العالم اليوم، تغيير قواعد اللعبة أم ميلاد حضارة جديدة؟ … د. قاسم المحبشي

د. قاسم المحبشي: جامعة عدن، اليمن

شهد العالم المعاصر منذ منتصف القرن العشرين أحداثاً عاصفة ومتغيرات متسارعة في مختلف الصعد الحضارية والثقافية والمدنية، متغيرات لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من حيث جدتها وسرعتها وأثرها وقوتها الصادمة للروح والعقل معاً إذ بدى الأمر وكأن التاريخ يترنح والأرض تميد وبأهلها والقيم تهتز والحضارة تضطرب، والفوضى الشاملة تجتاح كل شيء وبإزاء هذا المشهد القيامي المجنون تحيرت افضل العقول وفقد العقل الإنساني بصيرته وقدرته النيرة في رؤية الأحداث وما وراءها ومن ثم تفسيرها وتحليلها والكشف عن ثيماتها العميقة المتخفية في سبيل فهمها وعقلنتها وإدراك معناها.

ويمكن لنا تتبع حيرة الفكر المعاصر إزاء ما شهده العالم ولا يزال يشهده من اضطراب شامل في ذلك السيل المتدفق من المحاولات التنظيرية التي ترغب في تعريف وتوصيف ونمذجة وعقلنة المشهد التاريخي الراهن في أطر مفهومية مجردة ، إذ أخذ الفلاسفة والمفكرون منذ أواخر القرن العشرين يتسابقون ويتنافسون في صياغة وإبداع ونحت وفبركة المفهومة المعبرة عن الصورة الفكرية التي يمكن لها توصيف العالم المعاش وتمنح الحقبة الجديدة اسمها ومعناها. ومن تلك التوصيفات يمكن الإشارة إلى اشهرها : العولمة ما بعد الحداثة ما بعد القومية، ما بعد الحرب الباردة، ما بعد الأيديولوجيا، ما بعد الاستعمار، ما بعد البنيوية، ما بعد التنوير، ما بعد الشيوعية، ما بعد المجتمع الصناعي، ما بعد التاريخ، نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، عصر الليبرالية الجديدة، عصر التفكيك*، مجتمع الفرجة، أوالاستعراض، عصر الكمبيوتر، ثورة المعلومات والاتصالات، أو صدام الحضارات، القرية الكونية، نهاية عالم كنا نعرفه” مجتمع الاستهلاك، عصر الديمقراطية، عصر التقنية، عصر التنوع الثقافية، العهد الأمريكي، أو الأمركة، عصر الإرهاب العالمي، السوق الحرة، والوطن السيبرنيتي، عصر الفضاء، والكوكبية وغير ذلك من التوصيفات الكثيرة في أبعادها المتنوعة.

وسط هذا الفضاء المزدحم بالنظريات والرؤى يطل علينا المفكر الامريكي ( آلفين توفلر ) المولود في 1928 بتوصيف مختلف للمشهد الراهن توصيفا مثيرا وجديرا بالأهمية والتأمل فيما أسماه بــ “ميلاد حضارة الموجة الثالثة ” اذ يرى توڤلر أن التغيرات السريعة التي نلاحظها في عالم اليوم ليست بهذه الدرجة من الفوضوية والعرضية، التي يهيئوننا لتصديقها بل أن وراء الأحداث المعروضة بعناوين كبيرة، جملة من البنى ليست ملحوظة فحسب بل هناك قوى يمكن تحديدها وهي التي تتحكم في تلك البنى و تهبها صورتها ومتى استطعنا أن نفهمها، يكون في وسعنا أن نتبنى تجاهها استراتيجية كلية. بدلاً من أن نتصدى لها كأجزاء متفرقة وبمجرد الصدفة ، إن توڤلر يقر بوجود أزمة عميقة في قلب المجتمع الغربي لكنه لا يرى في الأزمة دلالة انهيار أو أفول الغرب بل بشارة ميلاد جديد لحضارة جديدة أخذت تبزغ لتؤها من هشيم الحضارة الصناعية الغاربة إذ يكتب في مقدمة كتابه ( بناء حضارة جديدة ) البيان الآتي:” تواجه أمريكا ( وهي رمز الغرب ) تجمع أزمات لم يسبق لها مثيل منذ أيامها الأولى: نظامها الأسري في أزمة وكذلك نظام الرعاية الصحية ونظامها القيمي والمدني، أما نظامها السياسي فهو أشدها تأزماً. وهو الذي فقد – من كافة الوجوه العملية – ثقة الشعب به. والسؤال هو: لماذا أصيبت أمريكا بهذه الأزمات في وقت واحد، كما لم يحدث في تاريخنا؟ هل هذه دلائل على اضمحلال نهائي لأمريكا؟ هل نحن في نهاية التاريخ؟ و يجيب توفلر على تساؤلاته بالقول ” إن أزمات أمريكا ليست نابعة من إخفاقها، و إنما هي نابعة من نجاحاتها المبكرة. وأحرى بنا أن نقول: إننا لسنا في نهاية التاريخ، و إنما نحن نشهد نهاية ( ما قبل التاريخ )”. هكذا نكون مع توڤلر مع التاريخ الذي لما ينتهِ بعد والتاريخ الذي لما يبدأبعد !

اذ يرى توفلر ان ما يعيشه العالم هنا والآن من أزمات وصراعات واضطرابات انما هو مخاض ميلاد حضارة الموجة الثالثة ، حضارة المعرفة ، التي رمزها الكبيوتر. المعرفة التي هي أعظم وسائل السلطة لأنها الأكثر قدرة على ألتلاؤم والإسراع إلى رفع قيمة الدولار، وهي تصلح للعقاب كما تصلح للمكافأة، وتصلح للإقناع، كما تصلح للتهديد وتصلح لتدمير البيوت كما تصلح لتطوير النفوس. وفي وسعها أن تجعل من العدو صديقاً وحليفاً، ثم إن المعرفة عامل مضاعف للثروة وللقوة .

حتى زمن قريب ، كانت القوة العسكرية مجرد امتداد لقوة القبضة، قبضة اليد، أما اليوم فإنها كلها تقريباً في يد ” الذكاء المختزن، وما الطائرة المقاتلة من دون طيار الا حاسوب طائرا وحتى الأسلحة ” الخرساء هي نفسها إنما يتم إنتاجها بفضل حواسيب وعناصرها إلكترونية مؤنقة إلى أبعد مدى. لقد حدد البتاجون الأمريكي مشروع تصور منظومة من الأسلحة، قادرة على القيام ” بمليون استنتاج منطقي في الثانية.

وينتهي توڤلر إلى تأكيد أن الهيمنة على المعرفة، سيكون العنصر الحاسم في التنازع على القوة، على المستوى العالمي، ذلك التنازع الذي سيقوم عما قريب داخل كل المؤسسات الإنسانيةاذ أن وضع المعرفة قد تغير منذ دخول المجتمعات الصناعية عصر ما بعد الصناعة وما بعد الحداثة منذ نهاية الخمسينات” ومن السهل ملاحظة أن توفلر قد نقل فكرة ليوتار نقلاً حرفياً فكرة ” أن المعرفة ستظل تمثل رهاناً رئيساً في المنافسة العالمية على السلطة فمن المتصور أن الدول القومية ستحارب بعضها يوماً من أجل السيطرة على المعلومات، مثلما تقاتلت في الماضي من أجل السيطرة على الأرض وبعدها من أجل التحكم في الوصول إلى واستغلال المواد الخام وقوة العمل الرخيصة” ويضيف ليوتار: ” لقد تم فتح مجال جديد أمام الاستراتيجيات الصناعية والتجارية من جهة والاستراتيجيات السياسية والعسكرية من جهة ثانية

وفي تحليله لأنماط المعرفة المتمايزة حدد فرانسو ليوتار ثلاثة أنماط للمعرفة الإنسانية في ثلاث مراحل تاريخية وبدى وكأنه يعيد صياغة قانون المراحل الثلاث ل اوغست كونت إذ أشار فرانسو ليوتار إلى أن هناك ثلاثة أنماط من المعرفة هي:

1_ نمط المعرفة الحكائية التي تعود إلى المجتمع القبلي البدائي، وربما الزراعي الرعوي وهي معرفة سحرية أسطورية خرافية

2_نمط المعرفة ” الميتا – حكائية ” – أي ما بعد الحكاية، وربما قصد بها المعرفة الفلسفية التي تعود إلى المجتمع الحديث إذ تسود فيه ما يسمى بالحكايات الكبرى “العقل – والقومية – والتقدم ” وهي المنظومات الفلسفية الميتافيزيقية الشمولية التي شهدها العصر الحديث عند كانت وهيجل وماركس ونيتشه وغيرهم

3_نمط المعرفة العلمية: التي تميز المجتمع ما بعد الحداثي الراهن إذ تتحول المعرفة إلى سلطة عليا تختفي معها كل السلطات الأخرى ، سلطات ؛ المشروعية والمرجعية والغائية والتقدم والعقل والعلم والتنوير، إذ تبدو المعرفة في الوضع مابعد الحداثة “نوعاً من ألعاب اللغة المستندة على قواعد محددة فورية تنبع من طبيعة اللعبة ذاتها وتمنحها مشروعيتها وسلطتها الوضعية الحاضرة المباشرة ، تلك اللعبة التي من مقوماتها ، السرعة والكفاءة والأداء.

هكذا نرى أن الإحساس المتزايد بسطوة التقدم المعرفي العلمي النظري والتطبيقي وما أفضى إليه ذلك التقدم من نتائج مذهلة على صعيد التفوق التقني وثورة المعلومات والاتصالات و الإنترنت كان إحساساً عاماً بين الشرائح المثقفة الاوروأمريكية إذ يتفق الجميع في المبدأ على أن المعرفة أصبحت على نطاق واسع القوة الرئيسية للإنتاج و الثروة والتوزيع والمنافسة، ويختلفون في تشخيص هذه الظاهرة في نتائجها القريبة والبعيدة وابعادها المختلفة، و هذا ما يراه الدكتور توفيق مجاهد في أطروحته ” التحولات الفكري للعولمة ” من اشتراك مجموعة من النظريات والنماذج الفكرية (نظرية ما بعد الصناعة أو ” مجتمع المعرفة ” عند دانيال بيل، وتصورات توڤلر حول المجتمع عالي التصنيع أو مجتمع المعلومات” وغيرها من التصورات الأخرى، التي تلتقي جميعها في أنها تعتبر التقدم العلمي والتقني المحور الأهم والمحدد لاتجاه تطور البشرية

فالموجة الثالثة بحسب توفلر ستأتي بأسلوب حياة جديدة تماماً، يتأسس على: مصادر طاقة متنوعة ومتجددة، وأساليب إنتاج تجعل خطوط الإنتاج في المصانع أشياء عتيقة انتهى زمانها، وأسر وعائلات جديدة غير نووية، ومؤسسة من نوع جديد يمكن أن نسميها ” الكوخ الإلكتروني ” ونرى مدارس وشركات ونقابات مختلفة مستقبلية تختلف عن المألوف حالياً اختلافاً جذرياً، وتخط لنا الحضارة البازغة قواعد جديدة للسلوك، وتحملنا إلى ما بعد التنميط والتزامن والتمركز بعيداً عن تركيز الطاقة والمال والسلطة.

هذه الحضارة الجديدة لها رؤيتها المميزة للعالم، وطرقها الخاصة للتعامل مع الزمان والمكان والمنطق والسببية ولها مبادئها الخاصة لسياسات المستقبل.

بيد أن المثير للفزع في رؤية توڤلر لبزوغ الحضارة الجديدة يكمن في كونه لا يرى في ما يشهده العالم الراهن من صراعات وتمزقات وأزمات وحروب- إلا مظهراً من حالات المخاض و الآم الوضع للجنين القادم، إذ أنه لا يعير أهمية تذكر لمشكلات حيوية متفاقمة كمشكلات: الفقر ومشكلة التخلف والأمية والهيمنة الأمريكية والتسلح النووي، والقيم الاستهلاكية، وتفكك المجتمع والتفسخ الأخلاقي، ونتائج العلم والتقنية لا سيما في الثورة البيولوجية وعلم الوراثة والاستنساخ وأثارها في حياة الإنسان المعاصر وهي المشكلات التي يرى فيها آخرون أمثال ( روجيه جارودي ) وجاك دريدا، وناعوم توشوفسكي، تهديداً قوياً للحضارة الغربية الأمريكية.


نشر منذ

في

من طرف

الكلمات المفاتيح:

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ احمد شعبان محمد
    احمد شعبان محمد

    الا يجب ان ننظر الى رسالة الاسلام والتي تم التعميةعليها تماما والتي لولاها ماانزل الكتاب ولا ارسل سيدنا محمد برسالة الله .
    و تتمثل في الاية ٦٤ النحل ” وما انزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه … ، والتي هى نفسها رحمة العاملين .
    اليس هذا هو ماتبحث عنه الانسانية وهو بين ايدينا ؟
    وما علينا سوى التعرف على منهجية تعاملنا معه .
    ارجوا ان نفيق .

اترك رد