بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة القاضي عياض تمت مناقشة أطروحة لنيل الدكتوراه في الدراسات الإسلامية بعنوان: التجنس بجنسية الدولة غيرالمسلمة، دراسة شرعية قانونية، أعدها الطالب الباحث مـحـمـد بوشَـركـة تحت إشراف فضيلة الأستاذ الدكتور زكـريـاء المرابــط، وذلك يوم الجمعة 19 دجنبر 2014.
التقرير:
أساتذتي الفضلاء،
لقد أثارني الاختلاف الحاصل في فتاوى وآراء وأجوبة أهل العلم المعاصرين في حكم تجنس المسلم بجنسية دولة غير مسلمة: إما بحرمة التجنس مطلقا، أو جوازه مطلقا، أو كراهته..أو غير ذلك، دون تفصيل وبيان أحيانا، ودون استدلال بالنصوص الشرعية في حالات عديدة، أو دون مراعاة لواقع المتجنسين أو مراعاة لمقاصد الشرع في حالات أخرى..
وهذا هو السبب الأساسي الذي شجعني على اختيار موضوع تجنس المسلم بجنسية الدولة غير المسلمة ليكون عنوانا لهذه الأطروحة، بالإضافة إلى أسباب أخرى أهمها:
1 – قلة الدراسات الفقهية الأكاديمية مقارنة بكثرة الدراسات القانونية في الموضوع.
2 – كون الموضوع جديدا لم يُتناول إلا في القرون المتأخرة إن لم أقل: لم يُتناول إلا في القرنين الاخيرين، ويحتاج إلى دراسات وبحوث عديدة.
3 – رغبتي في الاطلاع على الفقه الإسلامي الدولي، والعلاقات الدولية العامة والخاصة بين المسلمين وغير المسلمين، وذلك بغية فهم النظرة الحقيقية الإيجابية المتوازنة المعتدلة للإسلام في تلكم العلاقات الدولية، وهي رؤية مبنية على الكتاب والسنة بعيدا عن تنطع المفْرطين وتسيُّب المفَرطين.
4 – إيلاء الموضوع الأهمية التي يستحقها من الناحية الشرعية لكن مع ربطه بالجانب القانوني، لأنه بدون تصور الموضوع من الناحية القانونية ، لا يمكن الحكم عليه شرعا، والحكم على الشيء فرع عن تصوره.
5 – أن معالجة الموضوع من الناحيتين الشرعية والقانونية لم تحظ بالعناية اللازمة فكان من الضروري إعداد دراسة تستوعب الجانبين معا.
6 – الرغبة في تقديم رؤية اجتهادية شرعية واضحة لمسألة التجنس تتحرى الحق قدر المستطاع، اعتمادا على نصوص الكتاب والسنة، مع مراعاة المقاصد الشرعية.
سادتي الفضلاء،
لفد ُألفت في الموضوع مؤلفات في الجانب الشرعي وفي الجانب القانوني:
أولا: المؤلفات في الجانب الشرعي:
يمكن تقسيم المؤلفات الشرعية التي كتبت في الموضوع إلى نوعين: كتب وبحوث ألفت في الموضوع أصالة، وكتب تناولت موضوع التجنس بجنسية الدولة غير المسلمة تبعا.
فمن النوع الأول:
1- بحث “التجنس بجنسية غير إسلامية” للدكتور الشاذلي النيفر.
2- بحث “التجنس بجنسية دولة غير إسلامية” للشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل.
3- كتاب “الجنسية في الشريعة الإسلامية” للدكتور رحيل غرايية.
4- كتاب “الجنسية والتجنس وأحكامها في الفقه الإسلامي” للدكتور سميح عواد الحسن.
5- كتاب “تبديل الجنسية ردة وخيانة” ، للدكتور محمد عبد الكريم الجزائري.
6- كتاب”المواطنة في غير ديار الإسلام بين النافين والمثبتين: دراسة فقهية نقدية ” للدكتور صلاح الدين سلطان..
ومن النوع الثاني :
* مبحث ضمن كتاب “قضايا فقهية معاصرة” للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
* مبحث ضمن كتاب”فقه الجاليات الإسلامية في المعاملات المالية والعادات الاجتماعية” للدكتورة شريفة آل سعيد.
* مبحث ضمن كتاب “الأحكام السياسية للأقليات المسلمة في الفقه الإسلامي”للدكتور سليمان محمد توبولياك.
* مبحث ضمن كتاب “الأقليات الإسلامية وما يتعلق بها من أحكام في العبادات والإمارة والجهاد” للدكتور محمد بن درويش بن محمد سلامة.
* مبحث ضمن كتاب “فقه الأسرة المسلمة في المهاجر” للدكتور محمد الكدي العمراني.
ثانيا: المؤلفات في الجانب القانوني:
المؤلفات في الجانب القانوني كثيرة وعديدة أذكر منها على سبيل المثال:
* “الوجيز في الجنسية ومركز الأجانب” لفؤاد رياض.
*”أحكام القانون الدولي الخاص في التشريع المغربي:1-الجنسية” للدكتور أحمد زوكاغي.
* “الجنسية والموطن ومركز الأجانب” للدكتور هشام صادق.
* “المبسوط في شرح نظام الجنسية” للدكتور أحمد سلامة..
أساتذتي الأجلاء،
فيما يتعلق بـمنهج البحث: حاولت الجمع ما أمكن بين المنهج الاستقرائي والاستنباطي أثناء إيراد فتاوى العلماء والفقهاء المتقدمين والمعاصرين، وحاولت تقسيمها إلى الفتاوى الصادرة إبان مرحلة الاحتلال والفتاوى الصادرة بعد مرحلة الاحتلال.
واعتمدت على المذاهب الأربعة غالبا في المقارنة بين المذاهب، واقتصرت على أهم المصادر والمراجع المعتمدة في كل مذهب فقهي.
واعتمدت في الجانب القانوني أصالة على قانون الجنسية المغربي باعتباره الابن الشرعي لقانون الجنسية الفرنسي (وفق عبارة أستاذنا الدكتور أحمد اد الفقيه)، مع الإحالة على قوانين دول أخرى في بعض الأحيان.
والتزمت قدر المستطاع إيراد فتاوى العلماء بنصها كاملة من باب الأمانة العلمية، واستعنت في ذلك بالمظان من مصادر ومراجع وكتب معاصرة وبحوث ومقالات علمية.. وقد اضْـطُرِرْت في أحيان كثيرة إلى الاستعانة ببعض مواقع الشبكة العنكبوتية الموثوقة لبعض الشيوخ والعلماء.
كما حرَصت على توثيق الآيات القرآنية وتخريج الأحاديث النبوية، والترجمة لأهم الأعلام الواردة في ثنايا البحث باستثناء المشهورين كالأنبياء والصحابة ، ووضعت في نهاية البحث فهرسة للآيات والأحاديث، وفهرسة للأعلام، ولائحة للمصادر والمراجع، ولائحة للبحوث والرسائل الجامعية، ولائحة للمقالات، ولائحة لمواقع الشبكة العنكبوتية.
أما خطة البحث: فانتظمتُ هذه الرسالة في مقدمة وبابين وخاتمة، وذلك كما يلي:
مقدمة تناولت فيها: أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وأهم المؤلفات التي ألفت فيه، ومنهجيته وخطته، وبعض الصعوبات والعراقيل التي واجهتني في مختلف المراحل.
وتناولت في الباب الأول:”الجنسيةُ: دلالات وعلائق”.
وقسمته إلى أربعة فصول:
خصصت الفصل الأول للجنسية في الجانب القانوني: مفهومها، تاريخها،طرق اكتسابها وأسباب فقدها.
وتناولت في الفصل الثاني مفهومي الولاء والبراء وعلاقتهما بالجنسية.
ودرست في الفصل الثالث مفهومي دار الإسلام ودار الحرب وعلاقتهما بالجنسية.
وتناولت في الفصل الرابع مفهوم المواطنة وعلاقته بالجنسية.
أما الباب الثاني، فتناولت فيه: الفتاوى والآراء والاجتهادات المتعلقة بتجنس المسلم بجنسية الدولة غير المسلمة وأدلتها.
وقسمته إلى خمسة فصول :
ذكرت في الفصل الأول الفتاوى الجماعية والفردية والدراسات الفقهية المجيزة مطلقا وأدلتها، وتناولت في الفصل الثاني الفتاوى الجماعية والفردية والدراسات الفقهية المجيزة بشروط وأدلتها، وخصصت الفصل الثالث للفتاوى الجماعية والفردية والدراسات الفقهية المانعة وأدلتها،
وذكرت في الفصل الرابع الفتاوى الجماعية والفردية والدراسات الفقهية المتوقفة في الموضوع وأدلتها،
وخصصت الفصل الخامس للمناقشة والترجيح.
وختمت البحث بأهم النتائج المتوصل إليها.
شيوخي الاجلاء،
إن أهم نتيجة توصلت إليها في هذا البحث:
أن تجنس المسلم بجنسية الدولة غير المسلمة لا يمكن الحكم عليه بحكم واحد منضبط ومطرد لا بالجواز ولا بالمنع، بل إن كل حالة ونازلة لها حكمها مع اختلاف الزمان والمكان والحال.
فهناك حالات يكون فيها التجنس ردة وخيانة، وهناك حالات يكون فيها التجنس كبيرة من الكبائر أو معصية من المعاصي، وحالات يكون التجنس جائزا، وأحيانا مستحبا وأحيانا واجبا. أو بمعنى آخر: فإن التجنس تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة.
كما توصلت إلى استنتاجات عديدة ومفيدة أهمها:
أولا: إن موضوع “تجنس المسلم بجنسية الدولة غير المسلمة” موضوع شائك، بل أحسبه موضع مزلة أقدام ومضلة أفهام، يقتضي الوصول فيه إلى نتيجة وحكم شرعي مقنع يسنده الدليل النقلي و العقلي و يطمئن إليه القلب الإلمامَ بأحكام الشرع، وأحكام القانون بصفة عامة والقانون الدولي بصفة خاصة، مع مراعاة لمقاصد الشريعة والأحوال المختلفة للمسلمين في ديار الغرب وفي ديار المسلمين.
ثانيا: الولاء والبراء من المفاهيم الإسلامية التي جنـى عليها كثير من المسلمين في زماننا هذا، مما أوقعهم في كثير من البلايا والفتن.
وقد تعرض هذا المفهوم لوجهين من الغلو: غلو إفراط وغلو تفريط:
أ – غلو الإفراط: أدى إلى التكفير بالأعمال الظاهرة التي تخالف موجبات الولاء والبراء، فترتب على ذلك تكفير كل من يهاجر إلى بلاد غير المسلمين أو من يتجنس بجنسيتهم أو يوقع معهم معاهدات أو اتفاقيات..
ب – غلو التفريط: الذي أوقع البعض في حرب مفتوحة ضد عقيدة الولاء والبراء ( وغيرها من المفاهيم الإسلامية الأصيلة كالجهاد وغيره ) فطالبوا بإلغائها نهائيا، لكونها في نظرهم تؤصل للتطرف والغلو وكراهية الغير..
ثالثا: أصبح بعض المسلمين يعلقون ويربطون أي مسألة فقهية أو شرعية بمفهوم الولاء والبراء، ومنها قضية التجنس، مما يجعلنا نقول: إن التجنس لا علاقة له بالولاء والبراء إلا في حالة ثبوت المحبة القلبية للكفر والكافرين، فآنذاك تنبني على الولاء والبراء حرمة التجنس.
رابعا: لا يمكن الحكم على مسألة “التجنس بجنسية الدولة غير المسلمة” بحكم واحد مطلق يسري على جميع القضايا المتعلقة بهذا الموضوع، بل كل نازلة ينبغي أن تُدرس من قبل المتخصصين والفقهاء وفق ظروفها وملابساتها. فالفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، فنازلة وقعت إبان الاحتلال الغربي لبلاد الإسلام ليس لها حكم نازلة وقعت في هذا العام، كما أن المستفتي وهو في حالة الاضطرار ليس كالمستفتي وهو في حال الاختيار.
خامسا: الحكم في الموضوع لا يحتاج فقط إلى العلم الشرعي وحده من كتاب وسنة.. بل يحتاج إلى الإحاطة بالموضوع من مختلف الجوانب القانونية والسياسية والواقعية.
سادسا: يجب إعادة الاعتبار للفتوى الجماعية والمجامع الفقهية الدولية، والرجوع إليها في هذه القضايا المختلف فيها، وإلا أصبحت لكل قضية مئات الفتاوى الفردية المختلفة والمتعارضة أحيانا.
سابعا: لا يمكن الاستناد إلى ما ذهب إليه الفقهاء في فتاواهم إبان مرحلة الاحتلال الغربي لبلاد الإسلام، لأن أغلب تلك الفتاوى تتعلق بالمتجنسين بجنسية دول محاربة ومحتلة لبلاد الإسلام.
ثامنا:إن إصدار الفتوى في موضوع التجنس عامة يحتاج إلى التريث واستحضار الواقع القانوني والاجتماعي، ويحتاج إلى التريث أكثر حين يتعلق الأمر بهاته الفئة الأخيرة من الأقليات المسلمة التي هي أصلا من سكان الديار غير المسلمة، لأن المفتيَ لا يجب أن يهتم فقط بإصدار الفتوى، بل يجب عليه أن ينظر إلى مآلاتها، وقبل أن يقول بالتخلي عن جنسية معينة لا بد أن يستحضر مدى إمكانية حصول المتخلي على جنسية جديدة، أما من يدعي أن عديم الجنسية لا مشكلة عنده، فأحسب أنه لا علم له بمادة الجنسية بصفة عامة والإشكالات والآثار الناتجة عن انعدام الجنسية )أو ما يسمى بالتنازع السلبي (بصفة خاصة).
وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين،
وعلى آله وصحبه أجمعين،والحمد لله رب العالمين.
اترك رد