وثقافة تشعره في كل لحظة بنقصه، وقدرتها على مواجهة مشكلاته اليومية للأفراد والجماعات ، ولا يستطيع أن يشارك فيها لأنها تنطلق من رؤى معرفية تتناقض مع منطلقا ته المعرفية والعقدية وهي لا تقبل إلا إذا تخلى عن منطلقا ته المعرفية الأصيلة.
هذا الوضع المتأزم للعالم الثقافي للإنسان العربي المسلم جعل قضية الاندماج الثقافي أو التثاقف أمرا غاية في الصعوبة نظرا للاختلافات والمنطلقات المعرفية في ظل الهيمنة التي يمارسها النموذج الغربي خصوصا في سبيل ترسيخ قيمه(عبد الوهاب المسيري، 2004، 100).
ويبقى السؤال مطروح هل مازلنا نحن العرب في وضعية تسمح لنا بـ الاختيار بين ما نسميه “النموذج الغربي” وما نحلم به من نموذج عربي أصيل نستعيده أو نستوحيه من تراثنا الفكري الحضاري…..؟؟؟.
لما نقبل هذه الازدواجية على صعيد واقعنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتعليمي ، ونبني مخططاتنا التنموية على أساس”تنمية” هذا الواقع المزدوج، فنصرف على القطاعات” العصرية” من اجل تدعيمها وتوسيعها باسم التحديث، كما نصرف على القطاعات التقليدية من اجل الإبقاء عليها وإحياء المندثر منها، باسم”الأصالة والحفاظ على التقاليد”..؟؟؟ ، وفي المقابل نرفض هذه الازدواجية على صعيد الحياة الروحية والفكرية؟؟..، فريق يدعو إلى تبني القيم الفكرية العصرية التي تشكل جزء لا يتجزأ من النموذج الحضاري الغربي ، وفريق أخر يدعو إلى التمسك بقيمنا التراثية وحدها وفريق يلتمس وجها أو ووجوها للتوفيق، الأمر الذي يعني محاولة التخفيف من واقع هذه الازدواجية على مستوى الوعي …
هذه الأطروحات والتساؤلات لا تخرج عن جملة المحاولات الخطابية التي نقرؤها وباستمرار في المحاولات الخطابية الفكرية العربية والتي تتعرض لمشكل التثاقف أو إشكالية الأصالة والمعاصرة في الوطن العربي والتي هي عبارة عن تصنيفات اختزالية للفكر والواقع معا، ونعرض منها ما جاء في كتاب محمد الجابري: (محمد الجابري، 1990، 28-29)
التصنيف الذي يمارس الاختزال بسذاجة وبساطة بدائيين والذي يتلخص في القول أن دعاة الأصالة أو “التراثيين” يمثلون أو يعكسون بصورة مباشرة مصالح طبقة اجتماعية إقطاعية بينما يعتبر دعاة المعاصرة “الحديثين” وبصورة مباشرة كذلك عن مصالح طبقة برجوازية التي تمثل النقيض التاريخي لذلك.
وهناك من يحاول تجنب هذه البساطة في التصنيف وربط الفكر بالواقع، فيأخذ في اعتباره جوانب التعقيد في المسالة وتصنيف دعاة الأصالة ضمن اتجاه ايديولوجى عام يسميه” السلفية” أو “الماضوية”، بينما دعاة المعاصرة أو الحداثة يصنفون ضمن اتجاه إيديولوجي كذلك، يربط بقوى التجديد في الوطن العربي “برجوازية” كانت أو “بروليتارية”.
أما أخر تصنيف فيلتمس أصحابه تصنيفا بسيطا معتمد على القوالب الجاهزة، فينظر إلى الإشكالية كتعبير عن “التذبذب” بين موقفين أو طرفين متصارعين، في هذه الحالة ينظر إلى الإشكالية كمظهر من مظاهر الإيديولوجية البرجوازية الصغيرة في المجتمع العربي
لكننا لا نستطيع تجاوز هذه الخطابات التنضيرية التي يتخذها الفكر العربي اليوم والتي لا تحل المشكل ولا تغير الواقع ولا تدفع بالبحث خطوة إلى الأمام بل بالعكس تعمل على تجميد الفعالية الفكرية ضمن قوالب جاهزة ، ما لم تتعرض لعملية امتحان لمدى إجرائيتها في ضوء معطيات الواقع العربي الملموس ووضعها في إطار “إشكالية فكرية ثقافية محضة”.، بمعنى أنها تجد أسسها وميزاتها وجوهرها في الوضع الثقافي الفكري العربي الراهن ، في مكوناته وتناقضاته. فحسب تعبير محمد الذوادي(محمد الذوادي، 2005، 86). ..”…فنحن نعيش خصوصيتنا حتى البداوة وننغمس في عالمنا حتى الثمالة…نستخدم أحدث الأدوات ولكننا نرفض أحدث الأفكار والمناهج فنتشبث بالأصول حتى العظم على صعيد الخطاب والكلام، ولكننا نخرج عليها ونطعنها بالفعل والممارسة..نحن عرب مسلمون فيما يتصل بالمقدسات والمحرمات، ولكننا غربيين في ما يتعلق باستيراد الأدوات والسلع والصور والمتع التي توفرها أجهزة السمعي البصري..الخ أي في كل ما يتصل بمادة الحياة وأسباب الحضارة”.
وعليه فإننا لن نستطيع تجاوز الأزمة ما لم نجر حركة على مستوى الفكر لا المادة….
قائمة المراجع:
1. عبد الوهاب المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الانسان، دار الفكر، الطبعة الأولى، سوريا، 2004
2. محمد الجابري، إشكالية الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية ، بيروت، 1990
3. محمد الذوادي، الثقافة بين تأصيل الرؤى الإسلامية واغتراب منظور العلوم الاجتماعية، دار الكتاب الجديدة المتحدة، الطبعة الأولى، لبنان، 2005.
4. مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، دار الفكر، سوريا، الطبعة الثالثة، 2000
اترك رد