
استاذ مساعد فى جامعتي الأزهر وأم القرى
[email protected]
من الفينة إلى الأخرى يدخل الصهاينة المسجد الأقصى ، ويقومون بالاعتقال والامتهان للمصلين والركّع السجود ، عقب زيارة لمتطرف دينى أو جماعة دينية متطرفة لساحة الأقصى ، بدعوى أن المسجد الأقصى تحته هيكل سليمان !
واقتحام باحات المسجد لم تتوقف منذ احتلال القدس الشرقية 1967م ، فقد بدأت الاعتداءات على المسجد الأقصى فى عام 1967م عندما اقتحم الجنرال موردخاى غور ورفع العلم الإسرائيلى على المسجد ، وصادر مفاتيح المسجد ، وأغلقه لمدة أسبوع كامل ، وفى عام 1969م تعرّض الجناح الشرقى لحريق مفتعل ، وفى عام 2000 م سبتمبر اقتحم أرييل شارون وجمع من المتطرفين باحات المسجد الأقصى لتندلع شرارة مواجهة دموية بين الفلسطينيين والإسرائيليين لفترات طويلة على إثر هذا الاقتحام ، وفى عام 2007 م اقتحم المستوطنون ساحات الحرم ، وردّدوا هتافات ضد العرب ، وفى عام 2013 م اعتدى ضابط إسرائيلى على فلسطينية وركل القرآن الكريم بقدمه ، وفى مطلع مارس أصيب حوالى 60 فلسطينيًا بالاختناق جرَّاء إلقاء القنابل على المصلّين ، واقتحم الإسرائيليون باحات المسجد بأكثر من 20جنديًّا ، ومثلهم من المحتلين في عام 2014 م ، ومنذ أيام بدأت المواجهات مرة أخرى ، إثر اقتحام الجنود للمسجد الأقصى .
وهذه الاعتداءات المتكررة – والتى لم تتوقف – سببها اعتقاد اليهود أنّهم أحقّ بالمسجد الأقصى على الأقل من الناحية التّاريخيّة ، فقد بُنى على ” الهيكل ” – كما يزعمون – ، وهذا النقاش المحموم بيننا واليهود حول صاحب الحقّ التاريخىّ في هذه البقعة المباركة ” بيت المقدس ” منذ أمدٍ بعيد ، ورغم أنّ اليهود يعلمون علم اليقين أنّ العرب العماليق سكنوا هذه المنطقة قبل اليهود ، إلا أنهم يحاولون بشتَّى الطُّرق أن يثبتوا أحقيَّتهم التَّاريخية في هذه الأرض المباركة .
فمذ فتح عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – بيت المقدس ، وبنى المسجد ، واليهود يزعمون أن المسجد بُنى على هيكل سليمان ، ويقومون منذ احتلالهم لفلسطين في العصر الحديث بالحفر تحتَ المسجد الأقصى لعلَّهم يجدون أحجارًا تعود إلى عصر نبىّ الله سليمان – عليه السلام – ، والغريب أنهم مذ أكثر من نصفِ قرن لم يجدوا شيئا يقوّى زعمهم الباطل .
والمسجد الأقصى بُنى مسجدًا منذ القدم فقد سئل – صلى الله عليه وسلم – : أىُّ المساجد بُنى أولًا ؟ فقال : ” المسجد الحرام ” ، قيل : ثم أىّ ؟ قال : ” المسجد الأقصى ” ، قيل : كم كان بينهما ؟ قال : أربعون” .
وسُمّى بالأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام ، وكلمة الأقصى أى الأبعد ، وكان أبعد مسجد عن أهل مكّة في الأرض يعظَّم بالزِّيارة ، ويبدو أنّ الأربعين عامًا بعد رفع الخليل وإسماعيل عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم ، وبناه يعقوب – عليه السلام – لبنى إسرائيل يصلّون فيه لله ، ويوحّدون فيه الله ، وإسرائيل هو يعقوب – عليه السلام – ، ومع اختلاف المُسمَّى والإشارة إلى المكان فلا ضَير أن يكون المسجد في عُرفهم مؤخرًا اسمه ” هيكلا ” لكن كما بيّن نبينا – صلى الله عليه وسلم – أنه كان مسجدًا ، وسيظلُّ بإذن الله مسجدًا إلى يوم الدين .
والمسجد الأقصى أحقّ الناس بإدارته وعبادة الله فيه ” المسلمُون ” عبر كلّ زمان ، فإذا ضَلّوا نُزعت منهم قيادته ، كما فُعل مع بنى إسرائيل ، فالمسلمُون الآن هم أولى النّاس به .
لأَنَّ المسلمين هم ورثة جميع الأنبياء قال – صلى الله عليه وسلم – : ” أنا أولى بأخى موسى منهم ” ، وقال : ” أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة ” .
وفى الصحيحين : ” الأنبياء إخوة لعلَّات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ” .
وأمَّا مسألة الحقّ التاريخى فإنّ المسلمين لا يقرّون أحدًا على أرضٍ كان عليها يومًا من الأيام بعد فتحهم لها ، من منطلق ” إنَّ الأرض لله يورثها من يشاء ” ( الأعراف / 128 ) ، ويضمَنون كل حقوق المواطنة لمن يعيش معهم ، كما فعل النبى- صلى الله عليه وسلم – في المدينة مع اليهود .
والممعن النظر في تاريخ بنى إسرائيل يجد أنهم تعرَّضوا لأزماتٍ معروفة ؛ بسبب شخصيَّتهم التى جُبلت على نقضِ العهود ، وادّعاء الأفضليّة المطلقة ، وعدم حبّ الخير للناس أجمعين ؛ لذا لن تجد يهوديًّا يدعوك للدخول في ديانته ، وهذه الأزمات كانت تنتهى بإخراجهم من الشام عندما يضلُّوا عن الطَّريق الحقّ ، والأعداء يدنسون المسجد الأقصى وربما يهدمونه ، ولما يتبدل الجيل ، ويأتى من يستحق الدخول إلى بيت المقدس يعودون إلى الجهاد فينصرهم الله ويعزّهم ، ولعل من أزهر عصور ملكهم عصر نبى الله داود – عليه السلام – ومن هنا بدأت عنايتهم بالمسجد الأقصى وتم تجديده في عهد داود وسليمان عليهما السلام ، من هنا ادّعوا أحقيتهم في المسجد أو كما يسمّونه ” هيكل سليمان ” ، والعجب العجاب أنَّهم آذوا نبىّ الله سليمان وادّعوا أنّه عَبَد الأصنام في آخر حياته – حاشاه عليه السلام – ، وقد أبطل القرآن هذه الفرية قال تعالى : ” وما كفر سليمانُ ولكن الشياطين كفروا ” ( البقرة / 102 ) .
إذن من أحقّ الناس بوراثة سليمان ، من افترى عليه أم من برّأه من الشِّرك ؟
وقد علا اليهود مرة ثانية فقتلوا يحيى وزكريا – عليهما السلام – ، وهمّوا بقتل المسيح عيسى بن مريم – عليه السلام – ورفعه الله إليه ، فسلّط الله – عز وجل – الرّومان عليهم بعد حوالى 40 سنة من رفع المسيح عيسى بن مريم ، تقريبا سنة 70 ميلادية – على أصحّ الأقوال أن المسيح رفع في بداية الثلاثين من عمره – ، فحوّلوا المسجد الأقصى إلى اسطبل للخيول ، وظلّ تحت أيدى الرّومان حتى فتحه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – وتسلّم بنفسه مفاتيح المدينة في حدثٍ تاريخىٍّ معروف .
فأعاد – رضى الله عنه – بناء المسجد ، وأمر بتنظيفه وظلَّ تحت أيدى المسلمين منذ ذلك الوقت ، ورغم كلّ ما مرّ ويمرُّ به المسجد الأقصى من بعد وقرب عن حَظيرة المسلمين إلا أنَّ قيادته كانتْ للمسلمين فهم أولى النَّاس به بعدما قاموا بتنظيفهِ وتعظيمهِ ، بخلاف اليهودِ الذين تركوه وهربوا منذ آلاف السنين .
وبهذا يبطلُ زعمهم بأنّ المسجد الأقصى الحالى بناه عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – ولا علاقة له بالمسجد الأقصى الذى كان في زمن أنبياء بنى إسرائيل ، وهم بذلك يريدون الاستيلاء على المسجد الأقصى ، وشغل النّاس بمكانٍ آخر .
والأحداث الأخيرة تُظهر أنَّ اليهود عندما يجدون الفرصة سانحة ينقضّون على المسجد الأقصى يحرقون ويقتلون ويهدمون لأنّهم متيقّنون لن يردعهم أحد ؛ بسبب انشغالنا بالظروف الحالية ، وهم يروّجون لأحقيتهم التَّاريخية في الهيكلِ المزعوم ، نسأل الله – عز وجل – أن يرزق المرابطين حول الأقصى الإيمان والثبات وأن يُلقى في قلوب أعدائنا الرعب فلا يجترئون على حرماتنا .
اترك رد