يزيد بوعنان –
1–لقد ظلت العلاقات الجزائرية الفرنسية منذ استقلال الجزائر سنة 1962 تعتريها موجات من ردود الأفعال والتشنجات والتصريحات السياسية التي تصب في اتجاه محاولة ردم الهوة السحيقة بين الطرفين ، أو أحيانا كردود أفعال عن تصرفات ومواقف صادرة خاصة من الطرف الفرنسي الذي مازال ينظر للجزائر بنظرة استعلائية تخفي من ورائها نظرته الاستعمارية التي لم يتمكن من التحرر منها ، أما الطرف الجزائري فقد ظل يتأرجح بين موقفين متناقضين : الموقف الرسمي المداهن لفرنسا حفاظا على مصالح العصب النافذة في الحكم والتي أصبحت تعلن ولاءها جهرا لفرنسا وتدافع بقوة عن مصالحها ، وهو ما بدا جليا من خلال وقوف هذا الطرف بقوة لمنع مرور قانون تجريم الاستعمار الذي حاول بعض النواب تمريره والمصادقة عليه في البرلمان ، قبل أن تتدخل الجهات النافدة في السلطة لتمنعه حتى من مجرد المرور أمام النواب فما بالك المصادقة عليه ، ولذلك فإن فرنسا مرتاحة من هذا الجانب بل أنها قد أصبحت تتصرف اتجاه الجزائر مستغلة حالة الفرقة والتشرذم التي تعيشها البلاد ، مما جعل الفرنسيين يختارون المجالات الاقتصادية أو الثقافية التي يريدون الاستحواذ عليها دون التقيد ولو شكليا بالشروط التي تفرضها القوانين و التشريعات الجزائرية في مجال المناقصات عقد الصفقات ، وبالعودة قليلا إلى الوراء نلاحظ أن العلاقات الجزائرية – الفرنسية كانت قد مرت بأصعب أوقاتها عندما صادق البرلمان الفرنسي على قانون 23 فيفري 2005 المعروف بقانون تمجيد الاستعمار والذي يوصي بإدراج تضحيات مقاتلي الجيش الفرنسي، بخاصة أولئك المنحدرين من شمال أفريقيا في المقررات المدرسية وإعطائهم المكانة التي يستحقونها مع إضفاء التصور الإيجابي للوجود الفرنسي في تلك الأراضي، وهو ما اعتبرته الجزائر الرسمية حينها تزويراً للحقائق التاريخية فيما وصفته الصحافة الجزائرية والمجتمع المدني شتماً للذاكرة الجماعية للجزائريين.
2- قانون تمجيد الاستعمار و محاولة تبييض التاريخ الاستعماري:
وكان من آثار هذا القانون أن وضع اتفاق الصداقة الذي يسعى إليه الجانبان الجزائري والفرنسي في الثلاجة، إذ بلغ التوتر مداه عندما أصر السياسيون الفرنسيون على «تبييض» تاريخهم الاستعماري في كتب التاريخ المدرسية وذلك شيء طبيعي – ، ولكن غير الطبيعي هو سعي أطراف جزائرية تدعي الوطنية والدفاع عن تاريخ البلاد وثوابتها إلى عرقلة كل المحاولات التي تريد إصدار قانون يجرم الاستعمار ، كما فعل رئيس الغرفة السفلى للبرلمان – عبد العزيز زياري- وذلك بإيعاز من جهات عليا في السلطة إلى منع إصدار قانون تجريم الاستعمار الفرنسي ، وبذلك فإن هذه الأطراف الجزائرية قد ساهمت من حيث تدري وتعي في مساعدة الفرنسيين الفخورين بجرائمهم الاستعمارية على غرس مفاهيم كاذبة في عقول أجيالهم ، وتتعلق هذه المفاهيم بالحديث المزيف عن الخير الذي قدمته فرنسا لمستعمراتها القديمة والحضارة التي جلبتها والعمران الذي شيدته وكيف أنها حسنت حياة شعوب تلك البلاد التي دخلتها أصلاً من أجل تحريرها من جهلها ومن استعمار الغير لها.
واعتبرت الجزائر الرسمية بأن ذلك يعد كيلاً بمكيالين. فكيف تريد الحكومة الفرنسية اتفاق صداقة وهي تصر على إنكار قرن و32 عاماً من التضحيات لإنهاء معاناة ناجمة عن القتل والتجويع الذي مارسته فرنسا بحق الجزائريين؟
وذكرت الباحثة الجزائرية ليديا آيت سعدي في رسالة الدكتوراه التي ناقشتها بداية هذا العام في فرنسا أمام لجنة من المؤرخين الفرنسيين على رأسهم المؤرخ الفرنسي الشهير بنجامين ستورا صاحب عشرات الكتب عن تاريخ الثورة الجزائرية، أن «الأمة الجزائرية تشكل مثالاً ناجحاً لمقاومة الترشيد من خلال الثورة التحريرية الوطنية، وأن الجزائريين يعتبرون ذلك موطن فخر لهم تعمل كتب التاريخ المدرسية على نقله للتلاميذ، وتجمعهم حول ورش بناء الأمة وأهداف طويلة المدى تتعلق بالتنمية، فتقبل تلك الأجيال تضحية العرق بعد أن قبل من سبقها تضحية الدم، وتقبل تلك الأجيال صعوبة الحياة اليوم في بلد أفلسه الاستعمار». وحملت رسالة الدكتوراه عنوان «الأمة الجزائرية عبر كتب التاريخ المدرسية الجزائرية». ورصدت الباحثة لهذا الغرض أربعين كتاب تاريخ مدرسي أصدرتها وزارة التربية الوطنية منذ عام 1962 تاريخ استقلال الجزائر إلى عام 2008. ووصف المؤرخ لوك ديهوفيل من المعهد الوطني الفرنسي للغات والحضارات الشرقية عضو لجنة التحكيم هذا العمل بأنه «يسمح بتجديد النظرة للتاريخ الجدلي والصعب للجزائر».
3- المنظومة التربوية ميدان خصب لتلقين التاريخ واستخلاص العبر:
هذا التاريخ الذي يجمع المختصون والمهتمون بالتاريخ الحديث والمعاصر بأن الأجيال الجزائرية التي جاءت بعد الاستقلال لم يعرفوا منه «إلا ما كانت الدولة تريد منهم أن يعرفوه». ولذلك فإن هذه الأجيال : « قد فقدت الثقة بكتب التاريخ المدرسية » ، شخصيا مازلت أتذكر بأن الكثير ممن تمت تصفيتهم من قبل أترابهم وإخوانهم لمجرد أنهم اختلفوا معهم في وجهات النظر سواء خلال الثورة التحريرية أو بعدها ، كنا نعرف عن طريق المقررات التي نقرأها في كتب التاريخ بأنهم سقطوا شهداء في ميدان الشرف ، ولم نعرف بأنهم قتلوا على أيدي إخوانهم إلا بعد التفتح والتعددية الإعلامية والسياسية ، وفي نفس الاتجاه يقول أحد المثقفين المتخرجين من الجامعة الجزائرية « لقد فقدت الثقة تماما في كتب التاريخ الذي تقدمه المدرسة منذ أن اكتشفت عام 1992 رجلاً اسمه محمد بوضياف وكنت حينها في سن العشرين. قدموه على أنه أب الثورة الجزائرية فوقعت في جدال كبير مع كل ما تلقيته في المدرسة لأن كتب التاريخ التي مرت علي لم تذكره أو تشر إليه ، حتى اكتشفت أنه كان على خلاف مع من حكموا البلد منذ الاستقلال لذلك ألغي من كتب التاريخ لجيل كامل ، ولكن ما يؤسف له أنه استغلوه فيما بعد أسوأ استغلال وكنات نهايته مأساوية على أيدي زبانية النظام ورموز المافيا السياسية والمالية ».
وتقول مثقفة أخرى إن «خطورة ما كنا نقرأه في كتب التاريخ الجزائرية اكتشفناه اليوم، فتلك الكتب لم تكن تطلعنا إلا على البطولات والأبطال الذين توافق عليهم السلطة مع أن تاريخ كل بلد، خصوصاً إذا شهد حروباً، فيه عيوب أيضاً وهي اليوم تظهر في مذكرات الشخصيات الثورية وكتب التاريخ المستقلة». وتضيف هذه السيدة التي رفضت الإفصاح عن اسم عائلتها: «لم أسأل نفسي مثل هذه الأسئلة إلا عندما صدمت وصعقت وأنا أرى جميلة بوحيرد أمامي، فقد اعتقدتها شهيدة مثل فضيلة سعدان ومريم بوعتورة ولم أفهم حتى الآن لماذا لم يدرسونا شيئاً عن حياتها ولم يقولوا لنا إن تلك الشهيدة هي في الحقيقة حية ترزق… أفقدني ذلك الثقة بكل ما درست وأنا اليوم حريصة على متابعة كل ما يدرسه ابني في كتب التاريخ حتى أصحح له المفاهيم وأجنبه خيباتي وغضبي من المدرسة والكتاب».
والواقع أنه على رغم إخفاء حقائق تاريخية كثيرة في كتب التاريخ المدرسية سابقاً إلا أنها لم تتضمن الأخطاء التي تضمنتها كتب التاريخ الحالية والتي تم اعتمادها من قبل وزارة التربية الوطنية وقد أدت هذه الأخطاء الفادحة والمقصودة في أغلب الأحيان إلى إثارة زوبعة بين الأساتذة وأولياء الأمور بل وكل المجتمع عام 2007 عندما تضمن كتاب التاريخ للسنة الخامسة ابتدائي جملة تقول إن «فرنسا استفادت في بداية القرن التاسع عشر من الثورة الصناعية لتطوير أسلحتها فشكلت قوة عسكرية مكنتها من تحرير الجزائر». واعتبرت الأسرة التربوية ذلك تمجيداً للاستعمار وفسرته بأنه نقل حرفي لدروس الكتب الفرنسية. كذلك تضمن كتاب السنة الرابعة متوسط جملة اعتبرتها الأسرة التربوية إهانة للمجاهدين والمناضلين الجزائريين وتقول: «ما كشف عن الوجه الفظيع لفرنسا في نهاية الحرب العالمية الثانية هو أحداث 8 ماي 1945 ما دفع بالثوريين المتطرفين التابعين لحزب الشعب الجزائري إلى تطرف أكبر أدى إلى توسيع الهوة بينهم وبين من كانوا يطمحون إلى العيش بسلام وأمن مع فرنسا». واعتبر أساتذة ومؤرخون وصحافيون ذلك إهانة للمبادئ الثورية ووصف المناضلين والشهداء «بالثوريين المتطرفين» جريمة، مطالبين بسحب الكتابين فوراً.
والأكيد أنه ما كان كل هذا ليتحقق لفرنسا لولا اللوبي الفرنسي من الجزائريين العاملين من أجل التمكين لفرنسا في الجزائر بشكل مطلق وشامل، حتى أن الحديث القديم عن حزب فرنسا في الجزائر بكل ما تحمله كلمة حزب من معاني الرقي السياسي والعمل الشفاف بالوسائل السلمية، أصبح حديثا غير لائق تماما ولا يفي بالغرض في وصف الوضع الجزائري مع فرنسا، والصحيح هو الحديث عن كتيبة فرنسية من اللفيف الأجنبي مدججة بكل أنواع الأسلحة وتعمل على بث الدمار الشامل وتغذية التفكك الحاصل في صفوف الجزائريين عبر تسخير جميع الوسائل المادية والمعنوية لتنفيذ المخططات الهدامة ، وتبقى المنظومة التربوية ميدانا خصبا لتنفيذ مثل هذه المخططات.
**كاتب جزائري**
اترك رد