سعيد قدية، باحث في العلوم الشرعية، جامعة ابن طفيل، المغرب
تمهيد
لم يعد خافيا على باحث في العلوم الإسلامية مدى التحريف والمسخ الذي تعرضت له مجموعة من المفاهيم الإسلامية، فتحولت هذا المفاهيم بتطور الزمن من مفاهيم شرعية ذات دلالة وحمولة خاصة إلى مفاهيم تراثية ذات حمولة فكرية و ربما حتى سياسية؛ من تلك المفاهيم التي عرفت تشويها وتزويرا مفهوم الجهاد؛ حيث أصبحت الكتابات عن الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام ممسوخة ومحرفة، وستحاول هذه الدراسة قدر الإمكان إبراز مفهوم الجهاد ومدى التطور الذي طرأ على هذا المفهوم.
المبحث الأول: الأصل اللغوي لمفهوم الجهاد
يدور معنى الجهاد في اللغة حول المشقة وبذل الطاقة و التعب الذي يتولد عنه؛ ففي تاج العروس الجَهْدُ بالفتح: الطَّاقَةُ والوُسْع ويُضَمّ. والجَهْد بالفتح فقط: المَشَقَّة. قال ابن الأَثير: قد تكرَّرَ لفْظ الجَهْد والجُهْد في الحديث وهو بالفتح المَشقَّةَ وقيل: المُبالغةُ والغاية. وبالضّمّ : الوُسْع والطّاقَة فأَمّا في المَشقّة والغايةِ فالفتحُ لا غَيرُ.
و في المعجم الوسيط:ـَ جَهْداً: جدَّ. ويقال: جهَدَ في الأمر. وفي التنزيل العزيز: {وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}. وطلب حتَّى وصل إلى الغاية. و بلغ المشقَّة. و بفلان: امتحنه. و فلاناً: بلغ مشقَّتَه. و ألحَّ عليه في السُّؤال. والدابَّةَ: حمل عليها في السَّير فوق طاقتها .
قال الراغب الأصفهاني في كتابه ( المفردات في غريب القرآن )() :الجهاد والمجاهدة : استفراغ الوسع في مدافعة العدو.
من خلال هذه التعاريف نخلص إلى أن الجهاد في اللغة هو: بذل الجهد والوسع والطاقة.
المبحث الثاني: مفهوم الجهاد في القرآن الكريم
إذا نظرنا في كتاب الله تعالى نجد أن الجهاد ومشتقاته ذكر في القرآن الكريم حوالي 34 مرة مما يدل على أنه ابتكار قرآني بامتياز حتى قيل: إن مصطلح الجهاد هو مصطلح إسلامي خالص، حيث إنه لم يرد في كلام عرب الجاهلية، ولم يرد في لغات الناس غير لغة الإسلام.
إذا تتبعنا الآيات القرآنية التي ورد فيها لفظ الجهاد نجد أن هذا المصطلح له معان مختلفة باختلاف السياق الذي ورد فيه و يمكن إجمال هذه المعاني في ثلاث وهي:
الأول: بمعنى الجهاد بالقول، من ذلك قوله تعالى: ﴿ فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً﴾ الفرقان52 ، قال الطبري: جاهدهم بهذا القرآن جهادا كبيراً، حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله، ويدينوا به، ويذعنوا للعمل بجميعه. وهذا النوع من (الجهاد) يسمى الجهاد بالحجة والبرهان، وهو مقدم على الجهاد بالسيف والسنان.
الثاني: الجهاد بالقوة، من ذلك قوله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ﴾ (النساء:95)، فالمقصود بلفظ (الجهاد) في هذه الآية ونحوها جهاد الكفار في ساحات القتال، وهذا النوع من (الجهاد) يسمى الجهاد بالسيف والقتال.
الثالث: الجهاد بالعمل الصالح، من ذلك قوله سبحانه: ﴿ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾( العنكبوت:6)، قال ابن كثير: هذا كقوله: {من عمل صالحا فلنفسه} (فصلت:46)، أي: من عمل صالحاً، فإنما يعود نفع عمله على نفسه، فإن الله غني عن أفعال العباد. ونحو هذا، قوله عز وجل: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (العنكبوت:69). قال الشوكاني: جاهدوا في شأن الله لطلب مرضاته ورجاء ما عنده من الخير.
فإذا تتبعنا معظم آي القرآن الكريم التي تتحدث عن الجهاد نجد أنها لا تكاد تخرج عن هذه المعاني الثلاث: الجهاد بالقول، الجهاد بالقوة، الجهاد بالعمل الصالح.
المبحث الثالث: الجهاد في السنة النبوية
يحتل موضوع الجهاد في السنة النبوية حيزا مهما؛ وذلك راجع إلى أن المدونات الحديثية كبيرة وواسعة جدا بخلاف النصوص القرآنية المحدودة.
قسم الدكتور محمود محمد أحمد في كتابه تطور مفهوم الجهاد هذه الأحاديث إلى ثلاث مجالات وهي:
1) أحاديث ورد فيها مصطلح الجهاد عاما ((عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ .
2) أحاديث ذكرت بعض المصاديق غير القتالية للجهاد مثال ذلك، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الأَعْمَالِ، أَفَلا نُجَاهِدُ مَعَكَ ؟ فَقَالَ: ” لا، لَكِنْ أَفْضَلُ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ “وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: )جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ أَحَيٌّ وَالِدَاكَ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ( .
3) الأحاديث التي يراد بالجهاد فيها القتال فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم-: «تَضَمَّن الله لمن خرج في سبيله – لا يُخْرجه إلا جهاداً في سبيلي، وإيماناً بي، وتصديقاً برسُلي (1) – فهو عليَّ ضامن أنْ أدْخِلَهُ الجنة، أو أرْجِعَهُ إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفسُ محمد بيده، ما مِنْ كَلْم يُكلَمُ في سبيل الله، إلا جاء يومَ القيامةِ كهيئتِه حين كلم، لونُه لونُ دَم، ورِيحُهُ رِيحُ مِسك، والذي نفس محمد بيده، لولا أن يَشُقَّ على المسلمين ما قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيّة تغزو في سبيل الله أبداً، ولكنْ لا أجدُ سَعَة فأحملهم، ولا يجدون سَعَة، ويَشُقُّ عليهم أن يتخَلَّفوا عني، والذي نفس محمد بيده، لودِدْتُ أن أغزوَ في سبيل الله، فأُقْتَل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغْزُو فأقتل» هذا لفظ حديث مسلم. وأخرج البخاري الفصل الأول، قال: «تَكَفَّل الله لمن جاهد في سبيله – لا يُخْرِجُه مِنْ بيته إلا الجهادُ في سبيل الله وتصديقٌ بكلماته – أن يدخله الجنةَ، أو يَرُدَّهُ إلى مسكنه بِما نال من أجر أو غنيمة» .
المبحث الرابع: الجهاد عند الفقهاء
اختلف الفقهاء في تسمية كتب الجهاد من مسمٍّ لها ب:”كتاب السير” و هناك من يسميها :”كتاب الجهاد”، واختلفوا في ترتيبها أيضا منهم من جعلها في مقدمة الكتاب ومنهم من جعلها في آخر الكتاب، واختلفوا أيضا هل هي من العبادات أم من المعاملات، لكن الذي يهمنا هنا هو المعنى الذي أراده الفقهاء لمعنى الجهاد، ويكاد يجمع الفقهاء على تعريف الجهاد بمعنى واحد وهو: قتال الكفار.
فعرف في كتب الحنفيين بأنه: “بذل الوسع والطاقة، بالقتال في سبيل الله عز وجل، بالنفس والمال واللسان، أو غير ذلك، أو المبالغة في ذلك” [بدائع الصنائع (9/4299)]. وبأنه: “الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله” [حاشية رد المحتار لابن عابدين (4/121)، وراجع كتاب فتح القدير (5/436)].
وفي كتب المالكيين عرف بأنه: “قتال مسلم كافراً غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى” [الشرح الصغير على أقرب المسالك للدردير (2/267)].
وهو كذلك عند الشافعيين، كما قال الحافظ ابن حجر: “وشرعاً بذل الجهد في قتال الكفار” [فتح الباري (6/3)].
وفي كتب الحنبليين: “وشرعاً قتال الكفار” [مطالب أولي النهى (2/497)].
وقد قسّم الفقهاء الجهاد إلى قسمين وهما: جهاد الدفع وجهاد الطلب. والمقصود بالأول: دفع العدوان عن الأمة حين تتعرض له وهو واجب، وقد يتحول إلى فرض عين إذا لم تتحقق الكفاية من الجيش الموكول له واجب حماية البلاد والعباد من العدوان. أما المقصود من الثاني فهو المبادءة بغزو البلاد غير المسلمة بعد دعوتها إلى الإسلام، وتخييرها بين الإسلام أو الجزية أو القتال.
المبحث الخامس: الجهاد عند المتصوفة
أما المتصوفة فقد اختزلوا مفهوم الجهاد في مجاهدة النفس واستدعوا لذلك نصوصا من الكتاب والسنة، و يرون الجهاد الأكبر هو جهاد النفس أما جهاد الأعداء فليس بأمر ذي أهمية ؛ يقول محيي الدين ابن عربي، الذي عاصر الحروب الصليبية مع المسلمين، حين يقول في كتابه الوصايا: وعليك بالجهاد الأكبر، وهو جهادُ هواك، فإنك إذا جاهدتَ نفسك هذا الجهاد خلص لك الجهاد الآخر في الأعداء الذي إن قُتِلتَ فيه كنت من الشهداء الأحياء الذين عند ربهم يرزقون. واجهد أن ترمي بسهمٍ في سبيل الله واحذر إن لم تغزُ أن لا تحدِّث نفسك بالغزو.
ابن عربي قدّم الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس على الجهاد الأصغر الذي هو جهاد العدو، وفي هذا المثال كفاية.
المبحث السادس: الغاية من الجهاد بين القرآن والفقهاء
الغاية من الجهاد في القرآن الكريم : قال تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين نستخلص من الآية أن المقصد من الجهاد في القرآن الكريم هو: أن يكون الدين كله لله. أي إعلاء كلمة الله ( التوحيد) ونشرها.
أما الغاية من الجهاد عند الفقهاء فتتلخص في:
لخص السيد قطب الغاية من الجهاد في أمور وهي: إعزاز الدين وحماية البيضة و الذب عن الملة، قال سيد قطب رحمه الله:
– جاهد الإسلام أولا ليدفع عن المؤمنين الأذى والفتنة التي كانوا يسامونها; وليكفل لهم الأمن على أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم.
– وجاهد الإسلام ثانيا لتقرير حرية الدعوة – بعد تقرير حرية العقيدة –
– وجاهد الإسلام ثالثا ليقيم في الأرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه
خلاصة
رأينا فيما سبق أن الجهاد في القرآن الكريم هو بذل الجهد والوسع والطاقة، وقصر الفقهاء الجهاد على القتال والمتصوفة حصروا الجهاد في جهاد النفس، ويبقى الجهاد بالمفهوم القرآني هو الأشمل لجميع أنواع الجهاد، وهذا ما ذهب إليه العلماء في العصر الحديث حيث نظروا إلى الجهاد بمعناه الشمولي العام؛ يقول الدكتور محمد عمارة: “فبذل الوسع واستفراغ الطاقة والجهد في ميادين العلم والتعلم والتعليم هو جهاد؛ وبذل الوسع واستفراغ الطاقة والجهد في عمران الأرض نهوضاً بأمانة الاستخلاف الإلهي للإنسان هو جهاد؛ بل إن الرفق بالإنسان والحيوان والنبات والجماد -الطبيعة- هو جهاد؛ وكذلك البر والإحسان إلى الوالدين والأقربين وأولي الأرحام هو جهاد. كما أن الخشية لله ومراقبته وتقواه والتبتل إليه هي قمة من قمم الجهاد الذي فرضه الإسلام؛ والكلمة الصادقة جهاد” .
اترك رد