جدوى القراءة الإبستمولوجية للتراث عند محمد عابد الجابري … عبد الله بكيري

عبدالله بكيري: ماجستير (فلسفة عربية إسلامية) – جامعة الجزائر2

هل يمكن التعامل مع التراث العربي الإسلامي بقراءة إبستمولوجية؟ لعلها أهم إشكالية تواجه التوظيف المنهجي عند الجابري في تعامله مع التراث، فالقراءة الإبستمولوجية في الغرب تأسست بالأساس للتعامل مع الواقع، فهل يجوز نقلها للتعامل مع التراث و مع الماضي؟
“إن فتنة الإبستمولوجيا و إغراء مفاهيمها، جعلت المشتغلين بها يميلون أحيانا إلى الإعتقاد بإمكانية أن تتحول إلى بديل مطلق، و إلى رؤية شاملة للعلم أو إلى نسق كلي، أو باختصار إلى ابستمولوجيا العلم هكذا بدون تخصيص.
والحقيقة أن كل ابستمولوجيا هي ابستمولوجيا قطاعية، فلا مسوغ للكلام عن الإبستمولوجيا كنظرية لسائر المعارف العلمية، و لا مبرر لازدراء التاريخ الفعلي لكل ممارسة نظرية علمية على حدة، لأن متابعته في تفاصيله هي وحدها الكفيلة ببناء ابستمولوجياته.”
ولهذا يؤكد طه عبد الرحمان أن الآليات التي استعملت في انجاز بحث الجابري في المضامين التراثية، هي آليات استهلاكية أي أدوات مفصولة عن أسباب إنتاجية هذه المضامين، ومنقولة إليها من غيرها نقلا، وعليه فلا يمكن أن تكون الوسائل الواصفة التي استخدمها في تعامله مع التراث من جنس هذه الآليات التحتية، و إنما هي مستمدة من التراث الآلي الغربي.
إن النقد الإبستمولوجي يتوجه بالأساس إلى الآليات المعرفية و الفكرية في مسائلة التراث ليجعل من مشكلة التخلف الفكري في مجتمعاتنا العربية أزمة من داخل هذا البناء المعرفي ” فالأزمة إنما ترجع إلى جمود الفكر أو العقل العربي و استناده إلى النموذج السلفي و القياس الفقهي الذي يقوم على قياس الغائب على الشاهد، و إنكار مبدأ السببية الموضوعية إلى غير ذلك، و بهذا يكتفون بتفسير أزمة الفكر العربي تفسيرا إبستمولوجيا خالصا بمكونات بنيته نفسها… و هكذا تصبح أزمة الفكر العربي هي أزمة من صميم سماته التكوينية و البنيوية، و لا شك في أهمية هذا النقد الإبستمولوجي لمكونات الفكر العربي… إلا أن الإقتصار على هذا النقد الإبستمولوجي والتثبيت اللاتاريخي لهذه السمات، يفضي إلى تغييب المصادر و الأسباب الموضوعية و التاريخية لأزمة الفكر العربي.”
إذا فالقراءة الإبستمولوجية للتراث ستؤدي في النهاية إلى إقصاء هذا التراث في صيرورته التاريخية و الإجتماعية، وهذا ما دفع طيب تيزيني إلى اعتبار هذا النوع من الدراسة يقصي الأعمال الفكرية التراثية من الإنتاج الفلسفي، حيث يقول: ” يلاحظ أنها ( أي النزعة الإبستمولوجية ) تتأسس، فيما تتأسس، على مفهوم القطيعة الإبستمولوجية الذي يكرس الدعوة إلى إقصاء التاريخ و السياق التاريخي، لصالح البنية و الإنفصال، و بشيء من التدقيق و التمحيص يلاحظ أن ذلك يقود إلى العبث بقضية التراث الفلسفي الوطني و القومي، ذلك لأن الشغل عليها يمر بمقتضى ذلك عبر الإحتكام لتلك القطيعة.”
ويوضح علي حرب تأثير المعالجة الإبستمولوجية على التراث بقوله: ” من المعلوم أن المنهج الإبستمولوجي لا يقوم على النظر فيما ينتجه الفكر من آراء و تصورات و نظريات و مذاهب، بل يقوم على البحث عن أصول التفكير و معاييره و قواعده، و يهتم بتحليل الآليات و الطرائق و الأجهزة التي يستخدمها العقل في إنتاجه للمعارف التي ينتجها في شتى الميادين العلمية، و باختصار إنه منهج يركز على أسس التفكير و أدواته، لا على مضامينه و منتوجاته، و لا مراء في أننا، نحن اليوم، نختلف في طرائق تفكيرنا و في أدوات تحليلنا عن القدماء، أمثال سيبويه والشافعي و الأشعري، أو أمثال الفارابي و ابن رشد و ابن خلدون … ولكن النظر إليهم من منظار إبستمولوجي صرف يؤول إلى إقصائهم، إلى اعتبار ما أبدعوه مادة معرفية ميتة كما يقول الجابري.”
إن الخيار الإبستمولوجي يؤدي لا محالة إلى غياب الرؤية التاريخية التي تربط الفكر بالحياة الإجتماعية، وفي هذا الإطار يوضح حكيم بن حمودة أن القصور في المشروع الفكري المغاربي يرجع إلى الخيار الإبستمولوجي، حيث يقول: ” إن هذا القصور يكمن في الإختيارات المنهجية لجل المفكرين في المغرب العربي (ومنهم محمد أركون، وهشام جعيط و محمد عابد الجابري) و بخاصة الخيار الإبستمولوجي… إلا أنه بالرغم من أهميته، فالخيار الإبستمولوجي يشكل أحد أوجه القصور في الفكر المغاربي باعتبار عجزه عن ربط الديناميكية الفكرية بحركة الصراع الإجتماعي.”
إذا فاختيار التعامل مع التراث إبستمولوجيا سيؤدي لا محالة إلى إقصاء التراث أو على الأقل إقصاء جزء منه كما سيظهر ذلك فيما بعد على التراث العرفاني، كما أن هذا المشروع الإبستمولوجي يقصي الواقع و يحاول علاج أزمة الفكر العربي بمحددات بنيته، و كأنه يعالج الأزمة بالتراث مقصيا هذا التراث بل باحثا في آليات إنتاجه، و لعل هذا ما دفع عبد الرزاق عيد إلى التأكيد على أن “استخدام المنهجية الإبستمولوجية لكاتب العقل العربي بالبراعة ذاتها التي يستخدمها، لخرجنا بالنتيجة ذاتها تجاه نتاجه الفكري، فهو يحمل مثالب البحث عن واقع آخر من خلال البحث في التراث، وهو أهم ما أنتجه الجابري، و البحث عن واقع آخر من خلال اتخاذ الغرب ( اليونـــان ) كنموذج تقاس عليه ثلاثية العقل العربي.”
إن الدعوة لتحرير العقل العربي بآليات إبستمولوجية لن تكون لها أية قيمة أو معنى ما لم يتجه التحرير نحو الواقع و الراهن الفكري و الثقافي و الإجتماعي الذي يعيش أزمة تخلف مستمرة لقرون و متواصلة منذ أجيال، و هذه الفكرة يؤكد عليها محمود أمين العالم في إطار تقييمه لمشروع الجابري، حيث يقول: ” برغم القيمة الكبيرة لهذا التحليل النقدي للفكر العربي الذي يقوم به الجابري، و رغم صحة دعواه إلى تحرير الفكر العربي تحريرا يتضمن رؤية تاريخية نقدية، إلا أننا نلاحظ أن محددات هذا التحرير هي محددات إبستمولوجية معرفية بحتة، أي أن التحرير إنما يتحقق أساسا بتحرير بنية العقل العربي تحريرا معرفيا، و لا شك أنه خطوة أساسية من خطى التحرير الفكري، و لكن هل يمكن تحرير الفكر بغير تحرير الواقع؟ و هل يمكن تحرير الواقع بغير تحرير الفكر؟ إن القضية لا يمكن أن تقتصر على التحرير المعرفي وحده أو التحريــــــــــــــــــــــر الموضوعي وحده، بل هناك تشابك ضروري بين هذين البعـــــــدين للتحرير الإنساني.”
ويضيف العالم في موقع آخر حول ما سينجر عن تطبيق هذا المنهج على التراث:” إن التحليل الإبستمولوجي لوقائع الفكر عملية بالغة الأهمية بغير شك، ولكن الاقتصار عليها ثمّ إصدار حكم شامل تأسيساً عليها وحدها، يسقط هذا الحكم في ما يمكن أن نسميه بالنزعة الإبستمولوجية، التي لا تفضي إلى قصور هذا الحكم عن الإحاطة بحقائق الواقع الثقافي والحياتي فحسب، بل إلى القصور كذلك في منهج هذا الواقع، وتجديده، بل إلى قصور في الرؤية العقلانية النقدية عامة.”
ونضيف على هذا بأن التحليل النقدي الإبستمولوجي في الغرب كان مسايرا للتطور الواقعي الإجتماعي و مواكبا للتطور التاريخي الفكري العلمي و العملي في المجتمعات الأوربية، فهل ينطبق هذا على الواقع العربي؟ وهل من قيمة للقراءة الإبستمولوجية في مجتمعات لازالت تعيش بالتراث؟ و أكثر من ذلك ألا ينتهي مشروع الجابري إلى إعتماد جزء من التراث ( العقلانية الرشدية ) كحل لأزمة الفكر العربي؟


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ الأستاذ المساعد هادي سعدون هنون
    الأستاذ المساعد هادي سعدون هنون

    وفق الله هذه الشبكة العملاقة التي ترسو على كنوز العلم والمعرفة ، فتلتقط حباته وتجليها للقارئ والمتتبع ، وموضوع الإبستمولوجية موضوعا قيما ، تنبع أهميته وقيمته من حاجة الفكر العربي إلى التجديد المعرفي متجردا عن التراث ، وهذه الفرضية صعبة التطبيق على أمة تعيش وتموت على تراثها السحيق بكل جوانبه المعرفية ….

اترك رد