الضيف: الأستاذ الدكتور محمد نجيب بوطالب أستاذ علم الاجتماع والأنتربولوجيا بجامعتي الملك سعود وتونس
إعداد: عادل ضباغ – نجاة ذويب
س1:بداية، لعل من الموافقات أن تحاور شبكة ضياء أستاذا في علم الاجتماع من تونس بلد ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع. هل لك سيدي أن تحدثنا عما يمثله علم الاجتماع في تونس وفي العالم العربي كافة ؟
ج1–لا أخفيكم أنني أومن بالعلامات وبالرموز، وكيف أكون إنسانا بلا رموز وبلا علامات ؟، وابن خلدون أحد أهم علاماتي، أصور أمام تمثاله بشارع بورقيبة، أدرس المقدمة وأجعل من العلامة طرفا هاما في دروسي وفي كتبي، أحاول أن أستلهم بعض أقواله وعباراته السابقة عن عصره. ليس إيمانا بنبوة ابن خلدون ولا ادعاء بأنه سباق في اكتشاف علوم الإنسان (السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا)، بل تأكيدا على أن الذكاء العالمي ليس مقصورا على العيون الزرقاء، ففي السوداء ذكاء وإبداع وفطنة. . .
وعودا على بدء، فالعلامات هي التي تصنع لنا مشاريع للاستنهاض، وهذا ما فعله أساتذتي الذين تأثرتبهم ولازلت أعتز بهم من أمثال الجابري واليافي والتيزيني وصادق العظم وغيرهم. هؤلاء أساتذتي المباشرون وهناك أساتذة آخرون لم أدرس على أيديهم وهم كثر، يخترقون تاريخنا ولا يزالون يشعون علي في زمن النكران وتحطيم الرموز وغير ذلك من علامات الانهزامية الحضارية: ابن الورد وطرفة وعنترة وحسان والجاحظ والمعري والحلاج وعلي صاحب الزنج وابن رشد وصلاح الدين والمتنبي، وصولا إلى الأمير عبد القادر والخطابي فالشابي والجواهري… وصولا إلى زعماء التحرير.
عودا إلى سؤالكم. أنتم ذكرتم الموافقات وأنا أشير إلى المفارقات: فعلى الرغممن ابن خلدون فإن علم الاجتماع لم يتطور في تونس بما هومتوقع له، مادام يمكنه الاستناد إلى هذا الهرم في الإنسانيات، مقارنة بالمغرب ومصر والسودان وبلاد الشام والعراق، كان نمو هذه العلوم بطيئا في الخضراء.
ولعل الظرف لا يسمح بذكر الأسباب التي يمكن إيجازها في ثقل الاغتراب وعدم النشأة الحديثة نشأة حرة وأصيلة، وتعلمون أن علم الاجتماع الحديث في المنطقة وخاصة بتونس والجزائر نشأ في أحضان المدرسة الفرنكفونية، ولعلها كانت مرحلة نشيطة وثرية بالرغم من الخلفيات اللاموضوعية في الكتابات والخطابات.
س2: علما الاجتماع والأنتروبولوجيا من العلوم الإنسانيّة، ما هو دورهما في تطوير الأمم؟ وما مدى أهميّتهما إذا قارناهما بالعلوم التجريبيّة؟
ج2– لتسمحوا لي أن ألحق الشق الثاني من سؤالكم بالسؤال الثاني. قد يكون من غير المناسب التدليل هنا على مدى أهمية العلوم الإنسانية عامة، وعلمي الاجتماع والانتربولوجيا خاصة،بالنسبة لتطور الأمم، فالدلائل متوفرة في مقدمات الكتب المؤلفة في هذه الحقول المعرفية. ومع ذلك يمكن الإشارة إلى بعض المؤشرات،كحظوة هذين العلمين لدى الأمم المتقدمة: لننظر إلى عدد الجامعات ومراكز البحث والمطابع، التي تضم أعدادا مؤلفة من الباحثين والأساتذة والطلاب، لنرى عدد وتخصصات الخبراء المتفرعة، وهي حظوة مادية ومعنوية. ألا يدل ذلك على ازدياد الحاجة إلى هؤلاء في التنمية بكل فروعها؟
من المؤكد أن الدول والمجتمعات والمؤسسات في العالم الرأسمالي تعتمد عقلانية لا تؤمن بالمجاملة، فإذا احتاجت إلى تخصصات معينة حافظت عليها ودعمتها. زد على ذلك ثمة في سياق العولمة اليوم إحساس لدى العقلاء بأن العالم والإنسان مهدد بالتشييء والتبضيع وفقدان بوصلة الإبداع وقيمة العمل وجدوى الحياة ومعناها.
لذلك سارعت هذه المجتمعات إلى إيلاء الإنسانيات دورا مميزا في حل مشكلات النمووالتنمية. المقارنة مع العلوم الصحيحة نوقشت منذ القرن التاسع عشر، وبيان أهمية إحداهما لا يعني إبطال الأخرى، البشرية في حاجة إلى كل العلوم، لكن ثمة عقدة من ضعف إنتاجية العلوم الإنسانية مقارنة بإنتاجية العلوم المسماة تجريبية أوصحيحة. القياس لا يتم بهذا الشكل بل وفق معادلات ومقاربات كيفية لا كمية.
س3: أين نحن في العالم العربي من علم الأنتروبولوجيا؟
ج3– الأنتربولوجيا أمامنا ووراءنا بالمعنى الكرونولوجي، أي وفق القياس الزمني، والأمر به رمزية كبيرة. فهذا العلم بما هو علم للإنسان يدرس بناه الاجتماعية والثقافية في ماضيها وفي أصولها، يلازم حميميات المجتمعات والثقافات، يفسر ويؤول الممارسات والسلوكات ويرصد أشكال البناء والعلاقات، وهوكذلك علم يساعد في فهم حركة تطور المجتمعات وثقافاتها، ومن المفارقات أن بعض الناس يدعون أنه يمكن العيش بدون ثقافة وبدون رموز وفي ذلك وهم كبير حتى لدى بعض المتثقفين الذين لا يؤمنون بدور الثقافة. هذا الصنف من البشر خطير وهوصناعة العولمة البشعة ونتيجتها، هوكائن مصنع ومعلب لا طعم له ولا لون ولا رائحة، ولكنه قابل للاستغلال بفقدانه التدريجي للهوية.
ومن الناسمن يحاصر العلوم في أحكام متسرعة ويختزلها في صور نمطية، والحال أن الأنتربولوجيا تطورت كثيرا وأصبح من فروعها الأساسية الانتربولوجيا الطبيعية والفزيولوجية، التي لها علاقة وطيدة بمساعدة العلوم الطبية وغيرها. البعض الآخر لا يزال يربط بين الانتربولوجيا وكذا علم الاجتماع وما بين المرحلة الاستعمارية، فغدا التخصص مريبا وممارسوه متهمون بالتجسس والاستعمار.هذا الأمر ينطبق أيضا على علوم الاستشراق الذي أضر به نمط ” مستشرق برميل النفط” كما يقول المستشرق الأمريكي فرانسوا دي بلوا، أوكما يقول ادوارد سعيد: “المستشرق الذي كان يجري أمام العسكري المستعمر حاملا مشعل المعرفة “.
مشكلتنا في ثقافتنا العربية اليوم قصر الذاكرة والتسرع في الحكم وضيق آفاق النظر والسبب شح في المعارف وصد عنها وهيمنة النماذج الثقافية النمطية وضعف التنسيب بسبب ضعف النزعة العقلانية، والتربية على ممارسة الثأر.
وإذا ما عدنا إلى عقال السؤال يمكننا القول إن وضعية الانتربولوجيا في عالمنا العربي في تراجع وانكفاء في الوقت الذي تستمر مؤسسات نشاط وإعادة إنتاج هذا التخصص في الغرب في العمل. أين نحن اليوم من أعمال ايفانز برتشارد حول مصر والسودان وليبيا وأعمال محي الدين صابر وغيرهما من المصريين والعراقيين ممن يضيق المجال عن ذكر أسمائهم من أجيال النصف الأول من القرن العشرين، أين نحن من أعمال جاك بيرك ومونتاني وجلنر وهارت وواتربري وغيرتز وحمودي وهوبكنز وديفينيو وباسكون وبورديو، وهما جيلان لا يكاد المنتمون إليهما يتمايزون سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا. المشكلة تكمن في عدم وجود مؤسسات تحمي هذا التخصص لا جمعيات ولا مجلات ولا مراكز بحث تحقق التواصل !
س4:كيف تقيّمون المكانة التي ينالها هذا العلم اليوم في البرامج التدريسيّة في الجامعة العربيّة عامّة والتونسيّة خاصة؟
ج4–بالرغم من كوني ميالاإلى الجمع بين التخصصين فكلاهما يكمل الآخر ولا يمكن لواحد منهما الاشتغال بمفرده، وهذا ما يجده القارئ في منهج كتابي الأخير حول قريتي “الصمار” دراسة سوسيوانتربولوجية، فيها المقاربتان متوازيتان، فالثقافي والاجتماعي متلازمان ومستويات التحليل واحدة: تحليل البنى الاجتماعية والثقافية في علاقة تكتنفها حدثية التاريخ المنفتح على الماضي والمتضمن في ممارسات الحاضر.هكذا أرى الأشياء وقدمكنني هذا التمشي من بناء ذاكرة للقرية أوكتابة تاريخها قبل فوات الأوان.
وهنا تحضرني مسؤولية المثقف والباحث في محيطه الحميمي، عليه أن لا ينتظر باحثا قد لا يأتي، عليه المغامرة بنوايا حسنة طبعا، بالرغم من أني واثق بأني ألفت هذا الكتاب بحميمية لا استغناء عنها، ولكنها مع ذلك مفيدة وقد أسعدت جل الأهالي.أحدى مهام الأنثروبولوجيا المعاصرة تكمن في تحرير الكاتب الاجتماعي من قيود علم التاريخ بخاصة.
ويكفينا للاستدلال على ذلك بما تمكن من إنجازه الهواة وكتاب التاريخ المحلي كم من أبحاث محترمة أفادت الباحثين ورممت الذاكرة المبعثرة وخففت من أعباء الكتاب اللاحقين وخاصة منهم الأكاديميونعلى الرغم من أن أصحاب تلك الأبحاث ليسوا جامعيين.
لا أرغب في وضع خطاطة تقيم التعليم الجامعي فهذا على أهميته شيء مؤجل إلى سياقات أخرى ولي فيه ما أقول بعد تجربة تفوق الثلاثة عقود. ومع ذلك -وبشكل سريع وخاطف- يمكنني القول إن مكانة الأنثروبولوجيا متدنية في الجامعات العربية ويكاد طلاب الدراسات الاجتماعية لا يعرفون مضامين ومناهج هذا التخصص.
فأغلب الجامعات العربية تخلصت من هذا التخصص بعد إحالة الأساتذة القدامى والمؤسسين على التقاعد، فقد أحيلت الأنثروبولوجيا-هي أيضا- على المعاش كما هوالحال بالنسبة للفلسفة والاقتصاد في عديد الدول العربية، التي لا نكاد نعثر بها على فعاليات متميزة في الإنسانيات (أقصد في أقسام علم الاجتماع والخدمة)، تبدو زحمة المواد و”مواكبات العصر وتسوياته” قد فرضت ذلك، ولكن الجميع يتفقون على أن حصيلة الطلاب من العلوم التي يتخصصون فيها ضئيلة وضعيفة جدا، وهم غير قادرين على الإصلاح والتدارك!.
س5: ما هي الآفاق التي يفتحها البحث الأنتروبولوجي في العلوم الإنسانيّة؟
ج5- عديدة هي الآفاق التي يمكن أن يضيفها هذا العلم لوتم توظيفه بشكل مركزومخطط له. لكن حصيلة الوعي به تبقي متواضعة ولذلك تضل الجهود المبذولة فردية ومتفرقة وتحتاج إلى التأسيس.أول هذه الفوائد المنتظرة هي الإسهام في التعريف بالمجتمعات وفهمها من أجل حسن التخطيط لها ولمواردها، فالانتربولوجيا قادرة على الإسهامفي بناء الهويات التي لا تزال تشكومن فقدان الذاكرة ونقص التحليل.وما يبدومن صعوبات تصل حد المرض في تفاعلات الشخصية الفردية والجماعية في مجتمعاتنا سببه ضعف المعرفة بالذاتية الاجتماعية وعدم فهم كيفية تطورها.
أعطيكم مثالا معبرا : تفسير التوترات بين الفرق الرياضية المتجاورة في المدن والجهات في تونس نجد ما يفسره في التاريخ الاجتماعي من صراعات قديمة كانت تتم بين الصفوف خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بين الباشية والحسينية وظاهرة الاصطفاف والانقسام بين القبائل والقرى والأحياء. وقد تفنن في شرح هذا الانقسام بعض أنتروبولوجيي المدرسة الانقسامية.لكن دون ربط بالحاضر طبعا.
هنا تبرز الحاجة إلى علم الاجتماع مقرونا بالانتروبولوجيا لتفسير أسباب وخلفيات بعض التفاعلات والصراعات. كما أن عالم الاجتماع الجاهل بتاريخ المجتمع وتاريخيته يبقى عاجزا عن تفسير ظواهر مجتمعه وفهم حركياته الأفقية والعمودية.لذلك أنا من الذين يصرون على تسليح طلاب السوسيولوجيا بالتاريخ.
إذا لم تكن عارفا بالتاريخ لا يمكنك الإجابة عن سؤال: لماذا يركض (يلهد) فرسان الجنوب الشرقي (ورغمة ) باتجاه القبلة ولا يقدمون عروض فروسيتهم باتجاه الغرب؟ المتسرعون في التفسير قدموا مبررات دينية غير دقيقة والحال أن المسألة مرتبطة باستبطان لتاريخ الغزو مع القبائل الليبية من الصيعان والنوايل المجاورتين لورغمة.
إن معرفة الباحث لهذه الوقائع أهم وأفضل ألف مرة من مجرد معرفته بـ”علمائنا” ولنظريات ومفاهيم صيغت في أطر ومواضع خارجية،وليست ذات صلة وثيقة بمجتمع الباحث، وهذا حال الكثيرين من المتأوربين والمتأمركين. نحن نؤمن بتحقيق التوازن بين معارف الآخر ومعارف الذات، نعم يجب أن لانهمل معارف أجدادنا ورعاتنا وفلاحينا.
من “علمائنا” من يتخصصون في الأرياف وفي التاريخ والثقافة المحليين وبعضهم لا يعرفون حقيقة مجتمعاتهم (بعضهم يتخصص في علم الاجتماع الريفي ولا يعرف الريف ومنهم من يتخصص في الأنتربولوجيا ولا يعرف واقع القبيلة اليوم، ويكتفون بالمصادقة على أحكام أطلقها أساتذتهم من مكاتبهم عن بعد، وفي استعلاء، يحتكرون المعرفة وسلطتها في كثير من الصلف والادعاء (يفتحون مظلاتهم المثقوبة عندما تنزل الأمطار في الآلب ويغلقونها حينما يسيل وادي فسي أووادي العكاريت).
س6: ما هي -في نظركم- الرهانات الابستيمولوجية لباحث علم الاجتماع في الوطن العربي؟
ج6- الرهانات الابستمولوجية لعالم الاجتماع تبدوعصية هنا لأن عالم الاجتماع يكاد يختفي من لوحة تصنيفنا لعالم الاجتماع العلمي الملتزم الموضوعي، أوبمعنى أصح “المثال ” و” النموذج “. الرهان المعرفي أساسا مرتبط بطبيعة التكوين، فنحن معشر علماء الاجتماع العرب، ومن خلال ما راج منذ أواخر الثمانينات (تأسيس الجمعية العربية لعلم الاجتماع بتونس) ومن خلال الخطاب المتضمن في ما نشرته الجمعية ومركز العرب الأول والباقي من زخم التاريخ القريب والحامل لهموم من كانوا شبابا:”مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت”،ومجلته الصامدة “المستقبل العربي”، لا نزال نحمل هما معرفيا يلوح بالمطالبة بمعرفة علمية موضوعية،ولكنها مرتبطة من حيث التوظيف بالواقع العربي إشكاليات وموضوعات وتطبيقات.
هذا لا يكاد يتوفر اليوم فعلماء الاجتماع العرب يغيرون مواقعهم بسرعة، يبدوأنهم مزاجيون وباحثون عن الأنا والذات بالمعنى المصرفي.حتى المشاريع المشتركة توقفت وعمل الجمعية وتفرعاتها بات محتشما أوباهتا.ولا تواصل حقيقي بين المشرق والمغرب بعد النضالات الثقافية التي قادها الطاهر لبيب وجماعته، رحمة الله على الكثير ممن توفاه الله وأبقى الباقين منهم، بمن في ذلك أجيال ملتقيات أجيال علماء الاجتماع العرب الذين أشرفوا على الشيخوخة هم أيضا ، مشاريع المثقفين تتوقف بمجرد دخولهم مرحلة التقاعد. والبحث عن الزعامات مشكل آخر، لعله ينطبق على مختلف أصناف المثقفين العرب.
ولا شك أن للمرحلةدورها وبصماتها في وأد المشاريع العربية المجمعة، والحال أن ما نراه يدلل ببصمة العشرة على أننا أمة واقفة مهما صبوا عليها من حميم ومهما نهشوا منها (كما عبر ذات يوم الشاعر المشاغب مظفر النواب).
ثمة ما يفسر هذه الأزمة التي يعيشها الباحث الاجتماعي العربي من الناحية المعرفية. لعل عبارة أحد الشعراء العرب القدامى تكون معبرة هنا:”أبيع الشعر في سوق الكساد”.إن الباحث يعيش وضعية كساء فلا يجد مجلات تنشر بحثه ولا يكافأ على ذلك، حتى الجوائز” فيها واو”.
الأبواب موصدة في أغلب الأقطار ولم تزد الأوضاع الجديدة الحال سوى بلات. من المفارقات أن الزملاء في الاختصاص يشاركون في هذه الجريمة بوعي أوبدون وعي :فالكثيرون منهم يعطلون زملاءهم وطلابهم في عمليات الترقية والمناقشات والمشاركة في الندوات والأبحاث، هذا أمر ملموس في أغلب البلاد العربية.
أنا شخصيا لمست هذا في بلدي وممن كنت قد “أنقذتهم علميا وإداريا “. نعم، لم يحافظوا على طلابي من بعدي، نكل البعض منهم بهم، المسألة تتحول أحيانا إلى النكران وإلى اللامبالاة بل إلى فقدان الأخلاق. مشكلة المثقف العربي أن فئة تحكمه وتقوده بذاكرة نساية (كما يقول جورج نامر) وتتنكر لماضيها القريب بمجرد حصولها على منفعة تلبس قبعة الحاكم الجديد وتجرد سيوف الثأر، ناسية أنها كانت تأكل ببيتي وتنتظر خدمة أمام مكتبي، وهي تنكر وجود القبائل بعد ملء بطونها من ذبائحها. هذا الكلام سيفهمه من عليهم الريش ، كما نقول في المثل التونسي، أما الأبرياء فهم كثر ومساكين ما يزالون ينتظرون منة من حراس النفاق العلمي في الجامعات وحملة أوهام السلطة العلمية التي لا تختلف عن أوهام سلطة البوليس الظالم في أي موقع من العالم. كان بعض الاصدقاء يسالونني خلال اجازتي الصيفية عن فلان وفلان ممن كانوا يرافقونني في الندوات الثقافي في الجهات وقد احتلوا الفضائيات، لماذا فلان بهذا الشكل؟ أقول انها “الحضرة “، يتخمر حاضرها فيرمي الجمر على الجميع حتى أباه ان كان موجودا.
يبقى الأمل قائما في تفتت السلطة العلمية الوهمية من أيدي محتكريها الجدد، بل يذهب الأمل لدى بعض الأوساط النقدية إلى انتظار خوصصة للبحث والتعليم قد لا تأتي قريبا.المشكل أن الطلب على الدراسات والأبحاث في ازدياد عربيا ولكن المشكل يكمن في أن الدول والمؤسسات لا تزال تفقد الثقة في الإنتاج وفي الخبرة المحلية فتستمر في اعتماد الخبراء الأجانب وترصد لهم أموالا طائلة.يحدث ذلك والأزمات في تزايد والمشكلات الاجتماعية والظواهر في تفاقم.
ويبقى الأمل معقودا في الأجيال الجديدة التي تحمل هموم مجتمعاتها وأمتها، وهذا رهن الخروج من مرحلة ضياع أعداد كثيرة من الشباب العربي من التبعية الايديولوجية والثقافية للتنظيمات المتطرفة، وهوأيضا رهين القيام بإصلاحات فكرية وثقافية وتربوية في مختلف منظومات التنشئة.إن المراهنة على العلم وعلى الثقافة العلمية والوعي العقلاني ونشر قيم الحرية والتسامح هي الطريق إلى النهضة بما في ذلك النهضة السوسيولوجية.
أنهي الإجابة بالقول : إن علم الاجتماع وأهله يعيشان أزمة، كان ألفن جولدر منذ سبعينيات القرن العشرين يسميها ب” الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي “( ( the caming crisis of western sociology وكان آنذاك يتنبأ بانهيار بعض النظريات بما في ذلك الاتجاهات الوظيفية. بالرغم من أن البعض أسرع باستعمال ” الجديدة ” و” البعد” و” النيو” للخروجمن هذه الأزمات. وعلى كل حال فالسؤال قد لا يعنينا الآن ما دمنا لم نؤسس بعد ولم نعمل بما فيه الكفاية بعد.
س7: تسعى شبكة ضياء للمؤتمرات والدراسات إلى التغطية الإعلامية الأكاديمية والعلمية في العالمين العربي والإسلامي، كيف يمكنكم تقييم هذه التجربة الإعلامية؟
ج7–سؤالكم الأخير موقعه هام وبيداغوجي، وذلك حتى لا ننهي اللقاء بالتشاؤم. فشبكة ضياء، مثل غيرها من الشبكات والمبادرات الجادة، هي ضياء في حد ذاتها، لا أريد أن أحدد المكان بنفق، ولكن لعله مشغل أومعمل منتج وواعد في مجال البحث عن المعرفة ونشرها وترسيخ العقلية الحاضنة لها، شريطة أن تتضمن أسئلتكم مضمونا إشكاليا حتى تعطي للحوار عمقا أكثر ( هذا ما أطلبه من طلابي في العادة وأنتم أبنائي لذلك تقديرا لكم ولشبكتكم أقول لكم ذلك ). هذا أمر مهم جدا لأنه يمثل البداية الصحيحة والتأسيس المتين في عالمنا العربي والاسلامي.
اعذروني لعدم قدرتي على تقييم التجربة فهذا يتطلب جهدا إضافيا وانتظارا ومراقبة. وأنا لم أقم بذلك، فالتحكيم لدينا معشر الأكاديميين مسؤولية صعبة حتى نبقى في إطار الوظيفة المناطة بنا. ومع كل ذلك فأنا أشد على أيديكم داعيا لكم بالتوفيق والنجاح.
اترك رد