بدأ الفكر ما بعد الحداثي في التشكل منذ نهاية عقد الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين ، حيث ظهر مصطلح ما بعد الحداثة لأول مرة عند المؤرخ البريطاني ” توين بي “(1959)، الذي وضع المفهوم ليدل على ثلاث أمارات ميزت الفكر والمجتمع الغربيين بعد منتصف هذا القرن، وهي اللاعقلانية والفوضوية والتشوش، ومنه انتقل إلى مجالات عديدة منها المجال الأدبي في سنوات الستينيات على يد الناقد الأديب ليسلي فيلدرLeslie Fielder والناقد المصري الأمريكي إيهاب حسن ،وهو من أبرز المختصين في أبحاث ما بعد الحداثة و صاحب الفكرة التي تقول باستحالة التحديد لدلالة هذا المصطلح، فاكتسب المصطلح تداولا خلال السبعينيات وشمل العمارة أولا، ثم اكتسح بالتدريج مجالات الفن الأدائي والمسرح والتصوير والسينما( 1) ، حيث ظهرت تغيرات عديدة تمثلت في مسمى الــ ” ما بعد”، مثل حركات : ما بعد الصناعة ، ما بعد الاستعمار ، ما بعد الدكتاتوريات(2 ).
فتعبير ” ما بعد ” يشكّل تجاوزا لما قبله ، واتجاها مستقبليا جديدا ، ونوعا من المراجعة لما سبق ، والمراجعة تعني إعادة القراءة في ضوء الممارسة والنتائج والمحصلة النهائية ، فنحن لا نتحدث عن مذهب فلسفي يمكن بلورته ، وإنما عن تيارات عديدة ، ساهمت في إيجاد مناخ ما بعد الحداثة ، وهو مناخ نفسي وفكري وعملي وتواصلي . فعندما نقول ما بعد الصناعة ، لا يعني إلغاء الصناعات وإنما الإبقاء على الصناعات الضخمة التي استطاع الإنسان أن يبدعها ، فبات كل شيء مصنوعا ، بإنتاج ضخم ، ولكن ما بعد الصناعة تعني ظهور صناعات جديدة لا تستلزم نفس المصانع الضخمة ، وإنما أنماط أخرى من الصناعات مثل صناعة الإعلام والبرمجيات والاتصالات والخدمات وغيرها ، ناهيك عن تغير مفهوم السلع الضرورية فلم تعد تكلفة الغذاء والدواء والكساء والوقود هي المقاييس الأولى في الحياة ، وإنما هناك مفاضلة بين أثمان السلع المقدمة ، حسب المصانع المنتجة ، وارتفع مستوى المعيشة فلم يكتف الإنسان بالحاجات الأساسية وإنما باتت هناك مكملات لا غنى عنها في الحياة ، مثل المواصلات والترفيه والعمل ومستوى السكن وغير ذلك (3 ).
أما ” ما بعد الاستعمار Post-Colonialism” فيعبر عن مرحلة جديدة في الهيمنة الأوروبية والأمريكية على العالم من خلال الاحتلال المباشر للدولة ، والتحكم في ثروتها وثقافتها . فقد تحكمت الدول الاستعمارية في 84.6% من سطح الكرة الأرضية كمستعمرات ومحميات وتابعيات حتى الثلث الأول من القرن العشرين، مع سيطرة كاملة لا تحيد عن سياقات الاحتلال العسكري والسياسي المباشر ، ورسّخ في أذهان شعبه في الغرب شعارات طيبة عن احتلاله للدول الأخرى ، وجعل ثقافته هي النموذج الذي ينبغي فرضه على الشعوب الضعيفة ، وكما يشير إدوارد سعيد إلى أن استخدام مصطلح ما بعد الاستعمار لا يعني التجاوز وإنما مظاهر الاستمرار ومظاهر الانقطاع ، وأن هناك طرائق جديدة للاستعمار واستغلال الشعوب(4 )، استمرت بعد خروج المستعمر ، في أشكال عديدة من الهيمنة والتبعية الاقتصادية والثقافية ، أي أن العملية كانت تبديلا للأقنعة .
لقد دأبت القوىالاستعمارية الزاحفة على التمترس بوسائلها وأدواتها وغاياتها وأهدافها في اجتياحها للبلدان الأخرى من قمع وتهديد وسيطرة عسكرية مباشرة ، تحت دعاوى نشر الحضارة والتنوير والتقدم ومساعدة الشعوب الفقيرة والمتخلفة ، فتسعى إلى نشر ثقافة المستعمَر وتنميطها ، بهدف إحراز الهيمنة وتوسيع مدركات التبعية، وتُظهر دراسات ما بعد الاستعمار الكم الكبير الذي مارسته الدول المستعمِرة في التهجين والتداخل والسيطرة عبر الوسائل المتاحة لها ، وقهر الشعوب (5 ).
إن فكر ما بعد الاستعمار سعى إلى المراجعة الدقيقة والشاملة لكافة الممارسات الاستعمارية وقراءة أوروبا لتاريخ العالم من مركزيتها الثقافية ، وموقع الهيمنة والقوة، والاعتراف بثقافات الشعوب الأخرى ، وعدم احتكار هذه الشعوب ولا أدوارها الحضارية الإنسانية ، فكأنها مراجعة شاملة للحداثة والتنوير ، وقد برر مفكروهم الأقدمون احتلال الشعوب تحت شعارات إنسانية براقة ، فيما ينعته ” إدوارد سعيد ” : ” التمييز الإبستمولوجي والأنطولوجي بين الغرب والشرق ” (6 )، والذي أخفى عن العقل الأوروبي واقعا مخزيا من القتل والتحكم والإقصاء وفرض الثقافة .
إن فكر ما بعد الاستعمار يعمل على الكشف عن المساوئ والظلم الواقع بحق الشعوب والمجتمعات التي أضحت نهبا للسيطرة والنهب المنظم ، كما يسعى نحو تحديد ملامح الوعي الداخلي للشعوب التي وقع بحقها فعل الاستعمار وأيضا التوقف بالدرس والتقصي إزاء تداولات مفاهيم من نوع التعدد والتنوع الثقافي والهوياتي، حيث التفكيك لمفاهيم الإنسانية والتسامح والعمل على فضح ممارساتها في إطار الممارسة الاستعمارية(7 )، وتغيير الخطاب الغربي نفسه ، الذي كان يصف الشعوب الضعيفة المستعمَرة بأنهم ” أكلة لحوم البشر ” ، و ” الفلول الهمجية ” ، أو في أحسن الأحوال ” مجموعات بشرية ” ، وأنهم – لتخلفهم – عاجزون عن تمثيل أنفسهم والتعبير عن ذواتهم ، وأن الاستعمار جاء لينقذهم من الكسل والخداع والظلامية والهمجية ، فهم ضعاف يحتاجون لمن يأخذ بأيديهم ، ويعبّر عنهم(8 ) .
ولعل تسمية ” العالم الثالث ” يعبر عن رؤية الغرب للشعوب المستعمَرة ، وقد ساد هذا المصطلح خلال سنوات الخمسينيات والستينيات مع ” فك الاستعمار “، وإبان الحرب الباردة بين الدول الكبرى ، وما تبع ذلك من صراعات ونزاعات إقليمية في الدول المستعمَرة ، وتسابق على التسليح ، وفشل اقتصادي ذريع ، واستمرار التبعية الثقافية والفكرية والنفسية للمستعمِر (9 ).
جوهر الفكر والإحساس في ما بعد الحداثة :
جاءت ما بعد الحداثة معبرة عن التغيرات الاجتماعية والثقافية والتقنية والسياسية التي طرأت على المجتمعات الغربية ، وانسحبت بالضرورة على سائر دول العالم ، مع تفاوت في التطبيق والممارسة .
فيمكن ملاحظة زيادة النزعة الاستهلاكية وإعلانات الموضة ، وانتشار الديمقراطيات، وارتفاع أصوات ثقافية تعبر عن ثقافات عرقية ونوعية وجنسية ومذهبية ، وتنادي بحرية التواجد والتعبير والعلنية، وهي التي عانت من التهميش والقمع ، تحت ما يسمى النظم الشمولية والفكر الأحادي الذي يهيمن ، ويقمع ما يخالفه ، بجانب اتساع دائرة الاتصالات ، وتطور صناعة المعرفة والإعلام باستخدام الحواسيب والقنوات الفضائية . والأهم أنها رأت أن المشروع الحداثي لم يحقق السعادة المنشودة للإنسان الغربي ، بقدر ما أدى إلى اغترابه وتعاسته ، وشقاء الشعوب الأخرى التي احتلها ، بالإضافة إلى الحروب ذات الضحايا المليونية فكان لابد من مراجعات لمفاهيم الحداثة وممارساتها ، في السياسة والدولة والقوانين وفهمها لحركة التاريخ واليقينيات المتعددة التي بثتها( 10) .
لقد ظهرت لدى الإنسان الغربي حالة من الانكفاء القلق على الذات ، وسأم وملل من ثقافة لا تستطيع إلا أن تكرر نفسها ، وحالة من التشكك ، وسقوط مدو عن الانشغال بالقضايا الفكرية والفلسفية الكبرى ( اليقينيات ) ، إلى قعر الحياة اليومية ، والانشغال بتفاصيلها، وملاحقة الجديد في الإنتاج السلعي ، والإفراط في الاستهلاك والاستمتاع. لذا ، يمكننا فهم ما بعد الحداثة في المجال الفكري بوصفها إزاحة تدريجية للاكتشاف والعمق والحقيقة والتواصل والتماسك ( وهي قيم حداثية ) ، لصالح التركيب والخيال وسرديات تأمل الذات ، والتشظي الساخر ( وهي قيم ما بعد حداثية ) (11 ).
فما بعد الحداثة تعبر عن مجمل مشاعر وأفكار ، فالمشاعر تتمحور حول القلق والتململ والاغتراب الفردي والتشكك ، أما الأفكار فهي الوجه الآخر للمشاعر، إنها تدور حول الشك في الفكر الحداثي الذي نشر مسلمات ؛ عدّها من اليقينيات ، وأنها ستقود الإنسان إلى السعادة ، فاكتشف بعد تجربة قرون ، وحقب ، وموجات ، وممارسات ، أن الغرب يمارس الازداوجية في أبشع صورها في قضايا الحقوق والحريات ، ويحكّم العقل في مسائل ، ويغيّبه في قضايا ، وصارت القيم الإنسانية مخترقة من الإنسان الغربي نفسه ، فلم يكن أمامه إلا الانسحاب إلى ذاته ، والتقوقع داخلها ، والتعامل مع العالمبوصفه شذرات وجزئيات وليس كليات .
هناك كثيرون شككوا في مشروع التنوير بوصفه الأساس لحركة الحداثة ، ورأى مفكرو ما بعد الحداثة أن قيم التنوير الأساسية : العقل ، الطبيعة ، الحقوق ، الصدق، الأخلاق ، الحرية ، التقدم ؛ لا فائدة منها ، فهي لا تعدو أن تكون أغلفة للإمبريالية الغربية ، سعت من خلالها إلى السيطرة على العالم ، لتكون محصلة أعمالهم تحررا قاسيا وحضارة قاسية ، ورفضوا أن يكون التنوير تحريرا للعقل ورفعه فوق الدين ، وهناك من اعتبر التنوير بمثابة النظام القديم الذي مهّد للجديد ، المتمرد عليه وهو فكر ما بعد الحداثة، الذي رأى أن العقل الحداثي مستبد ويجنح إلى التفكير الشمولي، وهناك من رآه حركة اجتماعية بجانب كونه حركة عقلية ، ويمكن فهمه من خلال الفحص الدقيق لديناميات الطبقات والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية والقوى المادية التي تضافرت لتدمير النظام القديم ، تمهيدا للثورة الفرنسية (12 ).
الهوامش:
1) الحداثة وما بعد الحداثة ، فريد باسيل الشاني ، الحوار المتمدن ، العدد 2190 ، ا13 /2 / 2008م ، hhttp://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=124805
2) ما بعد الحداثة ، باتريشيا ووه ، ترجمة شعبان مكاوي ، موسوعة كمبردج في النقد الأدبي (القرن العشرون – المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية) ، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 2005م ، ص418 .
3) تاريخ الفكر الاقتصادي : الماضي صورة الحاضر ، جون كينيث جالبريث ، ترجمة : أحمد فؤاد بلبع ، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، سبتمبر 2000م ، ص320 .
4) الوعي المحلّق : إدوارد سعيد وحال العرب ، يحيي بن الوليد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2010م ، ص29 – ص32 . ويعد المفكر الأمريكي الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد (1935-2003م) مؤسسا لفكر ما بعد الاستعمار ، في مؤلفاته العديدة ، وأبرزها كتاب الاستشراق Orientalism (1978م ) أحد الأعمال التأسيسية في مجال الخطاب ما بعد الكولونيالي ، وكان بمثابة ثورة دكّت إطار المركزية الأوروبية في قراءتها للعالم . وكذلك كتابه الثقافة والامبريالية . وكلاهما ترجمهما إلى العربية الدكتور كمال بو ديب ، ونشرا في طبعات متعددة .
5) إدوارد سعيد ، العالم والنص والناقد ، ترجمة عبد الكريم محفوظ، اتحاد الكتاب العرب، دمشق2000، ص 48.
6) الوعي المحلق .. ، ص48 ، ومن مفكري التنوير المؤازرين للإمبريالية الغربية ؛ الشاعر الإنجليزي روديارد كبلنج ، حين قال : ” الشرق شرق ، والغرب غرب ولن يلتقيا ” ، وأنهما بمثابة مستقيمين متوازيين لا يلتقيان .
7) التاريخ؛ قراءة ما بعد الاستعمار ، د.إسماعيل نوري الربيعي ، مركز المستقبل للدراسات والبحوث ، http://mcsr.net/activities/024.html
8) الوعي المحلق ، ص55 .
9) السابق ، ص42 ، 43 .
10) ما بعد الحداثة ، باتريشيا ووه ، ص418 .
11) الحداثة وما بعد الحداثة ، بيتر بروكر ، ص6 .
12) الطرق إلى الحداثة ، م س ، ص8 ، 9 .
اترك رد