لقد تَربَّي الذَّوق عند العربي فاتَّصل هَذا الذَّوق بإحساسِه وبأذنه فحَكمهُ ، وأقَرَّ الجميع هذا الذَّوق حتى أصبح يُعد ذوقًا عامًّا ، وكيف لا ؟ وهذا الذوق الفطري نشأ في ظل العادات والتقاليد وأنماط التعبير التي اقتضتهَا طبيعة التَّكوين الاجتمَاعي لحياة العرب آنذاك ، فصَدرت أحكام العرب مرتجلة نتيجة لهذا التذوق المباشر الذي أحس به النَّاقد ، وجَاءت مُوجزة بعيدة عن التَّعليل والتَّدليل والتفصيل ، وإن وُجد فهو تعليلٌ جزئي ، ولا يتعارض ما نقوله من تحكيم الذوق الفطري وجعله أساسًا مهمًّا لصدور الأحكام النقدية مع ما سوف نلاحظهُ من تعليل لبعض الأحكام كتعليل أم جندب لحكمها وتعليل ” النابغة الذبيانى ” لحكمه علي تخلف ” حسان بن ثابت ” ….
لقد قررنا – آنفًا – أن النقد كان مبنيًّا علي الذوقِ الفطريّ الذي قد يحسّ الجمال دون أن يعرف سببه ، وقد يعرف له سببا لا يفصح عنه ؛ إذ يري أن الناس يفهمون ما يقوله ويدركون ما يدركه وقد يفصح عن السبب ولكنه إفصاح مبهم إن صح هذا التعبير لأنه إشارة وتلميح ، وقد يوضح ما ألهمه به ذوقه لكن الذوق يعتمد علي العادة أو علي – اللغة – في وضعها أو في مجازها القريب أو فيما تواضع عليه الناس في استعمالها 1 .
وبإمكاننا أن نقرّر أنّ ” ملكة النقد عند الجاهليين هي الذّوق الفني المحض ، وأن الفكر وما ينبعث عنهُ من التَّحليل والاستنباط فذلك شيء لا نعرفه عندهم ، وبعيد كل البعد عن الرُّوحِ الجاهليَّة وعن طبيعة العصر الجاهلي ” .
وربما كانَ هناك ثَمّة سبب يكمن وراءه هذا الغموض في النقد ، وهو أنَّ الناقد كان يتوجه في نقده إلي جمهور يعرف من الفصاحة والبلاغة مثل ما يعرف ، ولا يحب أن يقف منه موقف المعلم الشارح ، باعتبار أن في ذلك غضًّا من شأنه ، أو حطًّا من قيمته ، فكان الناقد يلجأ إلي الإيجاز في نقده كما يلجأ المتكلم إلي الإيجاز في كلامه 2.
ويطرح الدكتور / عبد القادر حسين – استاذ البلاغة في جامعة الأزهر – سؤالاً ويجيب عنه ، فيقول : هل كان العرب في الجاهلية إلي هذه البلاغة الفنية المتكاملة بطريقة فطرية ساذجة تعتمد علي الذوق وحده دون أن يكون للدرس أو المنهج أو الخطة نصيب في هذا العمل البلاغي الرائع ؟ ويطرح السُّؤال بطريقة أوضح ، فيقول : هل كان العرب يعتمدون علي الموهبة والاستعداد فحسب دون التدريب والممارسة ؟.
ويجيبُ بأنَّ بعض الباحثين ينقل عن حازم القرطَاجنى الأندلسي ( ت 684هــ ) ملاحظته بأنَّه ” لم يجد شاعرًا مجيدًا من شعراء الجاهلية إلا وقد لزم شاعرًا آخر لمدةٍ طويلة ، وتعلَّم منه قوانين النَّظم ، واستفاد عنه الدّربة في أنحاء التَّصاريف البلاغية .
بَيد أنه يرفض رأي ” حازم الأندلسي ” في ممارسة العرب لفن البلاغة والتدريب عليه ، ويعده إسرافا في الرأي ، وإبعادا في النظر ، وأن العرب لم يكن لهم في ذلك مرجع إلا الذوق الحساس ، والطبع المصقول ، ووسيلتهم في ذلك حفظ المنحول من النصوص 3 .
ويقول الدكتور / عبد القادر حسين وإذا كان الباحث يرفض قول حازم الأندلسي أفلا يرتضي قول ابن رشيق : ” بأن العرب كانت تنظر في فصاحة اللام وجزالته وبسط المعني وإبرازه وإتقان بنية الشعر وإحكام القوافي وتلاحم الكلام بعضه ببعض ” فابن رشيق يلاحظ أن العرب كانت تفحص كلا منها حتى يكون فصيحا واضحا متلاحما بعضه مع بعض هو أرقي ما وصل إليه الفن البلاغي علي يد النقاد ، وهو الذي فسره لنا عبد القاهر الجرجانى ( ت 471هـــ ) في نظرية ” النَّظم ” 4 .
والمتتبع لمدرسة زهير بن أبى سُلمى المزني (? – 13 ق. هـ / 502 – 609 م) [ مدرسة الصنعة – أو ما يسمونهم عبيد الشعر ] يري دلالةً واضحةً علي أنَّ الأمر لم يكن متروكًا للطبعِ والسليقةِ أو الاكتفاءِ بالإحساسِ الذي لا يصَاحبه معاودة نظر .
والحق أنَّنا لو تتبعنَا الأحكام النَّقدية الصَّادرة في هذا العصر لرأيناها أحكاما قليلة بالنسبة إلي ما قالوه من شعرٍ ونثرٍ ، ولرأينَا أكثرها خاليا منَ التعليل ، وعرفنا بأنَّها أحكام ارتآها أصحابها فأطلقُوهَا ، فسارت غير مقترنة بأسبابها ، ولا مفسرة بما يُؤيدهَا ..
وأمَّا القليل المُعلَّل من تلك الأحكام فقد توزعت علله بين معانٍ أُعجب بها صاحب الحكم فحكم لصَاحبها ، أو قيمة خلقية كان الحكم للشاعر بسببها ؛ وإنْ كان هذا النوع من الأحكامِ قد شَاع وانتشر في عصر صَدر الإسلام بصورة أوضَح 5 .
إنَّ مجمَل ما نستطيع أن نقرّره بصدد الظَّواهر البلاغية التي تضمنتها أحكام النَّقد في الجاهلية أنه كانت هناك أحكام نقدية خالية من التعليل ، وأنَّ الأحكام المعللة قليلة أصْلا ، وأنَّ ما علل منهَا فأغلب علله غير بلاغيَّة ، وحين يكون التعليل متصلا بأمر من أمور البلاغة ، فليس معني ذلك أكثر من وجود حسٍّ ذَوقي صَدر عنه الحكم النقدي ، وعبَّر عنه صاحبه بشكل شخصيٍّ أو فرديٍّ .
ومن ثَمَّ نستطيع – أخيراً – أن نقرر في اطمئنان ، أنَّ فصاحةَ العربِ في الجاهليةِ لم تكن تَعتمد عَلَي الموهبةِ أو الفطرةِ وحدهَا ، وإنَّما كانُوا يعملونَ علي صقلها بالممارسة والدُّربة والتَّنقيح ، والتَّهذيب حتى تصل إلي ما وصلت إليه ، وهذا يتفق مع طبيعة أي فن من الفنون فالموهبة وحدها في العمل الفني لا تجدي إذا لم تساندها الدراسة – مهمَا كان نوعها – حتى تنضج ويُكتب لها البقاء والخلود .
الهوامش:
1- الذوق الأدبي ( أطواره ونقاده ومجالاته ومقاييسه ) ، د . عبد الفتاح علي عفيفي ، ط . الأمانة – القاهرة 1992م .
2 – فن البلاغة ، د / عبد القادر حسين ، ص 18 ( بتصرف ) ، ( د . ت ) .
3 – أثر النحاة في البحث البلاغى ، د / عبد القادر حسين ص 12 ، ط . نهضة مصر للطبع والنشر ( د . ت ) وينظر : تاريخ العربية ، د . أحمد شعراوي ، ص 18 ، دون ذكر طبعة .
4 – المرجعان السابقان .
5- الموجز في تاريخ البلاغة ، د / مازن المبارك ، ص 30 ، دار الفكر – الطبعة الثانية 1400 هـ = 1979 م .
اترك رد