إعداد: سعيد البوسكلاوي
جامعة زايد، أبو ظبي/ جامعة محمد الأوّل، وجدة
صدر كتاب جماعيّ بعنوان الكندي وفلسفته، أعمال مهداة إلى محمد المصباحي، وهو الكتاب الثالث في سلسلة أعمال الندوات والأيام الدراسيّة التي نظّمها فريق البحث في الفلسفة الإسلاميّة برحاب كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة، جامعة محمّد الأوّل بوجدة/المغرب، بين عامي 2012-2015. يتكوّن الكتاب من مائتين وسبعة وستين صفحة، ويضمّ دراسات مفيدة في فلسفة الكندي. وفيما يلي تقديم الكتاب:
يشتمل هذا الكتاب على أعمال الندوة العلميّة التي نظّمها فريق البحث في الفلسفة الإسلاميّة (جامعة محمّد الأوّل، كلّية الآداب) بتعاون مع المركز الوطنيّ للبحث العلميّ والتقنيّ في موضوع الكندي ومدرسته يوم 23 أكتوبر 2013 بقاعة نداء السلام بكلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة، وجدة/المغرب. ولا تخفى مكانة أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي(حوالي 018-325 ه/080/087م) في تاريخ الفلسفة والعلوم بشكل عامّ، وفي الفلسفة الإسلاميّة بشكل خاصّ. اشتهر بوصفه أوّل فلاسفة الإسلام وأحد كبار المفكّرين في العصر الوسيط؛ أفاد منه الناطقون بالعربيّة من المعاصرين واللاحقين كما أفاد منه الغربيّون من خلال أعماله التي ترجمت إلى اللاتينيّة. غير أنّ البحث في إنتاجه، كما في اللحظة التاريخيّة التي عاش فيها، لا يزال في بدايته على ما يبدو؛ فعلاوة على ضياع جلّ إنتاجه العلميّ والفلسفيّ، فإنّ النزر القليل من رسائله التي احتفظ بها، لم تحظ بما تستحقّه من الدرس والتحليل. ولم يكن نصيب فيلسوف العرب من البحث أبدا مثل نصيب فلاسفة مسلمين آخرين جاءوا بعده، بل إنّه لم يحظ باعتراف هؤلاء الفلاسفة أنفسهم وهو أمر ربّما ساهم بدوره في حجب لحظة الكندي وتوجيه الأنظار عنه.
صحيح أنّه منذ القرن الماضي، وبالضبط منذ أن نشر عبد الهادي أبوريدة رسائل الكندي الفلسفيّة عام 1950، أنجزت دراسات مهمّة، ومنها أعمال ريتشرد فالزرR. Walzer، وجيرهارد أندرس G. Endress، وجون جوليفيه J. Jolivet ، وبيتر أدمسن P. Adamsonوغيرها، ساهمت في رفع الحجاب عن كثير من القضايا التي كانت غامضة حول حياة الكندي ومؤلّفاته ومحيطه وتلامذته؛ إذ صرنا نعرف أكثر حول ما صار يسمّى بحلقة الكندي، وصرنا نعرف أكثر عن المترجمين والعناوين التي ترجمت في عصره. ومع ذلك، فإنّ كثيرا من جوانب حياته ومتنه ومحيطه وأساتذته وتلامذته وحول قيمة مساهمته العلميّة والفلسفيّة ولحظته التاريخيّة لا زالت تحتاج إلى تسليط مزيد من الضوء:
أوّلا، من هو الكندي، ماذا قرأ؟ وماذا كتب؟ وما وضعيّة متنه الفلسفيّ والعلميّ، المخطوط منه والمنشور؟ ثمّ ما هي أوجه الجدّة في مساهمته الفلسفيّة الخالصة كما في مساهمته العلميّة والثيولوجيّة: ما مساهمته في الطبيعيّات وفي علم النفس، وفي الرياضيّات، والكوسمولوجيا، والكيمياء، والخيمياء، والمعادن، والمناخ، وفي البصريّات، والموسيقى، وفي الأخلاق والسياسة وعلم الكلام؟ كما يشكّل المصطلح عند الكندي موضوعا خصبا للبحث؛ فرسالة في حدود الأشياء ورسومها تثير كثيرا من الأسئلة وعلى رأسها صحّة نسبتها إلى الكندي وعلاقتها بالمعاجم العلميّة التي وضعت قبلها والتي جاءت بعدها، بالإضافة إلى خصوصيّة لغة الكندي الفلسفيّة.
وثانيا، لابدّ من دراسة المحيط الثقافيّ والعلميّ الذي نشأ فيه الكندي وكان فاعلا فيه؛ إذ لاشكّ أنّ فيلسوف العرب لم ينشأ من فراغ ولا كان يشتغل في عزلة عن المحيط القريب أو البعيد. ولعلّ السؤال يخصّعلاقته بزملائه وتلامذته الذين لا نكاد نعرف شيئا عنهم أكثر من أسماء بعضهم مثل أبي زيد البلخي وأبي الطيّب السرخسي من جهة، ويخصّ علاقته بالمتكلّمين في عصره من جهة ثانية؛ إذ السؤال يفرض نفسه حول علاقته بالاعتزال ومساهمته الكلاميّة وحواره مع أهل الفرق والملل الأخرى. ولابدّ أنّه كانت له علاقة متينة بالنصوص القديمة وبباحثين قريبين من بيئته العربيّة والسريانيّة. ولذلك، فإنّ السؤال يجب أن ينصبّ، من جهة ثالثة، على علاقته بالفلاسفة والشرّاح القدامى؛ إذ ينظر إليه عادة على أنّه أفلاطونيّ محدث يمارس البحث الفلسفيّ والعلميّ على طريقة مدرسة أثينا؛ فما هي بعض معالم تأثير أعلام هذه المدرسة فيه، وما نوع تأثير مدرسة الإسكندريّة وأعلامها وما درجته؟ وينصبّ، أخيرا، على علاقته بمشروع الترجمة الضخم الذي رعاه الخلفاء العباسيّون، وما درجة انخراطه فيه. وما وظيفته في بيت الحكمة؟ ثمّ ماذا كانت وظيفة هذا “البيت” نفسه: هل كان معهدا للترجمة أم خزانة؟ لا يبدو أنّ الكندي مارس فعل الترجمة بشكل مباشر من اليونانيّة ولا من السريانيّة، لكنّه في الغالب كان يقوم بمراجعة النصوص المترجمة وتصحيحها، بل ولا يُستبعد أنّه كان مشرفا على كثير من هذه الترجمات. فماذا ترجم بإيعاز منه أو ساهم في إخراجه إلى الوجود، ولأيّ غايات؟
وثالثا، لاشكّ في أنّ الكندي قد مهّد الطريق للفارابي وابن سينا وغيرهما من فلاسفة الإسلام، وهو واضع اللبنات الأولى لانطلاق مغامرة فلسفيّة وعلميّة وحضاريّة لا مثيل لها في العصر الوسيط. فما طبيعة تأثيره في اللاحقين ودرجته؟ وما مكانته عند ممثّلي مدرسة بغداد الفلسفيّة؟ يبدو موضوع حضوره لدى فلاسفة الإسلام اللاحقين وطبيعة تفاعلهم مع كتاباته موضوعا بكرا إلى حدّ كبير. ومن جهة أخرى، نعرف أنّ الكندي ترجم إلى اللاتينيّة، وعرف أحيانا أكثر لدى اللاتين مع نوع من التقدير له، لم يحظ به إلى حدّ ما عند المسلمين، واحتفظ في هذه اللغة بنصوص ثمينة للكندي فقدت في أصولها العربيّة، فماذا عن الكندي اللاتينيّ؟ ونشير، أخيرا، إلى أنّ رشدي راشد وجون جوليفيه قد أعادا، في أواخر القرن الماضي، تحقيق رسائل الكندي مع نصوص أخرى مع ترجمتها إلى الفرنسيّة، كما ترجمت مؤخّرا هذه الرسائل إلى الإنجليزيّة، وصارت نصوص الكندي في متناول شريحة واسعة من الباحثين المستعربين وغير المستعربين. ولعلّ من ثمرات هذه الأعمال أن أنجزت دراسات مهمّة اليوم حول الكندي وفلسفته ومساهمته في مختلف حقول العلم في العقود الأخيرة، وقد أبرزت هذه الدراسات أنّ الكندي يشكّل، بالفعل، لحظة لاغنى عنه في تاريخ الفلسفة والعلوم، فما الجديد في هذه الترجمات والتحقيقات والدراسات الجديدة؟
وإذا كانت الفصول الإحدى عشرة التي يتضمّنها هذا الكتاب لا تتناول كلّ هذه الموضوعات، إلا أنّها تعيد طرح بعض من هذه الأسئلة التي تمسّ الكندي وفلسفته بروح ونفس جديدين تأخذ بعين الاعتبار نتائج الأبحاث السابقة والمعاصرة التي أنجزت في مختلف البقاع وبمختلف اللغات حول الكندي وفلسفته مع التركيز أحيانا على جوانب غير مدروسة أو تحتاج إلى مزيد تنقيب. وقد انصبّت على بعض القضايا المهمّة؛ بدءا بأعمال الكندي، ومكانته في الثقافة الإسلاميّة، ومصادر فلسفته، وبعض الأسئلة التي يثيرها متنه الفلسفيّ والعلميّ، ونظريته في الخيال، وأدلّته عن حدوث العالم، وفلسفته الأخلاقيّة، وانتهاء بنظريته في الموسيقى والتنجيم وفلسفته الإلهيّة، وغير ذلك.
وهكذا افتتح محمد مساعد القول في الفصل الأوّل؛ حيث كشف عن صورة الكندي في الثقافة الإسلاميّة، وملامح شخصيّته العلميّة والفلسفيّة، انطلاقا من نصوص المؤرّخين وكتاب السير والطبقات. وانتهى إلى أنّ للكندي أكثر من صورة واحدة. ومن جهته، عرّف أحمد موسى، في الفصل الثاني، بأهمّ نشرات نصوص الكندي وترجماتها، والدراسات التي أنجزت عنه في اللغتين العربيّة والفارسيّة أو المترجمة إليهما، وكذا منزلة حضوره في الفضاء الثقافيّ الإسلاميّ الشيعيّ، لاسيما وأنّ الكندي يصنّف أحيانا ضمن فلاسفة الشيعة. وفي الفصل الثالث، حاول ابراهيم بورشاشنالإجابة عن سؤال “هل كان الكندي أرسطيّا؟”، مؤكّدا على أنّ مزج الفلسفة بالكلام كان سمة مميّزة للكندي وللنشاط الفلسفيّ بعده. فالكندي الذي أتى من الكلام إلى الفلسفة حمل معه إشكالات علم الكلام، وتمّ توظيف أرسطو للإجابة عن القضاياالثيولوجيّة. وانتهى إلى أنّ أرسطو أعطى للكندي الإطار النظري والنظر المنهجيّ للدفاع عن قضايا العقيدة التي حملها معه من ممارسته الكلاميّة،لكن حدود الأرسطيّة عند الكندي لا تتجلّى فقط في المجال الكلاميّ الذي كان يتحرّك فيه، والذي لم يكن يقدر على تجاوزه، بل تتجلّى أيضا في أفلاطونيّة الكندي الذي لا يتحرّج من إبداع قول جديد، بعيد عن الروحين الأرسطيّةوالأفلاطونية معا، إذا كان ذلك يخدم مقاصده الكلاميّة. وفي الفصل الرابع، درس محمد المصباحي موضوع “الخيال عند الكندي”؛ حيث سلّط من خلاله الضوء على جوانب مهمّة من لحظة تأسيس نظرية الخيال في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، وبيّن مدى تميّزها ودورها في إنتاج المعرفة والرؤيا. وقد شرع برصد خريطةقوىالتخيّلعندالكندي (من حسّ كلّيّ وتخيّل وتوهّم وفكر ومصوّرة وحفظ) مرورا بمفهوم الصورة ودلالاتها عند الكندي وانتهاء بدراسة الخيال في علاقته بالعقل النظريّ من جهة، وبالرؤيا من جهة ثانية. وقد خلص إلى نتيجة مفادها قلّة عناية الكندي بموضوع الخيال، بل والتباس القوى الخياليّة لديه بحيث تبدو “وكأنّها قوّة واحدة لها عدّة أفعال وأسماء” مستدلاّ على ذلك بغياب “خريطة واضحة متميّزة للحواس الداخليّة” لدى الكندي مقارنة بغيره من فلاسفة الإسلام اللاحقين، علاوة على كونه لم يول أهمّية كبيرة لدور الخيال في العلم والعمل. وفي الفصل الخامس، توقّف المهدي سعيدان، عند “تأثيرالكواكب من خلال كتاب “De Radiis” المنسوب للكندي”،وفحصمسألة صحّة نسبة هذا الكتاب إلى الكندي من خلال السؤال عن مدى توافق ما ورد فيه بشأن الأجرام السماويّة وكيفيّة تأثيرها في الأجسام الأرضيّة مع ما ثبت من آراء الكندي في شأن هذا الموضوع في مواضع أخرى من رسائله، وخاصة رسالة “في العلّة التي لها يبرد أعلى الجوّ ويسخن ما قرب من الأرض”، ورسالة “في العلّة الفاعلة للمدّ والجزر”. وفي الفصل السادس، قدّم أنس غراب، “قراءة في نصوص الكندي الموسيقيّة وعلاقتها بالنّصوص الإغريقيّة”؛ إذ عرّف بالنصوص الموسيقية المنسوبة إلى الكندي وتحقيقاتها والدراسات التي انصبّت عليها، وقدّم نقدا لها مركّزا على ثلاثة موضوعات، وهي: مدى تكامل نصوص الكندي، ومدى وجود نظريّة موسيقيّة موحّدة، ومدى تلاؤم نظريّاته مع ما تمّ تقديمه فيما يخصّ النّظريّات الموسيقيّة في عصره، لينتهي إلى الكشف عن كثير من عناصر التّرابط بين نصوص الكندي والنّصوص الإغريقيّة. أمّا الفصل السابع فقد أبرز فيه يس عماريمعالم “نظريّة الكندي في دفع الأحزان وتطوّراتها لدىاللاّحقين”،محدّدا أهمّ دلالات الأحزان عند الكندي، وكيفيّة دفعها، وبالتالي تحصيل السعادة. كما بحث في تطوّرات نظريّة الكندي لدى بعض اللاّحقين، ولاسيما في رسالة “في دفع الغمّ عن الموت” المنسوبة إلى ابن سينا، وكذا أثر الكندي في الفلسفة اللاّحقة. وقارن سعيد البوسكلاوي، في الفصل الثامن، بين “يحيى النحوي والكندي في الدلالة على حدث العالم”؛ حيث رصد بعض معالم حضور يحيى النحوي لدى الكندي، مركّزا بالأساس على أدلّة الفيلسوفين على حدوث العالم؛ إذ أبرز كيف يستعيد الكندي أدلّة المتكلّمين التي يجد كثير منها أصله عند الفيلسوف المتكلّم اليونانيّ يحيى النحوي. وخَلَص إلى حضور جزئيّ أو كلّي لثلاثة أدلّة على الأقلّ من أدلّة النحوي لدى الكندي: دليل قوّة الجسم المتناهيّة، ودليل التركيب، ودليل امتناع التسلسل إلى ما لا نهاية له. وفي الفصل التاسع، تناول حسن المنوزي “سؤال الميتافيزيقا عند الكندي”؛ من حيث روابطه ودلالاته اعتمادا على نصوص من رسائله الفلسفيّة، وروابطه مع السياسة والعلم والسيكولوجيا والأخلاق والإنسان من جهة، لينتهي إلى تحديد التوجّه الميتافيزيقيّ عند الكندي في ميتافيزيقا الفاعل والنهاية. وعمل عمر مبركي، في الفصل العاشر، على دراسة “موقف الكندي من الإلهيّات من خلال رسائله الفلسفيّة”؛ ففصّلفي بعض المقدّمات المنهجيّة لفهم الرؤية الكِنْدية للخالق، ومسالك الكندي في إثبات وجود الله تعالى ووحدانيّته وصفاته. وفي الفصل الأخير، درس مصطفى العارف “مفهوم الأيس عند الكندي”، مؤكّدا أنّ لحظة الكندي تمثّل تأسيسا للأنطولوجيا.
اترك رد