محمد منديل: باحث في العلوم الشرعية – جامعة ابن طفيل المغرب.
نظم مركز “مغارب” للدراسات في الاجتماع الإنساني الدورة الأولى لجامعته الصيفية بالرباط وذلك من 25 إلى 27 يوليو 2016م، وقد استهلت الجامعة أشغالها بجلسة افتتاحية ذكَّر فيها رئيس المركز بأهمية الموضوع المطروق على الصعيد الداخلي والتي تكمن في المخاطر التي تهدد وحدة الأمة بسبب تصدع أبنيتها السياسية والسيادية، أما على الصعيد العالمي فتتمثل في مفارقات العولمة التي بقدر ما قربت المسافات بين العالم زمانيا ومكانيا بقدر ما باعدت بينه ثقافيا وروحيا.
أمام هذا الوضع فإن تناول موضوع “تدبير الاختلاف وبناء الائتلاف” ـ حسب الدكتور مصطفى المرابط ـ يعتبر مغامرة لا يعصم من الزلل فيها إلا اعتماد صيغ التفاكر والتباحث بصيغة الجمع الذي تتقاطع فيه مختلف زوايا النظر وذلك هو رهان مركز “مغارب” بتنظيمه لهذه الجامعة واستدعائه لتخصصات متعددة ومقاربات متنوعة وتجاريب مختلفة.
وتوالت المحاضرات الافتتاحية للجامعة بكلمة الإعلامي وضاح خنفر الذي اعتبر أن الحالة التركية بعد فشل الانقلاب جسدت حالة للاصطدام بين القديم الذي تمثله المؤسسة العسكرية وغيرها من المؤسسات التقليدية والجديد (الذي صنعته الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي). وفي نظره فإن العالم يعيش طفرة غير مسبوقة من معالمها : الانتقال من التواصل الهرمي إلى التواصل الشبكي، وتغير علاقة الإنسان بالزمان والمكان وتغير مفهوم العلم بعد ظهور الفيزياء الكمية التي زعزعت الحتمية اليقينية التي بنى عليها العلم علاقته بالمادة مما جعل العلماء يتحدثون عن الاحتمال الأرجح بدل اليقين العلمي.
وعلى الصعيد العربي اعتبر المدير السابق لقناة الجزيرة أن اللحظة الراهنة مؤلمة حيث يسود القتل والفوضى …ولكنها لحظة غير مرشحة للاستمرار على اعتبار أن الإنسان وجد في هذه الحياة ليعيش.مقترحا جملة من الأمور الكفيلة بتجاوز هذا الوضع ومنها: إصلاح العلاقة بالتاريخ وتحرير العقل من الأحكام الصارمة والدعوة إلى المصالحة من الأخر. وإعطاء الفرد حق الاختلاف مع المجموع وحرية المجموع في الاختلاف مع أفراده.
أما المحاضرة الافتتاحية الثانية فكانت لخالد حاجي مدير منتدى بركسيل للحكمة والسلم العالمي الذي استعرض المراحل التي مر بها الفضاء الإسلامي في تعاطيه مع الاختلاف مبينا أن المرحلة الأولى كانت متسمة بالأثر الذي مارسه الدين في بناء الائتلاف مما جعل الاختلاف بين الأفراد والجماعات يقوم على وشائج روحية وإيمانية. أما المرحلة الثانية فتميزت بكثرة الاختلاف على مستوى الأفكار مما أدى إلى تطور ثقافة الاختلاف والتدافع … أما مرحلة العولمة فقد عرفت تغييرا في خارطة العالم بشكل جعلنا نتحدث عن تدبير الاختلاط وليس عن تدبير الاختلاف.إن تصفح هذه المراحل من التاريخ ـ يقول خالد حاجي ـ يبين أن الثقافة الإسلامية مثلها مثل كل الثقافات تتحكم بقدرتها على الانفتاح والانغلاق حسب سياقات الضعف والقوة.
وكانت المحاضرة الافتتاحية الثالثة لعبد الله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج الذي أشار إلى أن العالم يعيش صراع جهالات، بسبب عدم فهم بعضه لبعض مبينا الدور الايجابي الذي بإمكان الهجرة أن تلعبه باعتبارها عاملا مهما لإشاعة التعارف فلولا الهجرة ـ يقول بوصوف ـ لأصبح مصير العالم هو الاقتتال بطفرة اكبر مما هو مشاهد اليوم. فالهجرة ساهمت في التقارب بين الثقافات والشعوب والأديان والحضارات بنقل معاريف الآخرين إلينا والتعريف بمعارفنا لدى الآخرين.
وقد تواصلت أشغال الجامعة في اليوم الثاني والثالث بعقد ورشات تلتها مناقشات من طرف الحضور الذي كان مشكلا من فسيفساء من الباحثين من مختلف التخصصات والقادمين من دول مختلفة كتركيا والمانيا والجزائر …
وكانت البداية بورشة تطرقت لأسباب الاختلاف ومعالمه الكبرى أطرها كل من الدكتور سعيد الصديقي الباحث في العلاقات الدولية الذي استهل كلامه بان الخلافات الدولية عرفت تطورا كبير خلال العقود الأخيرة بشكل أصبحت معه خلافات معقدة ومركبة وقد رصد ستة مظاهر لهذه الخلافات التي لا تعدوا أن تكون ـ حسب قوله ـ إما صراعات على الأفكار كما هو شأن الصراعات الدينية والاثنية والإيديولوجية. أو صراعات على المصالح كما هو شأن الصراعات السياسية والاقتصادية والإقليمية الترابية.
وعلى صعيد تفسير هذه الخلافات الدولية واستشراف المستقبل فإن هناك ـ حسب الصديقي ـ تضاربا على مستوى النظريات المفسرة لذلك حيث نجد مجموع النظريات الواقعية المتميزة بإعلائها من شأن المصلحة الوطنية المحفزة لسلوك الدول واعتبارها الصراع عنصرا أصيلا في النظام العالمي وهناك مجموع النظريات الليبرالية القائمة على الإعلاء من شأن الأفكار والقيم.وفي نظر الصديقي فإن النظريات الواقعية بارعة في تفسير الواقع وفي التوقع المستقبلي إلى حد كبير لكنها لا تقترح الحلول بخلاف النظريات الليبرالية التي يمكن أن نلمس فيها بعض الأفكار التي يمكن أن تشجع صانع القرار على نهج سياسة قائمة على التعاون والتآلف. وختم بالتنبيه على أن طبيعة الصراعات الدولية الجديدة تقتضي التفكير في صيغ جديدة تتجاوز الصيغ التقليدية لحل هذه الخلافات.
أما الأستاذ الباحث في الفلسفة إبراهيم بورشاشن فقد ركز في مداخلته على مسألة “شكر المنعم” وأثرها في بناء الائتلاف مبينا أن الاختلاف بين الناس في كثير من الأحيان مرده إلى عدم اعتراف الكثير من الناس لمن يستحق الشكر والثناء .وبين في هذا السياق أن لفظ الشكر مفهوم أصولي له ارتباط بعلم الكلام اختلفت بشأنه الفرق الإسلامية كالمعتزلة والأشاعرة وعرض في القسم الثاني من محاضرته لتطبيقات المسألة عند الكندي وابن رشد. ليختم ببيان أهمية قيمة شكر في بناء الاختلاف وبناء الائتلاف في كونها تؤدي غالى إدامة الود بين الناس وإشاعة قيم التعارف والاعتراف وقبول الاختلاف بين البشر.
وبعد مناقشة أفكار هذه الورشة انطلقت الورشة الثانية إلى مناقشة كيفية تدبير الاختلاف وأطرها الدكتور حمو النقاري الذي ضمن كلمته جملة من المنطلقات التي ينبغي أن ينطلق منها حين النظر في قضية الاختلاف وهما: المنطلق اللغوي بشقيه العربي والأعجمي والمنطلق العقدي: الذي يؤول إلى بيان جدوى علمين أساسين هما علم أصول الفقه وعلم أصول الدين.
فقبل الخوض في قضية الاختلاف في أفق تدبيره أو رفعه أو التقليل من شأنه كيفما كان المجال الذي يقع فيه فإن الأمر يقتضي ـ حسب قوله ـ جملة من المنطلقات تكون متناسقة مع منطلقاتنا الخاصة اللغوية منها والعقدية وهذا ما لا يمكن تصوره إلا بإعادة الاعتبار للغة العربية انطلاقا من مصادرها الأساس والرجوع إلى علمي أصول الدين وأصول الفقه.
وجاءت المداخلة الثانية للدكتور مصطفى المرابط الذي ركز على نقطتين تتمثل الأولى في كون الواقع العربي المعاصر يشهد أوضاعا كارثية لولا العزيمة ليئس الإنسان من إصلاحها لكن التاريخ يعلمنا ـ كما يقول ـ أنه حيث تشتد الأزمة يقترب الفرج فالحلول لا تبحث في المناطق الرمادية وإنما في الدراجات القصوى للتأزم.
أما النقطة الثانية: فهي أن المجتمعات العربية والإسلامية تقدم نموذجا خاصا في التاريخ حيث تراكمت في منطقتها من الناحية التاريخية عناصر ترشحها لكي تكون بوابة لنظام عالم جديد وبالتالي يجب الإصغاء الدقيق إلى ما يحدث في المنطقة العربية.
وختم بالقول بان تخصيص موضوع تدبير الاختلاف بالبحث جاء في سياق لفت النظر إلى أن ما تعيشه المنطقة قد يبدوا مأزوما ومعقدا ولكنه يعتبر فرصة تاريخية لبناء شيء جديد إذا تم الوعي بأن الاختلاف طبيعة ملازمة للاجتماع الإنساني وأن التنميط والتأحيد هو سلوك ثقافي تتم ممارسته بشكل قسري من مركزية معينة تعتقد أنها تنفرد بامتلاك الحقيقة.
وقد انصب اهتمام الورشة الثالثة حول “تدبير الاختلاف في التجربة الإسلامية” وأطرها الدكتورعبد الحميد العلمي الأستاذ السابق بدار الحديث الحسنية الذي عرض لبعض القواعد الخلافية التي تم بحتها وتحقيقها في المنظومة التشريعية الإسلامية منها: حسم الخلاف ومراعاة الخلاف وتجنب الخلاف والخروج من الخلاف مبينا معنى كل قاعة وذكرا لبعض صورها الفقهية.كما أشار إلى بعض المبادئ العامة والقيم الإسلامية الكبرى التي تحتاج إلى استثمارها للتواصل مع الآخر ومنها: مبدأ الأخوة الإنسانية ومبدأ احترام الجار…
أما الدكتور إلياس بلكا فقد كانت مداخلته منصبة على الإجابة عن سؤال تدبير الاختلاف في الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي مشيرا إلى العوامل المساعدة على حسن تدبير الاختلاف وهي: قوة الفكرة الإسلامية وازدهار الحضارة الإسلامية والدور الايجابي الذي ساهم به العالم وأخيرا دور الحاكم المسلم الذي كان صاحب رؤية شمولية للإصلاح أفضت إلى حسن تدبير الاختلاف.وختم ببيان بعض العوامل المشجعة على الاختلاف ومنها: ضعف الفقه السياسي الإسلامي والانفراد بالسلطة أو المال والظلم والنزعة الشعوبية والعوام
وفي الفترة المسائية لليوم الثاني تم تنظيم ندوة عامة أطرها الدكتور عبد الإله بلقزيز الذي كانت مداخلته عبارة عن مطالعة عامة حول المبادئ والأسس التي يمكن أن يقوم عليها الجمع الخلاق بين فكرة الاختلاف وفكرة الائتلاف.وذلك من خلال رؤية مساحات الاشتراك بين الخطابات الفكرية والسياسية العربية المعاصرة مسجلا من خلال نظره في مسار تيارات الوعي العربي المعاصر أمرين: الأول يتمثل في إحجام دارسي التيارات الفكرية العربية المعاصرة عن الانتقال من مرحلة تشخيص وتصنيف هذه التيارات إلى مرحلة التركيب بينها. والأمر الثاني هو منطق الإقصاء الذي يتحكم في علاقة هذه التيارات بعضها ببعض حيث يجب كل تيار ما قبله.
إن تأمل هاذين الأمرين ـ يقول بلقزيز ـ يدفع إلى الإدراك بأن الأوان قد حان للخروج من هذه المضاربة الإيديولوجية المفتوحة بين تيارات الوعي العربي المعاصر لأنها عقيمة و لم تحقق شيئا في التاريخ، وبالتالي فالحاجة ماسة إلى تشييد خطاب تاريخي تركيبي يجمع كل هذه التيارات.
أما المحلل السياسي والاستراتجي الدكتور منير شفيق فقد بدأ كلامه بالقول بأنه إذا كان الاختلاف قانونا عاما فإنه يجب التمييز بين أنواعه المتعددة وإدراك انه لا يوجد اختلاف بعينه يحمل دواء واحدا لكل الحالات. فهناك تناقضات لا تحل إلا بالقوة والسلاح (حالة الكيان الصهيوني وحالات الجماعات الإرهابية التي ترفع السلاح….). كما أن أي حديث عن الاختلاف وتدبيره في ظرف اجتماعي معين يقتضي أخذ ميزان القوى بعين الاعتبار.
وفي اليوم الثالث للجامعة كانت البداية مع الورشة الاستشرافية التي خرجت بخلاصات منها: ضرورة اعتماد آلية التشاور المكثف المبني على منهج عابر للتخصصات وتجاوز التفكير الآني والنظر البسيط المبني على استسهال الأمور إلى النظر المركب المبني على النظر في المآلات. واستعرض الأستاذ ميمون بريسون رئيس جمعية 180 درجة تجربته العملية في ألمانيا منبها إلى افتقاد مؤسسات الجالية لرؤية مستقبلية لتدبير الاختلاف في عالم يزادد اختلاطا بين مختلف الأجناس والأديان… داعيا إلى تبني رؤية وخطة عملية للتعايش ومحاربة التطرف.أما فؤاد الربع رئيس مركز الشرق فقد انصبت مداخلته حول بعض الأدوار التي بإمكان المراكز البحثية أن تلعبها لبناء المشترك الإنساني ومنها: دعم آفاق الحوار بين الباحثين لبناء تصور جمعي حول الظواهر المجتمعية لبناء مشترك إنساني قوامه احترام الآخر من خلال احترام مواقفه وآرائه. وربط جسور التواصل بين مختلف المراكز على المستوى الوطني والمحلي.
وختمت الجامعة أعمالها بندوة مفتوحة استعرضت بعض التجاريب الحديثة في تدبير الاختلاف ومنها تجربة مدونة الأسرة بالمغرب التي تحدث بشأنها الدكتور أحمد الخمليشي (مدير دار الحديث الحسنية) مبينا بعض الأمور المؤثرة ـ في تقديره ـ على هذا موضوع ومنها أن تدبير الاختلاف وبناء الائتلاف يكون قابلا للتطبيق إذا كان الاختلاف موضوعه الرأي النسبي الذي يترواح بين الخطأ والصواب أما إذا كان الاختلاف بشأن الحكم الإلهي كما هو الحال في المجتمعات الإسلامية فإنه يستحيل ـ حسب رأيه ـ الحديث عن أي تدبير ما لم نغير اعتقادنا بمفهوم الرأي النسبي والحكم الإلهي وقصرنا هذا الأخير على ما هو قطعي وما عداه فهو مجال للرأي الذي يحتمل الخطأ والصواب.
أما الدكتور منير شفيق فتحدث عن تجربة المؤتمر القومي الإسلامي ـ باعتباره منسقا سابقا للمؤتمر ـ مشيرا إلى أن الخلاف والاتفاق مسائل مرهونة بميزان القوى والظروف السائدة فالصراع الحاصل بين الإسلامين والقومين في الخمسينيات حسب رأيه راجع ليس فقط إلى اختلاف المرجعيات وإنما مرده إلى موازين القوى السائدة حينها وكذلك التقارب الحاصل بين الفريقين في أواخر الثامينيات وبدابة التسعينيات يعود إلى التحدي الذي شكله نظام القطبية الأحادية في العالم على الإسلاميين والقوميين مما جعلهم يستشعرون الحاجة إلى التوافق والتعاون الذي أفضى إلى تشكيل المؤتمر القومي الإسلامي.
أما محمد المحيفظي الخبير السابق بهيئة الإنصاف والمصالحة فقد جاءت مداخلته لتلقي الضوء على هيئة الإنصاف والمصالحة باعتبارها تجربة لتدبير الاختلاف في لحظة تاريخية معينة، مبينا في ثنايا كلامه أن هذه التجربة تدخل ضمن ما يسمى بتجارب العدالة الانتقالية التي تلجأ إليها المجتمعات عندما تمر بمرحلة تاريخية جديدة تريد فيها بناء مستقبل مشترك لكنها تجد نفسها تجر ورائها ماضي أليم من الانتهاكات وقد استعرض العناصر التي يجب استيفاؤها في أي تجربة حتى تكون مكتملة وهي: الكشف عن الحقيقة وجبر الأضرار والقيام بإصلاحات شاملة تحول دون تكرار ما حدث في المستقبل وأخيرا محاسبة مرتكبي الانتهاكات وقد نبه إلى أن التركيز على عنصر من هذه العناصر لوحده أو تغليبه قد يؤول إلى تأجيج الصراع عوض أن يكون ضمانة لتأمين العيش المشترك والائتلاف مستقبلا ومثال ذلك اختصار الأمر في التعويضات المادية للمتضررين الذي قد ينظر إليه على انه إضافة إهانة إلى الإهانات السابقة.
وفي ختام أشغال الجامعة أكد البيان الختامي على أن اختيار موضوع الجامعة أمله واقع الأمة العربية الإسلامية الأليم الذي بلغ فيه العجز عن تدبير الاختلاف منتهاه مذكرا بالحاجة الملحة إلى وعي جديد للخروج من واقع التفرقة المشلة نحو أفق ثقافي أرحب ومن توصيات الجامعة: إخراج أشغالها في كتاب جماعي ونشره في اقرب وقت. وإقرار الجامعة كحدث سنوي. وتنظيم دورات علمية في نفس الموضوع.ودعوة الفاعلين المدنيين والسياسين إلى صياغة مثاق أخلاقي حول موضوع الائتلاف.
اترك رد