بعيداً عن ماهية ما هو ديني وما هو سياسي وما هو مزيج بينهما، فإن الدين يحمل رسالة سياسية بلا شك، كما أن السياسة حتى في فرنسا لا تدير ظهرها للدين البتة، لذا ينبغي معالجة مفاهيمنا ضمن الأبعاد كافة بما يعكس حقيقة أزمتنا وتحدياتنا.
يبدو مصطلح (المشركين) للوهلة الأولى مصطلحاً دينياً صرفاً، ليس ثمة رابط له مع السياسة وأبجدياتها، لكن الناظر بعين ثاقبة للمدلول القرآني وهو يعالج هذا المفهوم، سواء قبلنا أن القرآن قدم رؤية سياسية أو لم نقبل، فإن هذا المفهوم وإن حمل في أحشائه البعد الديني الصرف من زاويته الربانية، فإن آلية معالجته الحياتية، وكل مفهوم تتجلى طبيعته في تنزيلاته الواقعية الحياتية، تمت في إطارات سياسية مباشرة، ولعل مصطلح الشرك القرآني خير مثال على التنزيل القرآني ضمن المدلول الواقعي، ولو تتبعنا قضية البراءة من المشركين في الحج، وتبدو شعيرة الحج للوهلة الأولى أبعد ما تكون عن المعترك السياسي، خاصة في عرف عصرنا الراهن، وهو ما يبدو غريباً جداً ضمن أبجديات السياسة الراهنة، أن يتم معالجة مفهوم الشرك في ميدان شعيرة الحج معالجة سياسية، وهو درس فكري عسير للعلمانية الشاملة في وقت يقع فيه التباعد الحادّ بين ما هو إسلامي وما هو علماني، في ظل التماهي الإعلامي مع احتكار التيار السلفي الجهادي للرؤية الإسلامية، باعتباره الأكثر تعبيراً عن الفكر الإسلامي الحركي، خاصة في ظل انسحاب بعض التيارات الإسلامية الكبرى من هذا المعترك الإسلامي الحركي، وليس آخرها حركة النهضة التونسية.
ففي سورة التوبة، التي اشتهر لها اسم آخر هو (براءة) بما يعكس حيوية قضية البراءة من المشركين في جوهر هذه السورة القرآنية الطويلة، عالج القرآن مفهوم المشركين علاجاً واقعياً بما يعطي للشرك السياسي بعداً واضحاً لا يخالطه لبس، حيث حرّض القرآن المؤمنين على وجوب إعلان البراءة من المشركين من خلال أعظم تجمع إسلامي عالمي سنوي، وأين؟ عند الكعبة مركز توحيد الله في الأرض، ولكن أيّ المشركين نبرأ منهم؟
هل هم أهل الشهادتين ممن يخالفوننا الرأي أو الفقه أو المذهب؟
أم هم أهل أمريكا اللاتينية الذين يقفون مع أمتنا ضد أعدائنا؟
هل هم النصارى والبوذيون على اختلاف مللهم ممن يسكنون صوامعهم وينظرون لنا نظرة إنسانية أو أنهم لا شأن لهم بنا من قريب أو بعيد؟
من هم المشركون إذن؟
نص القرآن بهذا الخصوص واضح لمن تدبر،
وخلاصته في مستهل سورة براءة؛ إعلان الله براءته في الحج من المشركين، والمشركون هم : (الذين نقضوا العهود وناصروا العدو على المؤمنين وابتدءوهم بالحرب(
فلنتدبر، مجموع الشاهد في النص القرآني :
)وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ… إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً… أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ(.
والحقيقة أن قراءة سورة براءة كاملة على طولها، يؤكد ما ذهبنا إليه، ونحن هنا لسنا في درس تفسيري جامد، بقدر ما نحن بصدد الاستفادة من درس علمي سياسي يقدمه للبشرية أعظم كتاب ظهر فيها، وهو درس ضروري لأمة تفاخر بالانتساب إليه، أن تصغي لمدلولات حروفه، فضلاً عن مدلولات محاوره، وهي محاور تتصل في جوهرها في حركة الحياة، وهي هنا في موضوعنا حركة مفهوم الشرك، وهذا ليس كلاماً فلسفياً يعسر فهمه، بقدر ما هو تجديف بعكس اتجاه الموج، فالمشرك في مفهوم أحزابنا وتياراتنا لم يعد حتى ذلك الذي اتخذ مع الله شريك في الخلق والأمر، إنما هو الذي خالف الحزب بأيّ جزئية حيوية تناقض برامجه أو بعضها، فكيف لمنهجية حزبية أو مذهبية ضيقة تفكر بهذه الشاكلة أن تتسع لرؤية مفهوم الشرك وهو يخالف اعتيادها العقدي أبد الدهر؟
لنقرأ آيات براءة، وكلمة (براءة) تغص بالبعد السياسي لا الشعائري الصرف المعزول عن الواقع والحياة، براءة ليست تعبير هروبي من دائرة الفعل الحياتي، إنما هي حضور سياسي مكثف، هي دعوة ضد نقض العهود، يعني دعوة دينية لثبات العهود السياسية وتوطيدها، وهي دعوة ضد التحالفات الاستكبارية، أو تحالفات السوء التي تخلط الحق بالباطل، أي تخلط الاستكبار بالاستضعاف، تخلط بين الظالم والمظلوم، فيلتبس الأمر بين ما هو حق وبين ما هو باطل فتضيع البوصلة في زحمة الفتنة، وهو ما يتجلى اليوم في وعي من لا يملك القدرة على رؤية الأمور إلّا من زاوية سطور يتيمة أو كلمات نارية تقع على مسامعه دون أدنى جهد للبحث والتدقيق.
(براءة) هي دعوة ضد القتال، ضد الحرب، ضد الفتنة، هي نداء للسلم الأهلي، بل السلم الإنساني القائم على العهد وصون العهد وفق شروطه ومواثيقه، (براءة) دعوة ضد إخراج الناس من بيوتهم، فقد أمر القرآن في براءة بمقاتلة المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من بلده، وقد نقضوا العهود وتظاهروا مع غيرهم ضد المؤمنين في حلف استكباري يريد مواصلة السيطرة على الضعفاء واستعباد الناس، لذا فسورة (براءة) ليست حرباً على النصارى أو البوذيين أو مذاهب الإسلام الأخرى، أو حتى اليهود، إلّا من فتح النار على المؤمنين فأخرجهم من ديارهم بغير حق، ونقض كل عهد معهم، وأقام التحالفات الشيطانية ضمن مصالح رأس المال في سحق الفقراء وامتصاص دمائهم للعيش برفاهية على أطلالهم.
اترك رد