إننا نعيش أزمة كبرى ، تضاف لأزمات عديدة تواجهنا ؛ فإذا كنا نعاني من أزمة قلة الإصدارات والكتب في العالم العربي، بالمقارنة بين الدول السائرة على درب النهوض ، بجانب غياب القراء لما هو جاد ، وانتشار كتب التسالي والكتب الخفيفة مثل كتب الرياضات والطبخ وأخبار النجوم وفضائح المشاهير والساسة ، فإننا نعاني معاناة مضافة ، تتمثل فيما نسميه أزمة القراءة والمتابعة لما هو جاد ، وأزمة النقد المعمق لما هو منشور . وهذه الأزمات وإن كانت مترابطة ومتشعبة ، وتعود لأسباب اجتماعية وثقافية ونهضوية وسياسية ، إلا أننا نرصد غياب رؤية شاملة تحاول أن تناقش الأزمة ، وتقترح حلولا ، وتقدّم رؤى ، فالتباكي وحده لن يحل الأزمة وإن نبّه على وجودها ، كما أن الحل لن يأتي إلى ممن أدرك أبعاد الأزمة وآثارها،وتفاعل معها،وامتلك خيالا ، يطل به على مشكلات الواقع، ويساهم في حله.
أبعاد الأزمة :
ربما يظن البعض أنها مشكلة بسيطة ، ولكن الواقع المعيش ينطق بأنها مشكلة كبرى ، ألا وهي غياب القراءة الفاحصة ، والمتابعة النقدية ، والتلقي الواعي ، للكتب والإصدارات الجديدة والتي صارت قديمة ، بحكم تراكم السنين والتجاهل، وربما نلمس هذا ، فأكثر الكتب شهرة والتي يذكرها الناس ترتبط دائما بعوامل غير علمية ولا نقدية ، منها شهرة الشخص ذاته ، بأن يكون إعلاميا أو شخصية شهيرة، أو أستاذا جامعيا ، قرّر الكتاب الصادر على طلابه ، فدرسته أجيال من الطلاب واستحضروه في أحاديثهم ، أو يكون ذا منصب وجاه ، فالكل يركض خلف ما ينتجه بغض النظر عن القيمة ، وبعبارة موجزة : شهرة الكتاب لا ترجع إلى عوامل الإبداع والقيمة العلمية المضافة ، والرؤية الجديدة ، بقدر ما ترجع لعوامل ثانوية .
ولا زلنا نستحضر إحدى الروايات ، التي أصدرها إعلامي ، كتبها بالبهارات المعتادة ، من إشارات جنسية ، وأحداث ومفاجآت ، وهي في الحقيقة تروّج لأفكار نمطية ، لا جديد فيها ، ناهيك عن المستوى الفني التقليدي للرواية ، خصوصا أنها العمل الأول لصاحبها ، ولكن لأنه إعلامي ، ولأن موضوع الرواية على هوى السلطة، ؛ سرعان ما تحولت الرواية إلى مسلسل ، بعد تكرار طبعاتها .
فكثير من الكتب والأعمال الجيدة اختفت ومنذ بداية صدورها ، لغياب المتابعة والاحتفاء القرائي والنقدي بها ، والأمر أشد ضررا مع المشروعات البحثية الكبرى خصوصا في مجالات العلوم الإنسانية ، والأدب ، مما زاد من إحباط مؤلفيها، وتوقفهم في أحايين كثيرة عن مواصلة الإبداع والإضافة العلمية والبحثية .
المشكلة قائمة وملموسة ، ويعاني منها المجتمع الثقافي والعلمي ، وتتمثل في غياب المتابعة والعرض للكتب الجديدة أولا بأول، وعدم توافر نقاش علمي وتقييم حقيقي لكثير من هذه الكتب والإصدارات ، فالقراءة والنقاش والنقد تمثل الوجه الآخر للإبداع العلمي والإنساني والأدبي . وكثير من الكتب طواها النسيان لأنها لم تعرض ولم تناقش ، وضاع صداها ، خصوصا إذا لم تجد يتحقق لها انتشار أو ترويج . فالمشهد الحادث – والواقع الآن – هو كتب تصدر ، تواكبها أحيانا تغطيات صحفية محدودة لا تأثير لها ، وبعضها يكتفي بنشر الفقرة التي تكون على الغلاف الخلفي للكتاب ، أو تقديم عرض موجز وملخص للكتاب أكثره من مقدمة الكتاب نفسه ومما يمكن فهمه من الفهرس ، والغالب فيما نقرؤه احتفاء من أصدقاء المؤلف أو طلابه بالعمل الجديد ، دون فرز حقيقي هل هو جديد بالفعل أم تكرار لمنتج سابق للمؤلف نفسه أو في الساحة الثقافية ، خصوصا أن هناك شكوى عامة من ظاهرة كتب القص واللصق ، والروايات مكررة الفكرة ، وإعادة إنتاج ما سطره السابقون .
فأي إنتاج إبداعي أو فكري أو بحثي أو علمي لابد أن يواكبه عرض له ، ثم قراءة معمقة ، ونقاش جاد ، ونقد دقيق ، وتقويم وتقييم من متخصص ، وهذا- للأسف – غير حادث بشكل فاعل في حياتنا الثقافية العربية عامة ، والعلمية والأكاديمية خاص، ناهيك عن شكوى الأدباء والمبدعين من غياب النقاد الجادين .
وعلى الجانب الآخر ، فإن النقاد والمتخصصين ، إن قرأوا لا يكلفون أنفسهم عناء الكتابة بالعرض والتعليق والنقاش والنقد ، لغياب الحافز المادي ، وعدم توافر مواقع للنشر ذات مصداقية ، بعيدا عن النشر على صفحات وسائل الاتصال الاجتماعي أو المنتديات الأدبية المجانية ، فهذه تحفل بما هو أكثره غث ، ونادرُه جاد .
لقد ندرت القراءات المعمقة والناقدة ، مما أدى إلى غياب الحوار البنّاء بين القراء والنقاد والمؤلفين ، وهذا ما نسعى إليه في دعوتنا ، بأهمية فتح الباب على مصراعيه لهذا الحوار بين المؤلف والناقد من جهة عبر القراءات النقدية، وبين المؤلف والناقد والقراء من جهة أخرى ، والذي لن يتحقق إلا بإدراك الجميع ( المؤلف ، القارئ ، الناقد ) أهمية التحاور الخلاق ، عبر دراسات مكتوبة ، ومقالات متابِعة ، وآراء متفحصة ، وليست مجاملة أو مستسهلة المطالعة . فالحوار بين الأطراف الثلاثة لابد أن يكون منظما ؛ إما عبر ندوات شفاهية وهي بلا شك جيدة ، ولكنها محبوسة في شفاهيتها ، وفي عدد من حضرها ، أما لو تحول الرأي المعلن إلى مكتوب ومنشور ، فيكون الحوار محدد الأطر ، مرتب النقاط ، نستطيع أن نتابع الردود والتعليقات ، ونقارن ونوازن ، وكم من الفوائد ستعود على الجميع من هذا .
إحياء نهج ونهج الإحياء :
إننا نطالب بإحياء نهج القراءة الناقدة في الحياة الثقافية والعلمية العربية ، فالنقد عملية فكرية شاملة تمثل قمة التفكير، وهو عملية مواكبة وموازية ومساوية للتأليف والإبداع ذاته ، بل هو إبداع آخر ، أو إبداع على إبداع . فلا يعقل أن يغيب النقد بهذا الشكل عن الحياة الثقافية والعلمية العربية في ضوء كثرة الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية ، على نحو ما نجده في الشكاوى المتكررة على ألسنة المؤلفين والباحثين والمفكرين والمتمثلة في عدم وجود أي صدى – أو أصداء ضعيفة – لمؤلفاتهم .
فالنقاش الحقيقي يحفز العالم والباحث والمفكر والأديب على الإجادة، ومعرفة سبل تلقي كتابه وكيف استقبله القراء على العموم والنقاد والمختصين على الخصوص، مما يحفزه إلى استكمال مشروعاته العلمية ، بجانب التجويد لها .
وأيضا ،فإن النقاش الجاد يؤدي إلى فرز الأعمال الجيدة من الرديئة، وكم من أعمال رديئة تسيدت وانتشرت لغياب النقاد والمتابعين الجادين والتقييم الحقيقي لها ، وأضرت أكثر مما نفعت ، وبعض المؤلفين – خصوصا في المجال الأدبي – زادوا من التسطح الفكري والأدبي لدى القراء نتيجة استسهال القراءة، وغياب الإرشاد النقدي والتوجيه العلمي .
وعلى الجانب الآخر ، فإننا نطالب بنهج الإحياء ، ونعني به إحياء الحياة الثقافية والإبداعية والعلمية العربية ، على نحو ما كان عليه أجدادنا الأوائل ، فالتاريخ يحدثنا عن مدارس زاهرة في علوم اللغة والبيان مثل مدرستي الكوفة والبصرة ، ويحدثنا عن عواصم حضارية كانت المساجد والمدارس تتنافس في إقامة حلقات العلم ، وقراءة الكتب ، ومجالس النقاش ، وهو ما وجدناه في بدايات النهضة الحديثة فيما نسميه الصالونات الأدبية ، والجماعات الثقافية ، والمجموعات العلمية ، وكثير منها غاب تحت معاول ضياع البوصلة الحضارية ، وتعاظم الفردية ، وسيادة الأنانية العلمية، والركض وراء الأضواء ، وغياب الأطر الجماعية في البحث والتفكير .
أيضا ، فإن نهج الإحياء يحتاج منا إعطاء الفرصة للنقاد والباحثين الجيدين كي يقرأوا ويكتبوا ، مع تقديم الدعم لهم ، وإتاحة مساحات النشر في الصحف أو المجلات ، مما سيؤدي إلى حفزهم وحضورهم بدلا من كسلهم وابتعادهم ، وترقية مهاراتهم ، ومن ثم الاستفادة من قدراتهم البحثية والنقدية والعلمية ، على مستوى الأفراد والجماعات والتوجيه الثقافي والفكري العام.
ومن المهم في هذا الأمر استقطاب مختلف الأقلام البحثية والعقول الناقدة والأساتذة المحكمين ، وأيضا المثقفين والقراء وكل من يستطيع المساهمة بالكتابة والتقييم والبحث ، وستكون فرصة لطرح المزيد من القضايا البحثية المختلفة ، فالنقاش يولّد الأفكار ويفسح المجال لوجود تحاور علمي جاد ، يتخذ من الكتب والمؤلفات والأعمال الإبداعية موضوعا له ، ويكون بين المؤلفين والنقاد والقراء على السواء .
مستويات النقاش :
ونعني بها : مستوى التلقي والتفاعل مع الكتاب سواء كان شفاهيا أو مكتوبا ، فنحن في حاجة إلى تفعيل هذا ، خصوصا وأن دوائر التلقي تكاد تنحصر في مستويات ثلاثة ، متداخلة أحيانا ، ومتباعدة في أحايين كثيرة :
المستوى الأول : الخاص بعموم القراء ، وهؤلاء هم المستهدف العام للكاتب، فبهم وإليهم يتوجه المؤلف ، حتى لو كان كتابه أكثر تخصصا فهو مفيد أيضا لهذا القارئ، فلاشك أن القارئ العام له حضوره ، وتأثيره ، وإفادته ، فمن المهم أن يجد القارئ العام المساحة الكافية لعرض آرائه ، والتواصل مع المؤلف والناقد المتابع على السواء .
وبالطبع يتفرع عن هذا المستوى ما يسمى ” القارئ غير المتخصص ” ، والذي يحتاج إلى التعرف على الجديد في العلوم والفنون والآداب ، لإثراء ذائقته وفكره من جهته ، وأيضا إثراء تخصص الدقيق من جهة أخرى ، وفق مفهوم دائرية العلوم، وتكامل الفنون ، وتلاقح العقول ، وتلاقي الفهوم .
المستوى الثاني : القارئ المتخصص في نفس المجال ، وهذا يحتاجه المؤلف كي يتعرف – وبشكل مباشر – ثمرة إنتاجه وما أضافه ، وأفضل من يقدم له ذلك هو المختص في مجاله ، وكلا الطرفين مستفيد ، الأول / المؤلف ، والثاني القارئ، حيث التلاقح الفكري أوكد ، والتعاطي العلمي والإبداعي أشد .
المستوى الثالث : الناقد ، ولا نعني به الناقد الأدبي أو الفني فحسب، فالأمر أكبر من ذلك ، لأن النقد بشكل عام يناقش ويحلل ويقوم ، وينظر للكتاب بمنهجية نقدية، ووفق أطر معرفية عديدة ، ناهيك عن التراكم المعرفي الذي نجده عند الناقد ، نتيجة متابعاته الدائمة والحثيثة للجديد في هذا المجال . وبعبارة أخرى : فإن كل مجال علمي هناك عالم يمتلك القدرة على النقد ، بشكل منهجي وعلمي يضع يده على التميز، وينبه إلى المكرر ، ويقارن ويوازن بين الكتاب وغيره ، ومن ثم يضع الكتاب في موضعه الصحيح في الخضم الإصدارات الجديدة وأيضا القديمة .
ومن هنا ، فإن هناك ثلاثة خطابات تقرأ وتعلق وتناقش :
أولها : خطاب القارئ العام، وفيه يكون عبارات عامة ، ولكنها دالة على مستوى فهم الكتاب من قبل هذا القارئ ونفس الأمر مع القارئ المثقف غير المتخصص .
وثانيها خطاب القارئ المتخصص ، وهو إذا كان معنيا وواعيا لما في الكتاب، ويستطيع أن يتعرف الجديد ، وينبه على الأخطاء إن وجدت ، ولكنه لا يمتلك التقييم الشامل ، والنقد المنهجي ، لأن الأمر ببساطة أن ليس كل متخصص ناقد .
وثالثها : خطاب الناقد الممنهج ، والموضوعي ، والذي يقوم بمهام النقد المتمثلة بـ: التفسير ، التقييم ، التوجيه ، وهي مهام تشمل مختلف العلوم والإبداعات .
وفي ضوء ذلك ، فإن أسلوب الخطاب العلمي والنقدي سيكون صادرا من القارئ المتخصص والمؤلفين والمتابعين والباحثين ، مثلما يشارك في صياغته القارئ العام. مما يوجب على كل من يساهم في الكتابة والمراجعة والنقاش والنقد أن يضع في اعتباره الكتابة بأسلوب علمي سهل دون تسطيح ، واضح دون غموض، مستوفي الأفكار ، بقراءة واعية للكتاب ، والإحاطة بالموضوع ذاته كما أنه من المهم فتح المجال لكتابات عديدة حول الكتاب موضع البحث، بمعنى أن يكتب عنها ويقيمها الأستاذ الأكاديمي المتخصص في المجال، والمثقف العام ، والناقد المتخصص والمتابع . فتكون الكتابة وفق محاور عديدة ، أهمها : عرض الفكرة الأساسية للكتاب ومحاورها ، طرح الجديد في الكتاب والإضافة العلمية ، مناقشة أهم المعلومات والأفكار الجديدة أو المكررة ، نقد الكتاب فكرة ، وأسلوبا ، وعرضا ، وبناء ، وتسلسلا، وضع الكتاب في مكانته العلمية .
علاج الأزمة :
إننا في حاجة إلى توفير مواقع متخصصية إلكترونية ولها إصداراتها الورقية، تقودها كوادر أكاديمية وبحثية على مستوى عال، وتجذب المزيد من الكوادر البحثية والعقول ، والتي ستكون – دون شك – ملتقيا علميا جادا ، يستكمل جهود الجامعات ومراكز البحث العلمي والحلقات النقاشية ، وبتواصلٍ أساسه الكتب والبحوث من جهة، والمقالات والدراسات من جهة أخرى ، على أن تتيسر لجميع الأعمار والباحثين والتخصصات . كما تسعى هذه المواقع إلى تقديم مقالات تستهدف النقاش الحقيقي والمثمر والبناء للإصدارات الثقافية والعلمية والإبداعية والإنسانية العربية ، وترتفع بمستوى النقاش من الشخصانية أو العرض الصحفي أو الاحتفالي ، إلى النقاش العلمي الموضوعي المتوازن .
اترك رد