يعد المجهود الذي قام به الشاطبي رحمه الله في الموافقات، طفرة نوعية كبيرة، تنظيرا وتقعيدا، ورسما لأهم أبعاد “النظرة المقاصدية”؛ فهو المعلم الأول على صعيد النظر المنهجي والتأسيس العلمي، وهو شيخ المقاصديين بدون منازع، فلا يمكن أن يكتب كاتب في المقاصد شيئا إلاّ وتجده يشير إلى الشاطبي. وقد كان من فضل الله على أهل الغرب الإسلامي أن يبقى لواء المقاصد معقودا بأيديهم، إذ قيّد الله عالمين جليلين أكملا طريق الشاطبي، وبنيا على مجهوده، وهما الطاهر ابن عاشور وعلال الفاسي رحمهما الله.
ولم يبدأ المشارقة التأليف في الموضوع إلاّ في السنوات الأخيرة، وهنا يطرح سؤال نفسه بإلحاح، ما سر انفراد علماء الغرب الإسلامي وسبقهم إلى التأليف في ميدان المقاصد؟ للإجابة عن هذا السؤال ننظر القاسم المشترك الذي يجمع العلماء الثلاثة، فنجدهم ينتسبون إلى المذهب المالكي. وبنظرة سريعة على أصول هذا المذهب نقف على خصائص ومميّزات هذا المذهب، التي جعلته مذهب المقاصد الأول.
فمن بين أهمّ الأصول المالكية التي لها علاقة بالمقاصد “المصلحة المرسلة” ذلك أن النظر المصلحي هو من أهم مميزات المذهب المالكي، ومعلوم أن جماع المقاصد هو “جلب المصالح ودرء المفاسد”. أمّا الأصل الثاني الذي له علاقة بالمقاصد فهو”سد الذرائع” والذي يعتبر المذهب المالكي من أهمّ القائلين به، وهو وجه آخر من وجوه رعاية مقصود الشارع في حفظ المصالح ودرء المفاسد، هذا بالإضافة إلى أصول أخرى، وقواعد تميزها بها المذهب المالكي، والتي كانت السبب المباشر في ولوع علمائه بالمقاصد.
أما فيما يخص تناول علال الفاسي لموضوع المقاصد، فقد تميّز بالاختلاف عمّا دأب عليه الأصوليون، حين يكتبون في المقاصد؛ وهذا أمر نلاحظه بوضوح عبر فصول كتابه الموسوم ب”مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”.
ففي البداية قام علال الفاسي بتحديد المراد بمقاصد الشريعة، فقال: «الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها» تطرق بعد ذلك لمسألة التعليل، فذكر مجموعة من الآيات التي توضح بجلاء أمر التعليل ثم قال: «ولا يضرّ التنزيه الإلهي أن يكون لحكمه غاية، لأنّه المدبّر لشؤون الكون، فلا بدّ أن يكون التدبير على أحسن ما يريده هو» ثم استرسل في عرض مضامين كتابه والتي يمكننا تحديدها فيما يلي:
ـ مقدّمات حول تاريخ القانون ووسائل تطوره.
ـ العدل بين الشرائع الوضعية والشرائع السماوية.
ـ أصول الشرعة الإسلامية، رؤية مقاصدية.
ـ الاجتهاد المقاصدي.
ـ بعض مقاصد الشريعة الإسلامية الخاصة.
وكان للطريقة التي تناول بها علال الفاسي مضامين كتابه بعض المؤاخذات من قبل بعض الباحثين بدعوى أن «… تركيز المؤلف لم يكن على مسألة المقاصد في ذاتها، تعميقا لمعانيها، وتأصيلا لمفاهيمها، أو تطوير لقواعدها…» إلاّ أنّ الواقع أنّ علال الفاسي تناول روح المقاصد في كتابه، وأتى بتطبيقات حيّة ومباشرة على الواقع، وقدّم اجتهادات وحلولا مقاصدية في مجموعة من القضايا، وكان غرضه رحمه الله من الطريقة التي تناول بها كتابه، المساعدة على فهم الإسلام وبذل الجهد في تعرّف أحكامه مباشرة من مصادره الأصلية.
ونعرج فيما يلي على أهم النظرات المقاصدية عند علال الفاسي:
الإسلام دين الفطرة
لمّا كانت شريعة الإسلام هي آخر الشرائع وكانت مرسلة للنّاس كافة في كل زمان ومكان، فإنّه تعين أن تكون مبنية على وصف يشترك فيه سائر البشر، وترتضيه العقول السليمة، هذا الوصف هو الفطرة؛ ذلك لأن شريعة الإسلام جاءت مصدّقة وموافقة لمقتضيات الفطرة التي جبل عليها الإنسان، ومكملة لها وآخذة بيدها إلى ما فيه سعادتها الدنيوية والأخروية.. قال تعالى: )إنَّ هذا القرآنَ يهدي للتي هيَ أقومُ( يعلّق المرحوم علاّل الفاسي قائلا: «أي أنه يساعد الإنسان على إدراك أقوم الطرق وأنجعها لتحقيق ما تتطلبه فطرته الإنسانية من سعادة روحية ومادية، وهو يهديه لذلك لأنه يضع بين يديه التعاليم التي يدركها كلّ إنسان، بمقتضى فطرته كإنسان، ويجد فيها ما يحتاج إليه من دين وشريعة ومنهاج للحياة».
ولما كانت التعاليم التي جاءت بها شريعة الإسلام هي تعاليم الفطرة فإن علاّل الفاسي يرى: «أن اتباع الطاعة في الأعمال الإنسانية يجعلها أعمالا شرعية، والخروج عنها يجعل العمل الإنساني في إطار خارج عن الشريعة، من ثمّ فهو خارج عن الفطرة».
ويزيد الأمر توضيحا فيقول: «وإذن فلا بد من أن يكون الإسلام فيما جاء به ضامنا لسدّ الحاجيات التي يتوقف عليها الإنسان لتكون مدنيته كإنسان، ولذلك فلن تجد في الشريعة الإسلامية شيئا منافيا للفطرة الإنسانية … وإذا قلنا أن الإنسانية مجبولة على حب من أحسن إليها، فلا بدّ أن يكون الإسلام الذي هو دين الفطرة، مقرّا لهذه الجبلّة الإنسانية وفارضا وجوب شكر المنعم، وإذا قلنا أنها مجبولة على بغض المسيء فلا بدّ من تحريم التشريع للإساءة…» وعن الفطرة التي فطر الناس عليها في نظره: «هي فطرة الإنسان بصفته إنسانا، أي مطلق الإنسان الذي يملك جملة من العقل وقدرة على اكتساب المعرفة، واستعداد للمدنية، ومرونة عل الطاعة، إلى جانب ماله من حواس، يدرك بها المرئيات والمسموعات والمتصورات…».
وخلاصة القول؛ إن الشريعة إنّما جاءت تدعو لتقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها وإحياء ما اندرس منها، لذلك نجد الشيخ ابن عاشور رحمه الله يذهب إلى القول بأن المقصد العام من الشريعة هو حفظ هذه الفطرة : «ونحن إذا أجدنا النظر في المقصد العام من التشريع، الذي سيأتي بحثه، نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة، والحذر من خرقها واختلالها».
وبالتالي فإن أي مقصد للشريعة الإسلامية لن يخرج عن سمت الفطرة، وأي اجتهاد على ضوء هذه المقاصد لابد أن يراعي مقتضيات هذه الفطرة.
المصلحة والمفسدة
لقد أجمع جمهور العلماء على أن شريعة الإسلام، إن ما جاءت لرعاية مصالح النّاس، ورفع المشقة عنهم، وتحقيق السعادة لهم دنيا وأخرى. قال تعالى: )وما أرسلناكَ إلاّ رحمةً للعالمينَ»(الأنبياء :107) «وإنّما يكون إرسال الرسول رحمة لهم، إذا كانت الشريعة التي بعث بها إليهم وافية بمصالحهم متكفلة بإسعادهم، وإلاّ لم تكن بعثته رحمة بهم، بل نقمة عليهم، فكأنه عز وجل يقول لنبيه: إنّ ما بعث به سبب لسعادة الدارين ومنشأ لانتظام مصالحهم، فمن قبل هذه الرحمة وشكر النعمة، سعد في الدنيا ولآخرة، ومن ردّها وجحدها، خسر الدنيا والآخرة».
و لم يحرص الأستاذ علاّل الفاسي عندما تطرّق إلى المصلحة، على إعطاء تعريف محدّد لها من عنده، وإنّما اكتفى بذكر اختلاف الأصوليين حول تعريفها، وأتى بتعريفيين محدّدين لها لكلّ من الإمام الغزالي والخوارزمي. فقال: «وقد عرّفها الغزالي بأنّها عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرّة، وقال أنّه لا يعني بها ذلك وإنّما يعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع».
نفس التعريف تقريبا نجده عند الخوارزمي: «المصلحة هي المحافظة على مقصود الشّرع بدفع المفاسد عن الخلق».
والملاحظ في كلام علمائنا الأفاضل عن المصلحة، أنها لا تتجزأ بين الدنيا والآخرة، بل هي شيء واحد، وأمرها مرتبط لا ينفك. وهو ما نجد علاّل الفاسي يؤكد عليه فيقول: «لاشكّ أنّ الشريعة الإسلامية مبنية على مراعاة قواعد المصلحة العامة في جميع ما يرجع للمعاملات الإنسانية لأنّ غايتها تحقيق السّعادة الدنيوية والأخروية لسكان البسيطة عن طريق هدايتهم لوسائل المعاش، وطرق الهناءة، ولكن مفهوم المصلحة في الإسلام لا يعني مجرّد النّفع الذي يناله الفرد أو الجماعة من عمل ما، ولو كان مناقضا لأسس الدين وقواعد الأخلاق فهناك مصالح لا شكّ فيها يلقيها النظر الإسلامي، ويضحّي بها في سبيل مصلحة أسمى وأهم، لابدّ منها لقيام المجتمع على الأنظمة التي يريدها الدين». إذن فعلاّل الفاسي رحمه اللّه يرى أنّه يمكننا التضحية بمجموعة من المصالح في سبيل قيام مصلحة يرتضيها الدين ويحث عليها.
ومن المعلوم أنّ المصلحة بحدّ ذاتها ليست دليلا مستقلاّ من الأدلّة الشرعية شأنها شأن الكتاب والسنة والإجماع، وبالتالي فإنّه لا يصح بناء الأحكام عليها، واتّخاذها مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي، كما يحاول بعض من سفهاء العقول أن يفعلوا. ومن ثمّ فإنّه لاعتبار مصلحة ما، يجب أن تخضع لمقاييس وضوابط محدّدة تخرجها من فوضى المدلولات التي تدل عليها كلمة المصلحة، وهذا ما يؤكد عليه الأستاذ علاّل الفاسي رحمه الله، حيث يقول: «..فالمقاصد الشرعية تعمل على تحقيق المصلحة ولكن لا تخرج عن المقاييس التي وضعها الإسلام لمعرفة المصلحة الحقيقية من المصلحة المتوهّمة أو المرجوحة، ولا شكّ أنّ وضع الإسلام لمقياس تقاس به المصالح ضروري لعدم الوقوع في فوضى المدلولات التي تدل عليها كلمة المصلحة، والتي يفهم منها كلّ واحد بحسب ما يشتمله من أفكار أو مذاهب اجتماعية واقتصادية، وعدم اعتبار هذه المقاييس هو الذي أوقع العالم اليوم في هذا الاصطدام الهائل في الميادين…».
هذا وقد نقل علاّل الفاسي عن الشاطبي ما اشترطه المالكية للعمل بالمصلحة المرسلة، وهي شروط ثلاثة:
الشـرط الأول: أن تكون متفقة مع مقاصد الشرع فلا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من أدلته.
الشرط الثاني: أن تكون معقولـة في ذاتها، تتلقـاها العـقول بالقبـول متـى عرضـت عليها.
الشرط الثالث: أن يكون في الأخذ بها حفظ أمر ضروري، أو رفع حرج لازم في الدين لقوله تعالى: )وما جَعلَ عليكُم في الدينِ منْ حرجٍ(.
بالإضافة إلى هذه الشروط الثلاثة، التي تبناها علاّل الفاسي في تقييد المصلحة، فإنّه يضيف شرطا آخر يعتمد بالأساس على الأخلاق، يقول: «مقياس كل مصلحة، الخلق المستمدّ من الفطرة، والقائم على أساس العمل لمرضاة مثل أعلى هو غاية الإنسان في الحياة، ومن العمل».
الإنسان والمجتمع
أولا: الإنسان بين غايتين:
وأقصد بالغايتين غاية الإنسان كشخص، أي خيره ونفعه الذاتي، وهذا بطبيعة الحال يشمل في التصور الإسلامي، حياته الدنيوية والأخروية. والغاية الثانية هي غاية جماعته، وأمّته؛ أي عظمتها ورقيّها وسيادتها للأمم.
وكثيرا ما تتضارب الغايتين وتختصمان فتعتدي إحداهما على الأخرى، وتسلبها حقّها، والتجربة الإنسانية توضح لنا كيف اضطربت الكثير من النظم والفلسفات بين هذه النزعة أو تلك، بعضها يوسّع من دائرة الفردية حتى تصل إلى الأنانية البغيضة، وإلى تفكيك روابط المجتمع، وتشتيت طاقاته (الرأسمالية الغربية نموذجا) وبعضها يوسع الدائرة الجماعية حتّى تقضي على كيان الفرد، وتكاد تلغي وجوده، إذ نعتبره شيئا تافها لا يستمد كيانه إلاّ بوصفه فردا في القطيع (الشيوعية الشرقية نموذجا).
أمّا أمّة الإسلام فهي بمعزل عن هذا التطرف أو ذاك، لأنّها بكلّ بساطة أمّة الوسط، القائمة تعاليمها على الفطرة، والوسط كما يشرحه علاّل الفاسي في موضع سابق «هو الاستقامة على سمت الفطرة ».
ولكن هذا لا يعني أنّنا لا نعيش هذا المشكل وخصوصا في العصور الأخيرة، حيث البعد عن تعاليم دين الفطرة، والإقبال على فلسفات متطرّفة أثبتت بوارها وفشلها في بلدانها الأصلية. فعلى المستوى الفقهي نلمس هذه النّزعة الفردية، إذ نراه “الفقه” يركّز على الفرد، اجتهادا لقضاياه ونوازله، ويغفل عن الجوانب الاجتماعية والسياسية التي تهمّ الأمّة بمجموعها، وهذا أمر ملاحظ أيضا في مقاصد الشريعة الإسلامية التي صاغها العلماء منذ الغزالي إلى اليوم، فحفظ الدين والنّفس والعقل والمال والنّسل هي في الحقيقة ذات طابع فردي أكثر ممّا هو اجتماعي، قد يكون عذرهم هو أنّ بصلاح الفرد يصلح المجموع، إلاّ أنّه لا بدّ من الاهتمام بمقاصد الشرع التي تهم الأمّة، وإعطائها المكانة اللازمة لها في سلّم مقاصد الشريعة.
هذا وقد أولى علاّل الفاسي للمسألة الاجتماعية أهمّية كبيرة في تفكيره وتنظيره، وما تخصيصه نصف صفحات كتابه النقد الذاتي للحديث عن الفكر الاجتماعي، إلاّ لأهمّية هذا الجانب في نظره. يقول رحمه الله: «لا يمكن لأمة أن تنهض من وهدة السقوط التي وقعت فيها، إلا إذا تدربت على أن تفكّر اجتماعيا، وتعوّدت على أن لا ترى في مسائل الأفراد، أو الطبقات الأخرى شؤونا بعيدة عنها أو غير عائدة إليها».
ويتطرّق علال الفاسي للمسألة الاجتماعية في كتابه مقاصد الشريعة فيقول: «إنّ غاية الشريعة هي مصلحة الإنسان كخليفة في المجتمع الذي هو منه، وكمسؤول أمام الله الذي استخلفه على إقامة العدل والإنصاف، وضمان السعادة الفكرية والاجتماعية، والطمأنينة النّفسية لكل أفراد الأمّة».
من الملاحظ أنّ ثنائيات (الدنيا والآخرة) و(الفرد والمجتمع) كانتا حاضرتان بقوة في تفكير عالمنا الفاسي، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على سلامة الفكر وشمولية النظرة، هاته الخاصّيات لا نجدها إلاّ لدى الفطاحل من العلماء رحمهم الله الذين لا ينفصم في ذهنهم مصلحة دنياهم ومصلحة آخرتهم ومصلحة الأفراد، ومصلحة الأمّة.
ثانيا : مقاصد الفرد ومقاصد الأمة:
من المهمّ الإشارة إلى قضيّة مهمّة جدّا، ربّما كانت هي السبب في غياب النظرة “المقاصدية الاجتماعية” عند الكثير من المقاصديين والأصوليين. هذه القضيّة قلّ من أشار إليها، وهي أنّ الفقهاء لم يلاحظوا أنّ الكتاب والسنّة حافلان بالخطابات الموجّهة إلى الأمّة، باعتبارها مكلّفا، بينما اعتبروا أنّ الخطابات الشرعية كلّها موجّهة للأفراد، حتّى ما سموه بالتكاليف الكفائية اعتبروه خطابات أفراد، بينما نلاحظ أنّ الشريعة اشتملت على نوعين من الخطابات التكليفية، خطابات للأفراد، وخطابات للأمّة، والخطابات الموجّهة للجماعة وللأمّة كثيرة جدّا…
لقد ساهمت هذه النّظرة “العرجاء” للخطابات التكليفية الشرعية إلى اعتبار الشريعة موجّهة للأفراد، وبذلك تحوّل الفقه إلى فقه أفراد، وسيطرت على الفقيه النّظرة التجزيئية للأمور، فتقوقع الفقيه للبحث في زكاة الحلزون تاركا ما ليس لقيصر لقيصر. وطابع الفردية هذا، لم تسلم منه حتّى المقاصد التي صاغها العلماء قديما، وهذا بالطبع يأتي على حساب المقاصد التي تهم الأمّة. إلاّ أنّه بتنا نسمع مؤخّرا عن محاولات تجديدية مهمّة لتوسيع دائرة المقاصد، حتّى تشمل باقي المجالات، التي هي من الأهمّية بمكان، والتي تهمّ بالدرجة الأولى مقاصد المجتمع، والأمّة الإسلامية بصفة عامة.
وبخصوص مقاصد علاّل الفاسي في هذا المجال فإنّه بدوره أتى على ذكرها إمّا مفصّلة في صفحات كتابه وإمّا مجملة في قوله، «والمقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها وقيامهم بما كلّفوا به من عدل، واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع».
وقد تحدّث علال عن مجموعة من النقاط التي تهم مقاصد الشريعة بالنّسبة للأمّة، فتكلّم عن حرّية العمل وقال: «لكل أحد الحق في العمل ولكل عامل ما اكتسب وعلى الدولة أن تحمي الجميع من كل استغلال أو تعسّف أو ظلم». وعن الجانب الأمني قال علال بأنّه على الدولة أن تقاوم كلّ تطاحن قد يؤدي إلى القتل، في سبيل المال أو الفكر داخل المجتمع، وتحمي كلّ فرد أو جماعة أثناء قيامها بواجبها أو تمتّعها بحقّها، وتقضي على أسباب الفتنة والاضطراب … ويدخل في باب الأمن أيضا أنّه «على الدولة أن تقاوم كل الأوبئة الاجتماعية التي تفتك بحياة الإنسان، وبصحّته وبسلالته، وفساد نسله ».
وعن حفظ ثروة الأمة قال علال: «ثم إن هناك أمورا عامة جعلها الله للجميع، لا يصح لأحد أن يحتكرها لنفسه، ومنها الكلأ والحطب والسوائل والمعادن، فكل موزون من المعادن، جامدا أو مائعا فهو ملك عام لا يصح التسلط عليه، وللدّولة الإسلامية أن تنظّم استغلاله».
ولعلال رحمه الله فقرة بعنوان “دعوة الإسلام للسلام” صدّرها بقوله تعالى: )يأيها الناسُ ادخلوا في السلمِ كافةً، ولا تَتبعوا خطواتِ الشيطانِ إنّّهُ لكم عدوٌّ مبينٌ(. قال بعدها: «ذلك هو الإعلان القرآني بوجود سلم عالمي تندمج فيه الإنسانية كافة، وذلك باتّفاق على تحريم الحروب والتضامن في دفع المعتدين والتعاون على منع العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تؤدّي إلى الحرب بين الناس». في كلمات علاّل هذه نلمس مقصدين بارزين فيما يخص الإنسانية الأول هو مقصد السلام العالمي الذي لم يسبق دين من الأديان أو فلسفة من الفلسفات في إعلانه قبل الإسلام، والمقصد الثاني هو الدعوة إلى التضامن والتعاون الاقتصادي والاجتماعي بين الأمم.
وتحت عنوان “العدل الدولي” يقول علاّل: «إنّه ما من شيء يأمر الله به الأفراد في معاملاتهم مع بعضهم إلاّ ويأمر به الدول في علاقاتها الواحدة مع الأخرى».
قال عليه الصلاة والسلام: (لا يومن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه) علّق قائلا: «وذهب معظم الشارحين على أنّ المقصود بالأخوّة الإنسانية لا يخص أخوّة الدين».
إذن من خلال ما سبق يتضح حضور للمقاصد الاجتماعية والإنسانية في فكر عالم القرويين، لاشكّ أنّها تحتاج إلى مزيد من التفصيل والتدقيق، مما سيفتح آفاقا رحبة للفكر المقاصدي لكي ينبني على أسس متينة، وقواعد واسعة.
الاجتهاد المقاصدي
نصل الآن إلى ثمرة من أهم ثمرات مقاصد الشريعة، وهي الاجتهاد على ضوئها، ومحاولة إيجاد الحلول لمستجدات العصر المتلاحقة، بإعطائها الحكم المناسب لها، وإثبات أنّ الشريعة الإسلامية هي شريعة صالحة لكل زمان ومكان.
يشرح علال الفاسي أهمية الاجتهاد فيقول: «الاجتهاد هو العلم الذي وضعه الإسلام ليشرك به المجتهدين من الأكفاء في التشريع، وفي تفسير الخطاب الإلهي، وهو ما يجعل الشريعة الإسلامية قابلة للتطور والدوران مع المصلحة العامة والخاصة، في جميع العصور وفي جميع الجهات».
وقد سطّر العلماء رحمهم الله مجموعة من الشروط التي يجب توفّرها في المجتهد، هذه اللائحة من الشروط قد تقصر وقد تطول بحسب نظرة كلّ عالم لما يجب أن يكون متوفّرا في المجتهد، نعرض فيما يلي لأهمّها على لسان عالمنا علال الفاسي رحمه الله، والذي جعلها ثلاثة شروط رئيسية وهي:
المعرفة بالأدلة السمعية، والتأكد من دلالة اللفظ في اللغة العربية، ثم القدرة على الموازنة بين الأدلة.
ثم يوضّح علال حجّية المقاصد فيقول: «وهي في غير ما نص عليه بصراحة تؤخذ من مقاصد الشريعة، التي تنطوي على كل ما يمكن أن يقع من حوادث وأحكام… والمقاصد جزء من المصادر الأساسية للتّشريع الإسلامي، والحكم الذي نأخذه بطريق المصلحة والاستحسان أو غير ذلك من ضروب المآخذ الاجتهادية يعتبر حكما شرعيا، أي خطابا من الله متعلّقا بأفعال المكلّفين لأنّه نتيجة الخطاب الشرعي الذي يتبين من تلك المقاصد التي هي أمارات للأحكام التي أرادها الله».
إنّ أيّ قارئ لكتب علال الفاسي الثلاثة: “مقاصد الشريعة والنقد الذاتي، ودفاع عن الشريعة” ليلمس بوضوح الأهمّية التي يوليها علال الفاسي لقضية المقاصد في علاقتها بالاجتهاد، إذ كان رحمه الله واعيا بالبعد المقاصدي في أيّ عمل اجتهادي، لذا تجده ينبّه مرارا على ضرورة الاعتماد على المقاصد كمصدر أصيل غني من مصادر التشريع الإسلامي، وأنّه لا غنى لأيّ اجتهاد عن المقاصد، يقول في كتابه “دفاع عن الشريعة”: «وباب الاجتهاد التي فتحها الشارع للقادرين عليها من كل المسلمين في كل عصر وفي كل مكان، هي الكفيلة بمسايرة الشريعة، وسدّها حاجة ما استجدّ من المسائل التي لا حصر لها ولا نهاية لوقوعها، والاجتهاد يرجع إلى استنباط الأحكام من أدلّتها التفصيلية، إمّا بفهم جديد لآية من كتاب الله، أو لحديث من أحاديث الرسول، أو انتباه لعلة يرجع إليها مناط الحكم، أو استعمال لمقتضى مقصد من مقاصد الشريعة».
هذا وقد أسهب علال الفاسي رحمه الله في الردّ على من اعتبر المقاصد مصادر تشريعية خارجية «وإنّما أطلت في هذا الموضوع لأبيّن أن مقاصد الشريعة هي المصدر الأبدي لاستفاء ما يتوقف عليه التشريع والقضاء في الفقه الإسلامي، وأنّها ليست مصدرا خارجيا عن الشرع الإسلامي، ولكنّها من صميمه، وليست غامضة غموض القانون الطبيعي الذي لا يعرف له حد ولا مورد، ولكنّها ذات معالم وصوى كصوى الطريق». ويرى علال الفاسي أنّ الحل والمخرج من الأزمة التي يعيشها الفقه ويعيشها المسلمون في باقي مجالات حياتهم، هو العودة إلى المقاصد، والاغتراف منها ضمانا لنهضة فقهية قويّة: «وإنّ في ثلة الفقهاء المجدّدين على قلّتهم ضمانا للسير بالفقه الإسلامي إلى شاطئ النجاة حتى يصبح مرتبطا بمقاصد الشريعة وأدلّتها، ومتمتّعا بالتطبيق في محاكم المسلمين وبلدانهم وليس ذلك على الله وعلى همّة المسلمين المجاهدين المجتهدين بعزيز».
نصل الآن إلى بعض التطبيقات والاجتهادات التي اعتمدها علال، وراعى فيها مقاصد الشريعة. هذه الاجتهادات قد نوافقه فيها وقد نختلف معه، لكن المهم هو مراعاة علال للمصلحة والمقاصد في هذه الاجتهادات. ولعلّ من أبرز الأمثلة في اجتهادات علال الفاسي المقاصدية هي التي تمنع التّعدد في الزواج، يقول رحمه الله: «…فإذا كان التعدّد ممنوعا خوفا من أن يؤدي إلى غصب حقّ اليتيم فأحرى به أن يكون ممنوعا إذا كان يؤدي لغصب أولاد الصلب نفسه حقهم أو إلى إزالة المودة التي وضعها الله رحمة للعائلة، ورابطة بين الأب وابنه وأقرب الناس إليه، ولذلك أرى أن تعدّد الزوجات يجب أن يمنع في العصر الحاضر منعا باتا عن طريق الحكومة لأن الوجدان وحده لا يكفي اليوم لمنع النّاس منه، وقد قال عثمان رضي الله عنه: إنّ الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» .
ويضيف قائلا: «ومهما يقال عن محاسن تعدّد الزوجات في بعض الظروف الخاصّة أو العامّة فإنّي أعتبر أنّ المصلحة الإسلامية و الاجتماعية تقضي بمنعه في الوقت الحاضر».
وهو في حكمه هذا ينطلق من عدّة اعتبارات، من أبرزها أنّ قوله تعالى: )فإنْ خفتُم أنْ لا تَعدلوا فواحدة( هو أمر إرشاد من الشارع إلى الاكتفاء بواحدة عند الخوف من عدم العدل، قال: «وهو على ما نرى أمر للأمة جمعاء ليستكملوا ما قصد إليه الشارع من إبطال التعدّد مطلقا». فهو يرى أنّ إبطال التعدّد مقصد من المقاصد التي يرمي الشارع إلى دفع النّاس إليها. وكمثال ثان على إعمال علال للمقاصد والمصالح ما قرره في نقده الذاتي خروجا عن المذهب المالكي، قال: «..ومن ذلك إجبار الوالي أو الوصي البكر على الزاوج ممّن تريد ومن لا تريد، فهذا العمل مبني عل مذهب الإمام مالك الذي يعطي للأولياء حق الإجبار، وإن كان يستحب لهم تخيير المرأة في ذلك، ونحن أنّ نعتقد أنّ روح العصر لم تعد تصلح لتطبيق مذهب المالكية في الموضوع».
ويرى علال أنّ من الضروري أن تفرض الضرائب على الأعزاب الذين يتجاوزون الخامسة والعشرون عاما دون زواج بغير عذر شرعي ويجب أن يصرف مدخول هذه الضرائب في مساعدة المحتاجين والمحتاجات من راغبي الزواج الذين تقف أمامهم عوائق الدهر أو أحداث المرض.
كانت هذه بعض الاجتهادات التي أشار إليها علال الفاسي والمبنية على فهمه لمقاصد الشريعة، ووعيه بمتطلّبات العصر وحاجاته، وكما قلت سابقا فهي اجتهادات قد يوافقه فيها البعض، ويخالفه فيها آخرون، ولكن المهم من كلّ هذا هو العودة إلى شريعتنا الغرّاء بفهم جديد ومتجدّد يستوعب أحداث العصر المتسارعة، ويستظل بمظلة الشريعة ونصوصها، ويأخذ بعين الاعتبار المقاصد التي رمى إليها الشارع من وراء أحكامه، ولا بأس بتغيّر بعض الأحكام لتغيّر الزمان، ففقهائنا الأجلاء رحمهم الله، تركوا لنا قاعدة جليلة قالوا فيها: “لا ينكر تغير الأحكام بتغيّر الزمان”, ونقل عن القرافي المالكي قوله في الفروق: «الجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدّين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين».
وأشير في الأخير أنّ عالم القرويين الذي كانت تشد لمجالس وعظه الرحال، كتب كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية لبيان صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، فالرجل كما تشهد بذلك بعض عبارات الكتاب، كان يواجه تيّارا قويّا يدعوا إلى التّخلي عن الشريعة، والإقبال على الغرب بعلومه وفلسفاته، لنتقدّم كما تقدّموا، ونتحضّر كما تحضّروا، فكانت صرخته عبارة عن كتاب سمّاه “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها” في محاولة إلى ردّهم إلى صوابهم، وتبصيرهم بمحاسن شريعتهم، وهذا لعمري لهو من أهم أهداف مقاصد الشريعة، فإذا كانت المقاصد كما عبّر عن ذلك العديد من العلماء هي أداة للاجتهاد، فهي أيضا لها دور لا يقل أهمّية عن الاجتهاد، وقلّ من تنبّه إليه وهو الدفاع عن الشريعة الإسلامية، وإبراز محاسنها، وهو ما قام به علال الفاسي رحمه الله.
المصدر: موقع الشهاب
اترك رد