تسور محراب تحقيق أعلاق التراث ونفائسه مجموعة من الباحثين الشباب، منهم من تسلح بقواعد العلم، وأسس المنهج، تحت إشراف أستاذ ماهر خريت، فأفاد وأجاد، وأخرج السفر المحقق أحسن إخراج، ومنهم من اقتحم العقبة، دون استعداد ولا زاد، وقد يكون تحت إشراف أستاذ متساهل لين الجانب، أو ضعيف عن البحث والتحقيق واهن، فلا ينبه ولا يرشد، في وقت أحوج ما يكون الباحث “المحقق” إلى مرشد، وثالثة الأثافي، أن يلج الباب، من يمخر عباب التحقيق، دون مرشد أو مؤطر، فيقع ويكبو، ويتابع في ذلك كبوة بعد كبوة، فيفسد التراث من حيث يظن أنه يخدمه، ويسيء إليه وهو يدعي الإحسان إليه، مع تطاول في الألفاظ، وادعاء في الاجتهاد، وتلك طامة أخرى.
ولنا على ما نقول أكثر من نموذج ومثال، وأكثر من كارثة نوردها مورد الاستدلال، مثل “تحقيق” شعب الإيمان للعلامة عبد الجليل القصري، الذي “حققه” سيد كسروي حسن، فأخرجه من غياهب المخطوطات، إلى أنوار المطبوعات، وتلك الفائدة الوحيدة من عمله، أما ما قام به من دراسة وتحقيق وتعليق، فلا تكاد تخلو صفحة من صحائفه من مقال وملاحظات.
وفي بعض نوادر التراث، يكثر “المحققون” من إيراد تراجم المشاهير، ويغرقون الحواشي بالنقول في شأنها، والإحالة إلى المصادر والمراجع في ذلك، فتجد أحدهم يترجم إلى أم المؤمنين عائشة في ثمانية أسطر، ويورد مصادر ترجمتها مشفوعة بالأجزاء والصفحات في ثلاثة أسطر، وكأن أم المومنين من الأعلام المغمورين، وقس على ذلك مشاهير الصحابة، كالخلفاء الأربعة، وغيرهم.
كما أن بعض “المحققين”، يتصرفون في متون الكتب المحققة، كأن يحذفوا بعض ما لا يروقهم من العبارات، مثل قيام بعض أبناء الأسرة الكتانية المغربية بحذف بعض العبارات من كتب أقاربهم بدعوى تهذيبها مما يشينها، وهذا لعمري أبعد ما يكون عن التحقيق العلمي، إذ يكفي أن يثبت النص، وأن يشير في الهامش إلى ما أراد تعليقا وتوضيحا، لا بترا وحذفا.
وقد وقفت مؤخرا على كتاب أندلسي قشيب، لابن العربي المعافري رحمه الله تعالى، ألفه في مجال الأسماء الحسنى، والصفات العلى، صدر عن المكتبة الكتانية، بتحقيق الدكتور عبد الله التوراتي، والأستاذ أحمد عروبي، تولى الأول كتابة مقدمته وإنجاز الدراسة، وتكفل الثاني بتخريج الأحاديث وتوثيق النقول مع التعليق على المتن.
ولما اطلعت على الدراسة التي قام بها الدكتور عبد الله التوراتي تبين لي أنها تتضمن هنات عديدة، ونقائص كثيرة، فأثارني ذلك إلى أن ألم شعثها، وأجمع متفرقها، في هذه العجالة، حتى تكون نموذجا لمن يقدم على التحقيق فيتلافاها، ولمن يقدم على دراسة المخطوطات فيتحاشاها.
أولا : من الناحية المنهجية
أسلوب المقامات :
أتحفنا الأستاذ المحقق في دراسته بأسلوبه العذب، الذي يذكرنا بأسلوب علماء القرن العاشر، من ترقيق الألفاظ وتنميق العبارات، والاعتناء بالمحسنات والبديعيات، وهو ما قد يأخذ بألباب القارئ العادي، فيغتر بالأسلوب ويتأثر به، حتى إذا ذهب يتلمس العلم في ثناياه وجده كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، لأن الأسلوب الذي كتب به الباحث جزءا لا يستهان به من الدراسة “العلمية”، هو أسلوب القصاص، وفي أحسن الأحوال، هو أسلوب الروايات والمقامات، أما البحث العلمي فأسلوبه تقريري محض، وكم شطب الأساتذة المشرفون على عبارات عديدة ضمنها الباحثون أبحاثهم، بدعوى أنها كلام إنشاء، ومن ذلك قول “المحقق” في ص : 32 “ويسلك مع مناظره مسالك البحث والتفتيش، ولا يمنعه من النظر رياسة رئيس في علمه، أو كبير في فهمه، مع التولع بالتنقير، والاستظهار بالتعليل، فيهجم على القول هجمة عقلية، ويزن الكلام بنظرة شرعية، ثم يفرع على المردود عليه تفاريع لا تعد، ويُنوع إجاباته تنويعا لا يُحد، فما يزال مع خصمه حتى يطرحه، وهو بعدُ مُشْفٍ على هلاك قوله، جارٍ في تخوم حتفه”، وله مثل هذا النص كثير، وهو كلام مرسل لا علاقة له بأبجديات البحث العلمي وتحقيقاته.
الترجيح بدون مرجح :
أين ألف ابن العربي كتبه وأملاها ؟ للإجابة عن هذه التساؤلات وأشباهها، يجدّ الباحث ويكد، ويسبر أغوار المصنفات والمؤلفات ذوات العدد، ولا يتلفظ بكلمة إلا إن تسلح بما يعضدها من حجة وبرهان، فهل اتبع “المحقق” هذا السبيل ؟
يقول “المحقق” في ص : 25 “ويقرب أن يكون إملاء [الأحكام] بقرطبة في عام 523 هـ، ويجوز أن يكون مما ابتدأه قبل ذلك عند أول دخلته لقرطبة، كما يجوز أن يكون إملاء [الأمد الأقصى] قد تم بقرطبة أيضا …”، وأول ما يلاحظ على هذا النص، تكرار لفظ [قرطبة] ثلاث مرات في سطرين، وهو ما قد يغيض علماء القرن العاشر، وثاني ملاحظة، هي ترجيحه لفترات التأليف والإملاء بعبارات [ويقرب أن يكون … ويجوز أن يكون … كما يجوز أن يكون …]، فهل يستطيع باحث بعده أن يعتمد على مثل هذه الترجيحات ؟ وما مدى علميتها ؟
وأثناء الحديث عن وفاة ابن العربي المعافري رحمه الله تعالى، قال في ص : 34 “ويجوز أن يكون قد مات مسموما كما في كتاب الصومعي، ولعله المتعين، والله أعلم”، فالباحث يرجح أن القاضي ابن العربي مات مسموما، لكن، ما هي مرجحاته ؟ وهل لهذا الكلام علاقة بالتحقيق وبالبحث العلمي ؟
الحشو :
أثناء الحديث عن المصنفات المؤلفة في الأسماء الحسنى، أورد الباحث كتابا لابن أبي العيش، وأطال النفس في ذلك بدون فائدة، حيث ترجم له، وتكلم عن كتابه، وبين ما وقع لمترجميه من أوهام، إلى غير ذلك من الاستطرادات الخارجة عن شرط الدراسة، مما سود به الصحائف 78 وما بعدها، وكان حريا به أن يلخص ذلك تلخيصا، ويضع أهم ما فيه في حاشية من الحواشي.
توثيق المعلومة :
ذكر “المحقق” في ص : 24 أن ابن العربي لما ذهب إلى قرطبة واستوطنها، اختص به ابن بشكوال وابن حبيش والسهيلي والحجري … وأحال على التكملة 3/35. وبالرجوع إلى المصدر المذكور، فإننا نجد الصفحة المشار إليها متضمنة لتلقي ابن حبيش والسهيلي عن ابن العربي، أما الآخران فلا، وهنا كان عليه أن يحيل إلى فهرس الحجري كما فعل في الصفحة الموالية، كما عليه أن يضيف إحالة أخرى لتوثيق تلقي ابن بشكوال، فأين التحقيق والتدقيق ؟
وفي الصفحة 24، أحال إلى البيان المغرب لابن عذاري 4/95، والصواب 4/93 – 94. وله أوهام أخرى مثل هذه.
ومن مزالق هذا البحث/الدراسة، أنه خلو من لائحة المراجع والمصادر المعتمدة، ولعمري إنها من الكبائر في مجال البحث العلمي، كان حريا بالباحثين أن يتلافيا الوقوع في ذلك.
قلة التحقيقوالتدقيق :
نقل الدكتور عبد الله التوراتي في ص : 31 عن الشيخ عبد الحي الكتاني معلومة مفادها أن الإمام الغزالي تراجع آخر عمره عن مذهب الشافعية، وانتقل إلى المذهب المالكي. هكذا نقلها الباحث “المحقق” بالتسليم والإذعان، دون تمحيص أو تحقيق، مع أن أمارات الزيف عليها بادية، إذ لو كان الأمر كذلك، لتناقل المعلومة غير واحد من أعلام المحققين، خصوصا أنمثلها قد يحدث رجة في المذهب الشافعي، نعم، نقلها بعض متأخري المالكية من غير المحققين نظما ونثرا، وعنهم نقل الشيخ الكتاني.
الفقر في الإحالات :
تمضي بنا في الدراسة عدة صفحات دون أن تجد في الواحدة ولو إحالة واحدة، كما أنه ينقل نقولا من الكتاب دون عزو، ويصدر أحكاما دون برهنة أو استدلال، من ذلك :
1 – قال د.التوراتي في المقدمة : “وقد ظهر لنا من خلال المقارنة بين تلك النسخ أن القاضي أخرج للناس في زمانه [الأمد] في إبرازات ثلاث، وأن الذي انتشر في الصقع الأندلسي هو أولاها وثانيتها، أما الأخيرة منها فلم يكتب لها ما كتبت لأختيها، وهذه عادة القاضي في مصنفاته، يرجع إليها بالزيادة والتعديل والإصلاح، سيرة سارها، وطريقة رافقته فما فارقته”. وهذا الاقتباس يدل على أمرين :
الأول : صدرت عن ابن العربي ثلاث نسخ من الأمد، وهي نسخ متفاوتة ومختلفة.
الثاني : هذا الأمر هو عادة ابن العربي في سائر كتبه.
لكن ماهو الدليل على ذلك ؟ وإن فُقد البرهان، على الأقل، يجب على “المحقق” أن يحيل على الدارسين الذي قرروا ذلك بعد بحث واستقراء، وإلا فهو مجرد انطباع انقدح في ذهن قائله، وهو أبعد ما يكون عن قواعد البحث والتحقيق.
2 – خصص الباحث ص : 33 لما جلبه ابن العربي من الكتب في رحلته، ولم يحل إلى أي مصدر من المصادر المعتمدة، وكأن “المحقق” شاهد عيان، عاش مع المؤلف وصاحبه في رحلته.
وزاد الطين بلة حين ختم هذا المبحث بقوله : “قال شيخنا الفقيه العلامة الشريف سيدي محمد بوخبزة …”، لكن أين قال له ذلك ؟ أفيمسامراته الشفوية ؟ أم في مراسلاته الكتابية ؟ أم في كتاب مخطوط أو مطبوع ؟ أم في رؤيا منام ؟ يحار الباحث في ذلك.
3 –أورد الباحث في الصفحات 42 وما بعدها أن ابن العربي المعافري ناظر أئمة الأشاعرة، وأورد نتفا من النقول، لكنه لم يحل على أية صفحة من المتن المحقق، وترك القارئ في حيرة من الأمر، وأوكل إليه مهمة خوض بحار المتن، ولست أدري، ما هو دور صاحب الدراسة ؟
4 – أورد في صفحة 26 قوله : “فلما دُخلت عليه داره، وعبث السوقة بكتبه ومؤلفاته …”، ولم يورد المصدر الذي نقل منه هذه المعلومة التاريخية.
5 – قال في ص : 28 “ويكفي أن نقول : إن كثيرا من أسانيد الأندلسيين متصلة به، ويظهر ذلك في كتاب الفوائد لابن بشكوال*، وكتاب ابن الطيلسان في المسلسلات*، وكذلك في أجزائه الحديثية التي صنفها القاضي*، وفي الأجزاء والمشيخات التي أدخلها إلى الأندلس*، وقد ذكر طرفا من رحلاته الحديثية في سراج المريدين*، وطرف آخر يظهر في كتب البرامج والفهارس الأندلسية مثل برنامج ابن خير الإشبيلي* وبرنامج أبي عبيد الله الحجري* وإفادة النصيح* والرحلة* لابن رشيد وفهرس المنتوري* …” واستمر في مثل هذا الكلام الذي يحتاج إلى إحالات عدة، أقلها إحالة موافقة لكل نجمة، وإلا فهو مجرد كلام.
توثيق نسبة الكتاب إلى صاحبه :
جرت عادة المحققين أن يناقشوا ويدققوا في المخطوط، ليتأكدوا من نسبة الكتاب إلى صاحبه، مخافة أن يكون من الكتب المنسوبة إلى غير أصحابها، وهي كثيرة، واتخذوا في سبيل ذلك طرقا ووسائل، منها :
** أن يذكره المصنف نفسه في مواضع من كتبه.
** أن يذكره مترجموه.
** بعض السماعات الموجودة في غلاف الكتاب أو في طرره.
** المقارنة بين نصوص من الكتاب ونصوص منقولة منه في كتب من بعده، أو مقارنتها بنصوص من كتب المصنفالأخرى .. وغير ذلك من الطرق.
لكن “المحقق” أعرض عن كل هذا، وركن إلى الأسلوب الإنشائي كعادته، وقال تحت الفقرة الموسومة بـ[توثيق نسبة الكتاب] في ص : 99 “لا يخالجنا شك في صحة نسبة الأمد إلى القاضي أبي بكر ابن العربي، فما فيه من مسائل وتحريرات، وتحقيقات وتدقيقات، وبدائع وصنائع، وهي دالة على القاضي، كاشفة لصحتها، فدليلها فيها، وشاهدها معها، لا تحتاج إلى من يثبت نسبتها …” إلخ ما قال من دون إحالة كعادته، وكان حريا به أن ينأى بنفسه عن أسلوب الحكواتي، وأن يبين صحة النسبة من داخل المتن، وهي متضاهرة متظافرة، مثل النقل عن شيخه الغزالي، ومثل ذكر الكتاب من قبل مترجمي المعافري[ذكر في صفحة 103 أن مترجميه ذكروا له هذاالكتاب، وهو إيراد معيب، إذ كان ذكره في الصفحة 99 أولى وأنسب]، وهل “التحقيقات والتدقيقات” خاصة بابن العربي حتى تصير دليلا على أنها من تصنيفه دون غيره ؟
ثانيا : من حيث المضمون
حاول الدكتور عبد الله التوراتي جاهدا أن يبتعد عن العلمية والموضوعية في دراسته التي صدّر بها الكتاب، بل بذل وسعهفي أن تكون دراسته عن القاضي المعافري دراسة مناقبية بامتياز، واستدعى لذلك بعض أساليب التدليس، وبيان ذلك من خلال الآتي :
** في ص : 21 أثناء الحديث عن ثناء العلماء عليه، أورد ما قاله القاضي عياض في الغنية، ونصه : “سمّع ودرّس الفقه والأصول، وجلس للوعظ والتفسير، ورُحل إليه للسماع، وصنّف في غير فن تصانيف مليحة كثيرة حسنة مفيدة ….. وكان فهِما نبيلا، فصيحا حافظا أديبا شاعرا كثير الخير مليح المجلس …..”، هكذا نقل الدكتور “المحقق” عن القاضي عياض، مع بترين في الوسط والأخير، عوضهما بنقط حذف، والبتر الأول نصه كما في الغنية : “وولي القضاء مدة ثم صُرف”، والبتر الأخير نصه : “ولكثرة حديثه وأخباره وغرائب حكاياته ورواياته ما أكثر الناس فيه الكلام وطعنوا في حديثه” الغنية : 68. ولو كان الدكتور محققا، لأورد النص بتمامه، ولناقش القاضي عياض في تفاصيله، أما أن يقفز عنهما فهو هروب إلى الأمام، تأباه الموضوعية، ويرفضه الإنصاف.
ومن الغرائب، أن الدكتور خصص الصفحة 23 وما بعدها لخطة القضاء التي تولاها المصنف، ولما تطرق لحادثة العزل، لم يورد كلام القاضي عياض المار ذكره، ونقل كلاما عن ابن عذاري، والقاضي عياض أولى بالنقل والاستدلال، لأنه معاصر له، بل أحد تلاميذه، وتوفي بعده بسنة، أما ابن عذاري فمتأخر، وتوفي بعده بحوالي قرن ونصف، والراجح أنه اعتمد الأخير دون الأول، لأنه يفيده في الكتابة المناقبية عن المصنف، لأنه عزا عزل القاضي عن منصبه إلى ثورة السفلة، وهيجان الأشرار، لا إلى الطعن في حديثه بعد كثرة غرائبه مما قد يكون سببا في نقصان وقاره أو غير ذلك مما يستلزمه القاضي.
** التزاما من “المحقق” بالمنهج المناقبي، قال عن معشوقه/المصنف في ص : 32 “فقد أوتي القاضي جدلا، والمُقارع له قد غرّه أملا، ولم نر لأحد قدرة على السبر والتقسيم، وضم النظير إلى شبيهه، والمعنى غلى محاديه، كما رأينا عنده، هذه سيرته مع النظر، وهذه طريقته في بث الفِكَر” … لم يسبق لي أن عرفت كيف يذبح الحب العلمَ، حتى رأيت ذلك في هذه الدراسة عيانا، إذ كان الكثير – قبل ابن العربي وبعده – من علماء الإسلام ممن لهم القدرة على السبر والتقسيم، وضم النظير إلى النظير، لكن “المحقق” يقول بأنه لم ير لأحد قدرة على ذلك، فإن كان محقا فقد فضح قصوره، وإن كان غير ذلك …
** جريا على السَّنن المناقبي، افتتح الفقرة الموسومة بـ[نظام الأمد وترتيب فصوله] في ص 39، بقوله : “وآية ذلك أنه محكم متين”، وهذا حكم قيمة، يتجنبه الباحثون، وكان حريا به أن يبتدئ الفصل بما يدل على هذا الحكم ويستدل عليه، ثم يخلص إلى هذه النتيجة إن وافقت برهانه، … وإذا كان الوصف المذكور موافقا للموصوف، فإنه يجب أن يوصف به كتاب الغزالي من باب أولى، لأن “المحقق” نفسه ذكر في الصفحة ذاتها أن كتاب ابن العربي على طريق شيخه، فهو مقلد في النظام وترتيب الفصول، ولم يكن مبدعا ولا مجتهدا.
** أوقع الغلوُّ في الإطراء “المحققَ” في منزلقات خطيرة، حيث يبني الحكم الكبير على البرهان التافه، ففي ص : 60 تكلم عن مواضع نبوغ المعافري، وأورد عليها دليلا من التفاهة بمكان، وهو “الإحالة على كتبه الاعتقادية كالمتوسط والمقسط والمشكلين لمن أراد الاستزادة، وهي أصول مصنفاته الكلامية”، وهكذا يمكن أن نقول وفاقا لمنهاجه : من دلائل نبوغ الألباني إحالته على كتبه الأخرى، من دلائل نبوغ القرضاوي، إحالته على كتبه الأخرى … وليفرح الباحثون والمحققون بهذه القاعدة المبتكرة.
** أورد في الصفحة نفسها نصا مطولا عن المصنف يبين من خلاله منهجه في تصنيف الأمد الأقصى، واتخذه المحقق عنوانا على نبوغه، ومن تأمل ذلك النص لا يلمس فيه أدنى نبوغ، ويكفي أن منه قول المعافري : “والنظر في معنى الاسم لغة …”، ومعلوم أن الباحث المبتدئ في أي علم يبدأ في التعريف اللغوي للأسماء، فهل نسميه نابغة ورائدا ؟
كان حريا بـ”المحقق” أن يورد نتفا وإلماعات من دقائق استنباطات المصنف إن وجدت، مما لم يسبق إليها، ويوردها في هذا الموضع مورد الاستدلال، ودون ذلك مجرد تسويد للكاغد ليس إلا.
ابن العربي وحكاية الإجماع :
قال “المحقق” التوراتي ص 46 : “والأمد من موارد الإجماع التي أغفلها ابن القطان الفاسي في كتابه الإقناع”،وكأنه يعاتب ابن القطان أو يستدرك عليه، ولنا على هذا ملاحظات :
** لا يعتمد في نقل الإجماع وحكايته إلا الحافظ واسع الرواية، كابن المنذر وابن عبد البر وابن حزم ومن على شاكلتهم، وابن حجر العسقلاني من المتأخرين، وابن العربي أدنى منهم بكثير، بشهادة “المحقق” نفسه.
** قال “المحقق” في ص 48 عن المصنف أنه لم يورد ما صنفه الأندلسيون في الأسماء، بخلاف ابن حزم …
** في ص 58، تكلم “المحقق” عن كتاب في الموضوع، وقال عقبه : “ولا نخال أن القاضي اطلع عليه أو وقع في يده، وهو حقيق بذلك …”،
في ص 56 قال عن كتاب لابن برجان : “ولعله لم يطلع عليه، إذ لو كان لانتقده في أمده”.
والخلاصة، أن المصنف لم يطلع على مصنفات بلدييه وعلى كتابين أحدهما لابن برجان والآخر لغيره، ومع كل هذا القصور الذي يشهد به “المحقق”، فإنه يلوم ابن القطان على عدم اعتماده في الإقناع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
معنى الإجماع عند التوراتي :
ما ذا يقصد “المحقق” التوراتي بالإجماع ؟ قال في ص 46 : “وقصده من الإجماع هو ورود الاسم في الكتاب الكريم، فيفهم منه ضمنا، ولا يعني هذا تطلب الوقوف على أقوال العلماء واحدا واحدا في كل اسم”، وهذا من الغرائب والعجائب، لأنه إذا كانت حكاية الإجماع تقتصر على مجرد الورود في القرآن الكريم، فإن ابن القطان مطالب بإدخال جميع الأعلام في كتابه، لأن جميعهم يحيل إلى الكتاب الكريم، دون أن يتكبدوا عناء تتبع أقوال العلماء واحدا واحدا.
ابن العربي وروايةالحديث :
بيّن “المحقق” أن ابن العربي واسع الرواية، وأنه موجود في الفهارس والبرامج والمشيخات إلخ ما قاله مما نقلت بعضا منه أعلاه، وهذا كله من التضخيم من شأن ابن العربي، والعمل العلمي الأكاديمي يفرض على “المحقق” أن يتحدث عن درجته الحديثية، وأنه حافظ على طريقة الفقهاء فقط، وقد أكثر الحافظ ابن حجر في فتح الباري من التعقب عليه وإظهار أخطائه وأوهامه في شتى فنون الحديث، لكن “المحقق” قال : “ومع هذا التصدر، لا تكاد تجد اعترافا بالفضل للرجل، إلا فيما يجده المتعني لبعض ذلك في الهمسة الخفية، والنبرة الحيية، وكأن الناس قد تمالؤوا على الغض من فضله …” إلخ الأسلوب الإنشائي، ولست أدري أي تصدر في الرواية يشير إليه “المحقق” ؟.
الجديد في ترجمة ابن العربي :
أورد “المحقق” في ترجمة ابن العربي كلاما مكرورا مما سبقه إليه الباحثون، لكنه حاول أن يبرز الجديد، فقال بأنه سيعتمد على وثيقتين، أولاهما تظهر لأول وهلة، والثانية نقلها عن غيره، فنقض بهذا الاعتراف جِدّتها.
بالنسبة للوثيقة الجديدة التي قد تضيء الدرب بمعطيات لم يسبق إليها، اقتبس منها هذا الكلام : […وأعلمني الفقيه أبو بكر ابن العربي عند صدره علينا أن الفقيهين الزاهدين أبا علي وأبا عبد الله فقدا في تلك الجولة، واختلف في أبي علي …]، ثم أتبع هذا النص بقوله : [ثم بعد هذا أصاب الورقة محو تعذر معه مواصلة القراءة، وقد يكون قد ذكر له أنه أسر وقتا قبل استشهاده، هذا ما فهمناه من الكلام المتقطع هناك]. ثم قال بعد كلام : [وأبو عبد الله الشهيد هو ابن الفراء الزاهد، قاضي ألمرية، ذكره ابن الأبار في تكملته 3/193].
ولنا على هذا الكلام عدة ملاحظات :
** قوله [وقد يكون قد ذكر …] :تكرار [قد] يفيد ركاكة يمجها البحث العلمي.
** لا جديد ولا فائدة من هذا النص المكتشف في هذه الوثيقة المخطوطة إلا التعالي على القراء والتهويش عليهم.
** كان حريا به أن يورد نص الوثيقة في المتن أو الهامش رغم ما فيها من بياضات وانقطاعات، حتى يستصحب القارئ في فهم محتواها.
** الإحالة بتلك الطريقة على التكملة تفيد أنه مترجم في ذلك الموضع، والأمر ليس كذلك، بل هو مذكور عرضا في ترجمة غيره الذي قيل عنه إنه ولي القضاء بعد ابن الفراء، هكذا ذُكر.
** لم يذكر “المحقق” التوراتي شيئا عن أبي علي المختلف فيه، ولو أحال إلى 4/273 من التكملة لكان أجدى، لأن أبا عبد الله بن الفراء مذكور هناك مع أبي علي بن سكرة، وهذه قرينة.
** يوضح القرينة السابقة أن أبا علي بن سكرة هو من فقد في وقعة كتندة، وهذا موجود في التكملة 2/52 حيث قال : [لأن ابن سكرة فُقد سنة أربع عشرة …]، وقال في 2/177 : [وإليه (أي : إلى موسى ابن سعادة) أوصى عند توجهه إلى غزوة كتندة التي فقد فيها سنة أربع عشرة وخمسمائة).
هذه معلومات واضحة لم يذكرها “المحقق” ليبين لنا هوية أبي علي، لكنه لم يبذل أدنى جهد، كما أن فقد هذين الفقيهين لم يكن مجهولا حتى يجلي لنا الأمر بواسطة تلك الوثيقة الجديدة التي لم يسبق لأحد أن اطلع عليها !!!
بياضات الدراسة :
كان على الباحث الشاب أن يشمر عن ساعد الجد، وأن يحقق أمورا عديدة في هذه الدراسة، مثل موقف ابن العربي من آل البيت ؟ ولماذا رفض المغاربة الاعتناء بقبره مثل صنيعهم مع غيره من العلماء ؟ ولماذا همّ السلطان المريني بإحراق قبره ؟ وما هي مكانته في المذهب الأشعري ؟ وما ذا يقول الأشاعرة في شأنه ؟ وكيف يتعامل معه أتباع التيار السلفي ؟ هل يرفضونه كما يرفضون عموم الأشاعرة ؟ أم يقبلونه ؟ وما السر في ذلك ؟ ولعل عدم الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها تركت بياضات في الدراسة، مما جعلها تنزلق نحو تكرار الكلام السابق في ترجمة المصنف.
هذه جملة من الهنات والهفوات التي طغت على الدراسة التي قدم بها الباحث الدكتور عبد الله التوراتي مصنف الإمام ابن العربي المعافري، وغيرها لا يخفى على المطلع اللبيب، أوردتها في هذه الإلماعة حتى يكون الباحثون على بينة منها، وتكون هادية لمن يقدم على التحقيق، حتى لا يقع في أمثال هذه الطوام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
اترك رد