1/ إن هذه الملاحظات النقدية على اطروحات اسلامية المعرفة في صورتها الراهنة انما تنبع من داخل اسلامية المعرفة نفسها وليس من موقف فكري خارج عنها. ولذلك فإننا نفترض حسن النوايا لدى المسهمين في هذه القضية بإظهار الغيرة على الاسلام كمنهاج كامل لمسيرة الانسان في الكون والحياة والعلم بالتكليف المفروض عليه. ولكن ظل السؤال مطروحا – لماذا رغم غزارة وعمق الانتاج البحثي في قضية اسلامية المعرفة على مدى سنين طويلة وصدق النوايا والاجتهاد بعزم كبير في ذلك لم تحقق تأثيرا كبيرا ومشهودا في صياغة الانتاج العلمي بنحو ما قد حققته فلسفات غربية في اوروبا وانجلترا من تأثير علمي كبير في زمن قصير نسبيا وان كان قد اصابها الانحطاط في مراحل لاحقة لأنها تفتقر الى الحقيقة الكلية ؟ لعلنا نظن أن مناط ضعف التأثير والتغطية العلمية لبحوث اسلامية المعرفة معلق بنوع من عدم الدقة في صياغة وتداول المفاهيم والتصورات المكونة للبناء النظري والتطبيقي المؤلف للمنظومة الفكرية العامة لمشاريع اسلامية المعرفة، ولربما بتصحيح هذه المفاهيم والتصورات تثمر هذه المشاريع اثرا حاسما.
2/ لقد انقسمت جهود التأصيل الإسلامي (وهو المصطلح الجامع لكل الاجتهادات ذات المرجعية الاسلامية) إلى تيارين أساسيين بدا نوعا ما انهما متقابلان ، وما ذاك التقابل إلا لعدم الرؤية للمفاهيم الاساسية بالنحو السليم منطقيا:
التيار الأول / تيار إسلامية المعرفة الذي اجتهد كثيرا في صياغة العلوم صياغة إسلامية من خلال تعيين الرؤى الكلية world view والاطر الثابتة بظن أن هذا أمر ضروري ليتم تنزيلها على الجزئيات والعناصر ، هنا بالضبط توقفت الجهود عند (ينبغي) و(لا بد) ، بالرغم من انها في ذاتها كانت تمثل تجاوزا كبيرا وطموحا للموقف السالب في التفكير العلمي القرآني (وهو الموقف الذي يمثله الاتجاه الثاني) أي موقف الموافقات والتوافقات فيما عرف ببحوث الإعجاز العلمي بالقرآن الكريم والسنة النبوية – وذلك باعتباره موقفا ننتظر فيه الاخرين من علماء أوروبا تحقيقهم للكشوفات العلمية ومن ثم نأخذها نحن ونسند إليها من القرآن والسنة، وعليه فكان لا بد من تجاوز هذا إلى إسلامية المعرفة .
والمشكلة التي جعلت مشاريع إسلامية المعرفة بدورها تتوقف عند مرحلة (ما ينبغي) و(لابد) هو أنها انطلقت في صياغاتها الجادة من ردود الافعال على الفكر الغربي أو الاوروبي عبر فلسفاته التي اتسمت بالوضعية والمادية. فكانت تصورات ارتكزت اساسا على فكرة أو مبدأ (الجمع بين القرأتين) والتي كانت في مجملها ردة فعل على الفلسفة الوضعية الغربية . فيكون بذلك أن حدد الفكر الغربي الوضعي أغلب الاجراءات وزوايا الرؤية في بناء مفاهيم اسلامية المعرفة ومن قبيل ذلك الوقوع في اعتبار أن مصادر اسلامية المعرفة هي بمثابة الانساق والنظمsystems القائمة بجوار نظم وانساق الفكر الغربي بنحو المتقابلات أو المتضادات لتكون المحصلة المنشودة هي تفوق نسق اسلامية المعرفة ومن ثم صياغة العلوم صياغة اسلامية، فصدر عن ذلك مفاهيم واصطلاحات غاية في الخطورة والاضرار بحقيقة البحث الاسلامي في العلوم، اذ ليس هنالك (منهجية معرفية للقرآن) تقف جنبا إلى جنب مع منهجيات أخرى فالقرآن هو المعرفة نفسها والمنهجية المعرفية ليست للقرآن بل المنهجية المعرفية تكون لدينا نحن لنعرف بها القرآن. كما أنه ليس هناك (قراءتان متمايزتان للكون والوحي) نحتاج للجمع بينهما وإنما هناك قراءة واحدة للكون تحوي دلالة الكائنات وهي دلالة وجودية ، ودلالة النص وهي دلالة وظيفية وليس هناك جمع بينهما لانهما يسيران اصلا في سياق واحد.
اذن، فالتوجيه الصحيح لإسلامية المعرفة هي بكونها (ادرة المعرفة للعلمية) وليس انتاجها أو صياغتها أو بناء حقائقها في قوالب جاهزة. فإدارة العلم تعني الخاصية الوظيفية لفاعلية توجيه وارشاد العلوم دون الاقتصار على محاولة بناء أو اعادة بناء مفاهيمها. هذا التصويب لوجهة واغراض اسلامية المعرفة من شأنه أن يخلصنا من كثير من المشكلات الزائفة pseudo – problems وعلى رأسها جدلية (النص – العقل) والتي كانت مناط خلاف كبير أضاع الوقت والجهد في ايهما اسبق وايهما أولى، في حين أنه بالتوجه الصائب نجد الخلاص من هذا الجدل في تصحيح الرؤية الى (النص) بأنه نسق system من العلامات signs يحوي معان ودلالات في تراكيب معينة لتؤلف تصورات معينة، أما (العقل) فهو مجرد فاعلية activity وظيفية للفهم والتحليل وليس نسقا دلاليا كما النص فلا تقابل اذن بينهم. وتأتي أهمية حسم هذا الصراع في تصحيح الرؤية إلى اسلامية المعرفة بالانتقال من اتخاذ الاسلام (كموقف ايديولوجي) إلى التعامل مع الاسلام (كمعيار موضوعي) فالموقف الايديولوجي هو تغليف النظم الفكرية باطر كلية يشترط فيها تعيين الاسباب والعلل النهائية بصورة قاطعة لتحوي في داخلها أي تفسير للظواهر الكونية طبيعية وانسانية واجتماعية فهذا يعمل على توليد المذهبية في التفسير والتوجيه حتى داخل المنظومة الواحدة، في حين أن المعيار الموضوعي هو مجموعة من القواعد rules القياسية التي يقاس عليها سير الظواهر والتعاملات معها بطريقة سليمة.
كذلك لا يخلو الموقف الايديولوجي من الذاتية في موافقة الاهواء والرغبات عند صياغة الرؤى الكونية الشاملة أما المعيار الموضوعي فقد يخالف بعمق الاتجاهات الذاتية والاهواء والانطباعات ورغم ذلك يلتزم بها المرء كضرورة معرفية وسلوكية بإفعل ولا تفعل برغم تحميل هذه القواعد بعناصر غيبية حتى وإن لم يعرف كنههافالتعامل مع الغيب تعامل للتوظيف وليس للفهم. وقد يكون دليلا على ذلك السؤال الكبير الذي يقدمه كثيرا مناهضي اسلامية المعرفة كيف يمكن رصد الغيب كحقيقة علمية ومعرفية على نفس نسق ومنوال حقائق الوجود الطبيعي الفيزيائي المشاهد، فلا نجد ردا على ذلك الا باللجوء الى اعتبار الخاصية الوظيفية لهذه الغيبيات وليس إلى كونها حقائق علمية نستطيع تعيين أبعادها المعرفية . لذلك فإن مشاريع اسلامية المعرفة ظلت إلى وقتنا الراهن ضعيفة الاثر واقعيا رغم غزارة الانتاج البحثي والفكري فيها لأنها تعمقت في رسم الرؤى والأنساق الكلية بردة الفعل على المواقف الايديولوجية للفكر الغربي.
اذن القرآن ليس منهجا نختبره بل قواعد قياسية نتحاكم إليها في التوجيه والضبط وعلينا نحن أن نصطنع المناهج والوسائل لفهم القرآن وفهم هذه القواعد.
3/ وعلى الوجه الاخر من المشكلة نجد اتجاه الاعجاز العلمي للقران والسنة قد خضع ايضا للاعتبارات الخاطئة بصدد المفاهيم الاساسية مما احدث انفصالا زائفا بينها وبين مشاريع اسلامية المعرفةفي حين أنه على الحقيقة يؤلف وحدة كلية معها.
لقد وقعت بحوث الاعجاز العلمي في شرك منهجي ومنطقي كبير بإدخال آيات القرآن الكريم الى حيز منهج البحث التجريبي بغرض اثباتها وتأييدها علميا لمواجهة علماء الغرب في اطار العمل الدعوي فجاء الامر بنتيجة عكسية فاصبح النص القرآني موضع الضرب بإدخاله حيز (مشكلة الاستقراء) problem of induction والتي تقوم على استحالة التعميم المطلق لعدم استيفاء التجريب كافة العناصر أو الوحدات موضع الحكم العلمي فتظل دائما هناك دائما نسبة احتمالية متسعة بحجم الفاقد في إحصاء العناصر تحت التجريب ووسائل الإثبات والبرهان. وهذا ما اضر كثيرا بفهم القرآن حيث أن الآيات الموجهة للعالمين (مثل اية اختلاف الالسن والالوان) هي واضحة الدلالة بذاتها ومثبتة بذاتها ويكشف ظاهر النص عنها مباشرة فاذا ادخلناها الى حيز الفرض العلمي لتحقيقها بالمنهج التجريبي الضيق وقعنا في مشكلة الاستقراء وافسدنا الدعوة امام العلماء غير المسلمين اذ يتطلب الامر لإثبات ايه قرآنية متسعة باتساع الكون كله الى منهج يليق باتساعها ولكن هذا مستحيل فلم نؤت من العلم الا قليلا فكيف يمكن ان نتجاوز حيز حدود خبرتنا الجزئية الى الكل المطلق (لا يمكن اثبات دلالة ربانية مطلقة بمنهج جزئي وضعي محدود).
اذن فليس سوى حل واحد وهو عدم تحويل ما هو قاطع الدلالة في نص القرآن الى فرضية hypothesis – بل الى مسلمة axiom ينطلق منها البحث الى الامام لنتائج وبحوث متقدمة دون أن يبحث فيها هي بذاتها، ومن ثم تحويل سؤال مشكلة البحث في الاعجاز القرآني من: ما اثبات الدلالة (الاكتشاف العلمي)؟ الى: ماذا وكيف يمكن أن يستفاد من الدلالة (ادارة المعرفة)؟ هنا يكون تداول المسلمات في السياق البحثي المستند اليها مشيرا ومؤكدا على دورها الوظيفي المنتج علميا.
وحتى تلك الآيات ذات المحمول العلمي ولكنها غير معروضة الدلالة بظاهر النص في القرآن الكريم وتحتاج بالتالي الى اجتهاد تأويلي لكشف باطن الدلالة فيها، فهي أيضا لا يكون البحث فيها للإثبات والبرهان على حقيقتها وانما يكون بحثا لتوفير المعرفة بالدلالة أصلا لا الى اثباتها.
إن جماع الآيات ذات الدلالات العلمية في القرآن الكريم إنما هي حصيلة القوانين العلمية المطلقة والثابتة ولا يمكن نقضها ولذلك لا يمكن التعامل معها الا كمسلمات ضرورية. وأما ما عداها مما لم تذكر في القرآن فهي ما تقوم عليه الفرضيات والاحكام الاحتمالية.
والله تعالى أعلم
اترك رد