ناقش المؤتمر نتائج الحرب العالمية الأولى وأثرها على الصعيدين السياسي والاجتماعي، والتي أبرزها ذلك الإرث الذي خلفته مجريات الحرب من نزاعات حدودية، وعرقية، وطائفية، حيث تم تناول أكثر من عشرين ورقة بحثية دارت حول عدة محاور منها: دراسات مقارنة لأوروبا والشرق الأوسط أثناء الحرب العالمية الأولى وموروثاتها، والمناهج البحثية المتبعة في دراسات الحرب العالمية الأولى في أوروبا والشرق الاوسط، وآثار الحرب والتسويات السلمية فيما بعد الحرب على المنطقتين، وذكريات ومذكرات الحرب العالمية الأولى، وغيرها.
في كلمتها الترحيبية، قالت د. إيمان مصطفوي، عميد كلية الآداب والعلوم: ” أن احتضانَ جامعةِ قطر لهذا المؤتمرِ العلميِّ العالميِّ لَيُعتبرُ أحَدَ تَجلياتِ سعيها لتحرير العقلِ بغية التفكيرِ الناقد،ِ وتشجيعِ البحث ِالجادِّ الرزينِ سبيلا لمواجهةِ التحدياتِ الإقليميةِ والعالميةِ المنصوصِ عليها في رِسالَتِها، وأحَدَ مظاهرِ دَورِها التنويرِي المُمْتَدِ لعدة عقود، والمَعْنِي بخدمةِ العقل العربي وتحديثِه، والمساهمةِ في تشكيلِ وعيهِ وتطويرهِ.
وأشارت د. مصطفوي إلى أن ضُغُوطَاتِ اللَّحْظَةِ الرَّاهنةِ بِتَعْقِيدَاتِهَا الْوَاضِحَةِ والْتِبَاسَاتِهَا الْبَادِيَّةِ تَفْرِضُ عَلينَا إِعَادَةَ النَّظَرِ في الأحداثِ التاريخيةِ التي طَالَمَا تَعَامَلْنَا مَعَهَا بِتَسْلِيمٍ مُطلقٍ وَثِقَةٍ عَمياءَ، فمن الضَّرورِيِّ مُسَاءَلَةُ هذهِ الأحداثِ من مَنظورٍ علميٍ مُحَايدٍ يتجنبُ تَحْمِيلَها مواقفَ أيديولوجيةٍ مسبقةٍ تدعمُ وُجَهَاتِ النظرِ المتصارعةِ وتَمنحُها رَصَانَةً وَهْميةً أو منطقاً صُوريا.
كما أوضحت أنَّ التاريخَ يُكَرِّرُ نَفسَهُ “ينبغي ألا تُفهم في معناها المباشر بأن اليوم هو صورة ٌكربونيةٌ لِلأمس، وإنما بوصف الحاضر تجليًا للماضي وابنًا شرعيًا له، يرث خطأه وصوابه، وهو ما يؤكد مجددًا على أهمية إعادة تفكيك العلاقات الملتبسة في الماضي وإضاءةِ المناطقِ المُعْتَمَةِ فيه أو المُتَلَوِّنَةِ بِرُؤَى تَكْسِبُ الحَدَثَ التاريخيَّ الواحدَ لونين متناقضين تبعًا لتأثير اللحظة التاريخية وهَوَى مُدَوِّنِيهَا
وأضافت د. إيمان مصطفوي أن الحربُ العالميةُ الأولى شكّلت حَدَثًا فَارِقًا في تاريخ البشرية بما تَمَخَّضَ عنها من نتائجَ تَتَجاوزُ بكثير مدة السنواتِ الأربعِ التي استغرقتها هذه الحرب، فقد كانت المرة الأولى في عمر البشر التي يجتمع فيها أكثر من سبعين مليون مقاتل قضى نحو 4 ملايين منهم نَحْبَهُمْ، كما كانت المرة الأولى التي يتم فيها إعادةُ تشكيلِ العالمِ على هذا النطاقِ الواسعِ وبهذهِ الوتيرةِ المتسارعةِ، وهو تشكيل يتوزعُ على المستويينِ المادي والفكري، فقد فقدت الامبراطوريات الكبرى كالامبراطورية الألمانية والروسية والمجرية جزءًا كبيرا من أراضيها ومستعمراتِها وتفككت الامبراطورية العثمانية لِتَتَلاَشَى نِهائيا، وتم إعادة رسم خريطة العالم وأوروبا خاصة فظهرت دُولٌ جديدة، غير أن هذه الأثار المادية لم تكن سوى قمةِ جبلِ الجليدِ الذي أَخْفَى تَحْتَهُ تَغَيُّراتٍ حادةٍ على مستوى تَبدلاتِ القيمِ الفكريةِ والقناعاتِ الأيديولوجيةِ للأمم والشعوب المتصارعةِ، مما أحدث خلخلةً للثوابتِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والسياسيةِ للوعيِ الجَمْعِيِ لهذه الشعوبِ وانتقل بمفهوم الهُويةِ من حدوده القديمةِ إلى أُفُقٍ مغايرٍ تَجَلَّى أَثَرُهُ بِوُضُوحٍ في الحربِ العالميةِ الثانيةِ التي كانت نِتاجًا طبيعيًا لِنَظِيرَتِهَا الأولى.
كما نوهت د. مصطفوي إلى أن التاريخ وخاصة تاريخ الحروب لا يكتُبُهُ غالبا إلا المنتصِرون، وهذه الحقيقة تُؤكد مجددًا على حالةِ فقدان الثقةِ في بَعْضِ المَرْوِيَّاتِ التاريخيةِ التي تَتَجَاوَزُ دَوْرَهَا في التوثيقِ لِخدمةِ أهداف الأطرافِ المتصارعةِ والعملِ على دعمِ مواقِفِها في مواجهةِ بعضِها، وهو ما يؤكد مجددًا على أهميةِ مثلِ هذه المؤتمراتِ التي تُدْرِكُ بِوَعيٍ أن مُجَاوَزَةَ إشكاليةِ التاريخِ الموجّهِ يرتهنُ بالقدرةِ على الانعتاقِ من أَسْرِ الرُّؤَى الْمُعَلَّبَةِ والأفكارِ الجاهزةِ لِصالحِ المنهجيةِ العلميةِ الرزينةِ والمنظورِ المُحايد وهو ما يَتَبَدَّى بِوُضُوحٍ في مَحَاوِرِ هذا المؤتمرِ وأوراقِه البحثيةِ التي تُقَارِبُ آثارَ الحرب العالمية الأولى ليس فقط على مستوى أوروبا ولكن على مستوى الشرق الأوسط أيضًا.
وفي كلمته، أكد د. محجوب الزويري رئيس قسم العلوم الإنسانية على أن هذا المؤتمر جاء مساهمة من برنامج التاريخ في كلية الآداب والعلوم في جامعة قطر في النقاش والبحث العلمي حول إرث هذه الحرب، حيث ما يميز هذا المؤتمر هو أن الاوراق المقدمة خلال يوميه تتجاوز النمط التقليدي في الحديث عن الحرب وعن العمليات العسكرية الى النظر الى الجوانب والقصص غير المحكية والتي لم تنل حظها من التناول، كما أنه يقدم مقارنة بين منطقتي الشرق الاوسط واوروبا الوسط التي فُرضت عليهما ان تكونا مشهداً مهما لتلك الحرب.
كما أشار إلى أن المؤرخين اعتادوا على الحديث عن الحرب العالمية الاولى بوصفها حدثاً، والحدث تعريف يعني الانقضاء بلا أثر او بأثر قليل، لكن الحرب الاولى لم تكن حدثاً بل عملية تتابعت خلال حدوثها وبعدها التغيرات حتى اللحظة التي نحن فيها.
فالإنسان في الشرق الأوسط لا سيما العرب وكذلك اخوته في الانسانية في وسط أوروبا مر عليهم شبح التقسيم والعبث بحاضرهم آنذاك ومستقبل أجيالهم الذين نحن جزء منه.
وأضاف د. الزويري إلى أن استحضار الجوانب متعلقة بالحرب العالمية الاولى وارثها، ليس ترفاً ولا مجرد اضافة مؤتمر الى أخريات نُظَمت حول هذا الموضوع، انه استحضار لنعرف فنخرج من خطيئة الجهل، ولنعلم فلا يتفوق علينا الاخر بالعلم، ولنتعلم فننجو والاجيال القادمة مما وقع فيه آخرون جهلا من أنفسهم او تجهيلا لهم.لان الحرب كانت عملية ولأنها اخترقت وتخترق مع شقيقتها الحرب العالمية الثانية فضاءنا المعرفي والسياسي العربي.
اترك رد