بقلم: د. مجدي عزالدين
أستاذ الفلسفة بجامعة النيلين
نشأة مصطلح التأويل وتطوره:
مع الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته، بدا التأويل كوسيلة من وسائل الكشف عن المعنى، وظل مرادفا للتفسير الذي يتناول كتاب الله وسنة رسوله بالشرح والفهم. والجدير بالملاحظة هنا إن وظيفة التأويل آنذاك كانت مرتبطة بشرح وتوضيح ما غُمض من معنى، أما ما كان واضح المعنى والدلالة فلم يكن في حاجة للتأويل. حيث كان الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته في صدر الإسلام ” يدركون علاقة الألفاظ باللغة والقرآن والحديث، ويفسرون غريب القرآن، ويحتجون بالشعر واللغة، واشتهر منهم في هذا المضمار عبد الله بن عباس…. ومع هذا فقد كانت الحاجة تعوزهم إلى التأويل إذا اشتبه الأمر عليهم، وكانت الألفاظ الدينية تخفي وراءها شيئا يرغبون في معرفته. يقول القرطبي ـ في تفسيره ـ( روي عن رسول الله من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم” من حوسب يوم القيامة عُذِبَ” قالت: فقلت يا رسول الله أليس قد قال الله ” فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ” فقال: ليس ذاك الحساب، إنما ذلك العرض”.فأول كلمة الحساب بالعرض”[i].
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله، ولقد صدق رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وقال: ” اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل” رواه البخاري وغيره… وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن، ولم يقل عن آية إنها من التشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله”[ii]
” وجاء في ضحى الإسلام ( عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله). وفي هذا دليل على أن النص الديني من كتاب وسنة له وجوه ظاهرة وباطنة يحدث الناس بما يوافقهم منها. فالباطن في النصوص الدينية هو الذي يعني هدف الشارع ومقصده، وهذه المقاصد لم يتوان أصحاب المعرفة منذ زمن الرسول عن بيانها وإظهارها ما دامت توافق اللغة والعقل والشرع، واجتماع القرائن التي تساند المعنى المقصود ويظهر ذلك في قول الرسول عليه الصلاة والسلام ” القرآن ذلول ذو وجوه، فاحملوه على أحسن وجوهه”[iii] أخرجه أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس.
في زمن الرسول وصحابته، كان الرسول يؤول لهم ما استشكل عليهم من أمور، وبالتالي كان هو المفسر والمؤول للقول الإلهي، وكان قوله هو الحق والفصل بالنسبة لصحابته وتفسيره وتأويله هو اليقين الذي لا يشك فيه أحد، فهو لا ينطق عن الهوى ولذلك لم يكن هناك أدنى مشكلة وتحديدا فيما يتعلق بصلاحية التأويل. لكن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وانقطاع الوحي، وبعد عصر الصحابة رضوان الله عليهم، ظهرت مشكلة تفسير وتأويل النص الديني الإسلامي. ولكي لا نضل من بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، فيجب علينا إن نتمسك بكتاب الله وسنة رسوله. ولكي نتمسك بهما فلابد من فهمهما إذ أننا لا يمكننا أن نتمسك بشيء لا نفهمه، وسؤال الفهم ما هو إلا سؤال التأويل عينه وهو سؤال عن التأويل ومعاييره و آلياته. ولذلك فإن السؤال هو: بأي آليات أو طرائق نفهم؟
ومن جهة أخرى المؤول الوحيد للقول الإلهي كان الرسول وبالتالي فقوله وتأوله هو الحق وهو الصواب لأنه نبي لا ينطق عن الهوى وإنما بوحي، لكن من بعده فليس ثمة نبي ولا رسول ، يترتب على هذا القول: أنه ليس ثمة تأويل مقدس من بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن التأويل في هذه الحالة لا يصدر عن مؤول مقدس وإنما من عقل إنساني ليس منزهاً عن الخطأ، ولذلك كان دعوة الرسول إلينا متمثلة في قوله عليه الصلاة والسلام ( القرآن ذلول ذو وجوه، فاحملوه على أحسن وجوهه) احملوه تعني أولوه على أحسن وجوهه، ولذلك فإن هذا القول النبوي يوضح لنا أن النص القرآني يحتمل عدة تأويلات ولذلك فمهمة التأويل ـ أي المهمة التي تقع على عاتق المؤول ـ هنا هي حمل النص وتأويله على أحسن وجوه فهمه. وهذا بدوره يثير مشكلة صلاحية التأويل ومعاييره: فكيف يتأتى لنا أن نعرف أننا قد حملناه على أحسن وجه؟! وبالتالي فإن صلاحية كل تأويل إنما تتوقف على ما يدعم به موقفه من حجج وبراهين وأدلة. وهذا هو بالضبط ما حدث بعد وفاة الرسول عليه السلام وتحديدا بعد خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه. لأن بدايات ظهور الفرق الإسلامية المختلفة تعود لهذا التاريخ، ولسنا هنا في معرض الحديث عن ما حدث من انشقاق واختلاف آنذاك بين صحابة رسول الله عليه وعليهم السلام. ولكن حسبنا أن نشير إلى نتيجة من نتائج هذا الصراع والمتمثلة في ظهور الفرق الإسلامية مثل: الخوارج والمرجئة والشيعة والمعتزلة.
ونجد أن كل فرقة من هذه الفرق كانت ترى أنها الحق وما عداها الباطل بل وصل بهم الحال لأبعد من ذلك، فالمطالع لكتب التاريخ الإسلامي يجد ” كل فرقة تكفر مخالفها وتنسبه إلى تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام، فالحنبلي يكفر الأشعري زاعما أنه كذب الرسول في إثبات الفوق لله تعالى وفي الاستواء على العرش، والأشعري يكفره زاعما أنه مشبه وكذّب الرسول في أنه ليس كمثله شيء، والأشعري يكفر المعتزلي زاعما أنه كذّب الرسول في جواز رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات له، والمعتزلي يكفر الأشعري زاعما أن إثبات الصفات تكفير للقدماء وتكذيب للرسول في التوحيد ….فينكشف لك غلوّ هذه الفرق وإسرافها في تكفير بعضها بعضا”[iv]
وهكذا حاولت كل فرقة تأويل النص القرآني والنبوي بما يظهر لعامة المسلمين أنها الفرقة الناجية وبما يخدم مصالحها السياسية، كتأويل الرافضة في قولهم:”}تبت يدا أبى لهب{ هما أبو بكر وعمر و}لئن أشركت ليحبطن عملك{ أي بين أبى بكر وعلى في الخلافة و}إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة{ هي عائشة و}قاتلوا أئمة الكفر{ طلحة والزبير و}مرج البحرين{ على وفاطمة و}اللؤلؤ والمرجان{ الحسن والحسين و}كل شيء أحصيناه في إمام مبين{ في على بن أبى طالب و}عم يتساءلون عن النبأ العظيم{ على بن أبى طالب و}إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون{ هو على … وكذلك قوله }أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة{ نزلت في على لما أصيب بحمزة”[v].
وما من فرقة إلا ولها في كتاب الله حجة، وبالتالي فإن التأويل هنا أُستخدم كسلاح وكأداة فيما كان دائرا من صراع سياسي اجتماعي آنذاك، وخاصة في قضية تم الاختلاف والجدل بشأنها بين هذه الفرق وهي قضية الإمامة: من هو الأحق بها بعد وفاة الرسول؟ وهل تكون الإمامة أو الخلافة بالنص والتعيين؟ أم تكون كنتاج لاتفاق المسلمين واختيارهم؟ أي تكون بالبيعة والشورى، وهل يجمع الخليفة بين السلطتين الزمنية والروحية؟ ..الخ. ولذلك فإن الخلاف حول قضية الإمامة والصراع الذي ارتبط بها كان من أهم الأسباب التي أدت إلى نشوء الفرق الإسلامية فالشيعة مثلا هم الذين رأوا أحقية علي بن أبي طالب بالخلافة أكثر من غيره من الصحابة، في حين يرى الخوارج ـ وهم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب حينما أرتضى واقعة التحكيم ـ ” أن الخلافة ليست من أركان الدين وللمسلمين أن يعيشوا من غير خليفة وحسبهم كتاب الله وسنة رسوله ليفصلا بينهم، وإذا كان لا بد من خليفة فليس من الضروري أن يكون من بيت علي أو يكون من قريش، بل يصح أن يكون أي فرد من المسلمين مهما كان ولو كان عبدا حبشيا إذا كان صالحا للخلافة… وإذا اختير فليس يصح منه أن يتنازل… والخوارج يرون مع هذا أن عزل الإمام واجب وحربه فرض على كل مسلم إذا صار جائرا ولهذا حاربوا عليا حين ضل في رأيهم بقبوله التحكيم وحاربوا معاوية أيضا”[vi]
وبالإضافة إلى قضية الإمامة أو مشكلة الخلافة نجد أن معظم القضايا والمشكلات التي تباينت واختلفت حولها تأويلات الفرق والمذاهب الإسلامية تتمحور حول قضايا: التسيير والتخيير وقد عرفت أيضا بمشكلة القضاء والقدر والتي تمحورت حول السؤال هل الإنسان مسير أم مخير؟ حيث تفرعت منها عدة اتجاهات. فالاتجاه الذي ذهب إلى أن الأفعال كلها لله عرف باسم الجبرية، في مقابل القدرية التي تبنت الرأي القائل بأن الإنسان خالق قدره خيره وشره.
وتباينت التأويلات أيضا حول مشكلة الذات والصفات حيث تنازعوا ” في مسائل الصفات إذ صنف بعضهم في إبطال التأويل أو ذم التأويل أو قال بعضهم: آيات الصفات لا تؤول، وقال الآخر: بل يجب تأويلها، وقال الثالث: بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة ويترك عند المصلحة أو يصلح للعلماء دون غيرهم، إلى غير ذلك من المقالات والتنازع”[vii]واختلفت التأويلات فتطرف بعضها في إثبات الصفات والأخذ بحرفيتها كما جاءت في القرآن من (يد) و(عين)..الخ، حتى وصلوا إلى التشبيه والتجسيم وهم من عرفوا بالمشبهة والمجسمة والحشوية في مقابل من غالوا في تأويلها فانتهوا إلى التعطيل وإلى نفي الصفات وهم من عرفوا بالمعطلة. واختلفوا أيضا في مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن أم كافر؟ فمثلا الخوارج رأوا أن مرتكب الكبيرة كافر، في حين أن الكبيرة عند المرجئة لا تضر مع الإيمان، وقالت المعتزلة أنه ليس بكافر ولا مؤمن وإنما هو بمنزلة بين المنزلتين (فاسق).
هذه نماذج قليلة لمشاكل وقضايا قصدنا من المرور السريع عليها، تبيان مدى ارتباطها بالتأويل وتباين فهمه عند الفرق الإسلامية. فالعقل الإسلامي حاول مواكبة أحداث الحياة المتجددة التي لا تقف عند حد، والنصوص محدودة، فكان لا بد من إيجاد مصدر ثالث بعد القرآن والسنة يمد الفكر الإسلامي بحلول للمشاكل والوقائع المستجدة على الواقع الإسلامي آنذاك. فكان أن تولد الرأي بإشكاله المتعددة، والتأويل مدار نشاط الرأي. الأمر الذي يظهر بوضوح في تعدد اتجاهات الفرق الإسلامية وما ارتبط بها من صراعات سياسية ودينية، مما أدى بدوره إلى الخلافات، وتباين الآراء وتصارعها، وكثرت بذلك الفرق والنحل، ونشبت المعارك الكلامية والفقهية، ولم يكن النص الديني الإسلامي ممثلا في القرآن والسنة بمعزل عن تلك المعارك، بل كان التأويل هو الأداة الأساسية التي توسلتها كل فرقة في نصرة مذهبها وتبيان مدى موافقته ومطابقته للنص، وخير مثال لذلك فرق الباطنية التي رأت أن ” لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورا جلية، وهي عند العقلاء الأذكياء رموزا وإشارات إلى حقائق خفية، وأن من تقاعس عقله عن الغوص على الخفايا والأسرار، والبواطن والأغوار، وقنع بظواهرها مسارعا إلى الاغترار، كان تحت الأواصر والأغلال”[viii] و” كان من رأيهم أن كل ما ورد من الظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية كلها أمثلة ورموز إلى بواطن،.. والطهور هو التبري والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى مبايعة الإمام. والصيام هو الإمساك عن كشف السر. والكعبة هي النبي، والباب علي، والصفا هو النبي والمروة علي،..والطواف بالبيت سبعا هو الطواف بمحمد إلى تمام الأئمة السبعة،…وإبليس وأدم عبارة عن أبى بكر وعلي، إذ أُمر أبو بكر بالسجود لعلي والطاعة له فأبى وأستكبر، والدجال زعموا أنه أبو بكر، وكان أعور إذ لم يبصر إلا بعين الظاهر دون عين الباطن، ويأجوج ومأجوج هم أهل الظاهر”[ix] وهؤلاء كان نظرهم في المعنى أسبق من نظرهم في اللفظ وسبب ذلك يرجع كما بيّن ابن تيمية في أنهم بشكل مسبق” اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها (…) من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به. راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان”[x]
والخلاصة اتساع ميدان التأويل وتعدد مناحيه وخاصة بعد أن اندلعت شرارة الفتنة الكبرى واتسعت الدولة الإسلامية وتطورت حياة المسلمين واتسعت الفتوحات، وانفتح المسلمون على غيرهم من الشعوب والثقافات والأديان، وجرت المناظرات حيث أستخدم التأويل وخاصة في علم الكلام كأداة للدفاع عن سلامة العقيدة في المواجهة الفكرية لأعداء الإسلام. وكان أن اكتملت ظاهرة التأويل وأصبح مصطلحا يعمل على صرف المعنى الظاهر من اللفظ إلى معنى محتمل يعضده دليل. وقد كان للتأويل دور في كل البيئات الفكرية: ففي بيئة المفسرين كان أداة لسبر أغوار النص الديني. وفي بيئة المتكلمين كان مصطلح التأويل المحور الذي دارت عليه اختلافاتهم، سواء كانوا معتزلة أم شيعة، أم غير ذلك من الفرق الإسلامية. وفي بيئة الفقهاء عمل التأويل على توسيع آفاق النص حتى يستغرق متجدد أحداث الحياة، كما عمل على التوفيق بين الآراء والنصوص التي تشعر بالتعارض والتناقض. وفي بيئة الفلاسفة جعلوا من التأويل وسيلة للتوفيق بين العقل والشرع.
ويجدر بنا التنويه هنا إلى أن التأويل في معناه الاصطلاحي (صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر) لم يرد في المعاجم اللغوية المتقدمة وإنما هو من نتاج العصور المتأخرة. حيث نجد أن كلمة التأويل في جميع استعمالاتها في المعاجم اللغوية المتقدمة· تفيد معنى المرجع والمصير والعاقبة.
أما التأويل بمعناه الاصطلاحي(صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر) فقد ظهر جليا في المعاجم اللغوية المتأخرة مثل لسان العرب لابن منظور(ت 711هـ) وتاج العروس للزبيدي( ت 1205هـ).
على أننا يمكن أن نؤرخ للبداية الفعلية لظهور التأويل في معناه الاصطلاحي ابتداء من القرن الرابع الهجري، فابتداء من هذا التاريخ شاع استخدام التأويل بمعناه الاصطلاحي عند كل المشتغلين بالنص الديني من مفسرين ومحدثين وفقهاء ومتكلمين وفلاسفة. فالتأويل ” في كلام كثير من المفسرين، كابن جرير ونحوه، يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالف، وهذا اصطلاح معروف، وهذا التأويل كالتفسير، يحمد حقه ويرد باطله.”[xi] و” التأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين، هو حرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك. وهذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه… فالتأويل الصحيح منه الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد. ويجب أن يُعلم أن المعنى الفاسد.. ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فُهم ذلك منه فهو لقصور فهمه، ونقص علمه”[xii] ويؤكد ابن تيمية على ذلك بقوله:” التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به”[xiii]
التأويل عند الغزالي:
ضرورة التأويل: يتحدث الغزالي بضرورة التأويل في كثير من مؤلفاته، ومما يورده في هذا الصدد، قوله في كتابه (المستصفى في علم الأصول): ” إذا قيل لك: (إن الأعمال تُوزن)· علمت أن الأعمال عرض لا يوزن فلابد من تأويل، وإذا سمعت: ( أن الموت يُؤتى به في صورة كبش أملح فيُذبح)·· علمت أنه مؤول، إذ الموت عرض لا يؤتى به إذ الإتيان انتقال، ولا يجوز على العرض، ولا يكون له صورة كصورة كبش أملح. إذ الأعراض لا تنقلب أجساما ولا يُذبح الموت. إذ الذبح فصل الرقبة عن البدن، والموت ما له رقبة ولا بدن، فإنه عرض أو عدم عرض عند من يرى أنه عدم الحياة، فإذن لا بد من التأويل”[xiv]
وفي كتابه (جواهر القرآن) يقول: ” فما من كلمة إلا وتحتها رموز وإشارات إلى معنى خفي، يدركها من يدرك الموازنة والمناسبة، بين عالم الملك والشهادة، وعالم الغيب والملكوت. إذ ما من شيء في عالم الملك والشهادة، إلا وهو مثال لأمر روحاني من عالم الملكوت. كأنه هو في روحه ومعناه، وليس هو هو في صورته وقالبه”[xv] فهو هنا يبني تصوره للتأويل على ثنائية عالمي الملك والشهادة في مقابل الغيب والملكوت أو عالم الظاهر في مقابل عالم الباطن الذي ترتبط به الحقيقة.
” فانظروا إلى ما ينكشف للنائم في نومه من الرؤيا الصحيحة، التي هي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. وكيف ينكشف بأمثلة خيالية، فمن يُعلّم الحكمة غير أهلها، يرى في المنام أنه يعلق الدر على الخنازير. ورأى بعضهم أنه كان في يده خاتم يختم به فروج النساء وأفواه الرجال. فقال له ابن سيرين: أنت رجل تؤذن في رمضان قبل الصبح. فقال: نعم. ورأى آخر كأنه يصب الزيت في الزيتون، فقال له: إن كان تحتك جارية، فهي أمك قد سبيت وبيعت واشتريتها أنت ولا تعرف، فكان كذلك. فانظر ختم الأفواه والفروج بالخاتم مشاركا للأذان قبل الصبح في روح الخاتم وهو المنع، وإن كان مخالفا في صورته. وقس على ما ذكرته ما لم أذكره. واعلم أن القرآن والأخبار تشتمل على كثير من هذا الجنس. فانظر إلى قوله: (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن) فإن روح الأصبع القدرة على سرعة التقليب، وإنما قلب المؤمن بين لمة الملك وبين لمة الشيطان، هذا يغويه، وهذا يهديه، والله تعالى بهما يقلب قلوب العباد، كما تقلب الأشياء أنت بأصبعيك. فانظر كيف شارك نسبة الملكين المسخرين إلى الله تعالى أصبعيك في روح أصبعيه، وخالفا في الصورة. واستخرج من هذا قوله: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته) وسائر الآيات والأحاديث الموهمة عند الجهلة للتشبيه. والذكي يكفيه مثال واحد، والبليد لا يزيده التكثير إلا تحيرا. ومتى عرفت معنى الأصبع، أمكنك الترقي إلى القلم واليد واليمين والوجه والصورة، وأخذت جميعها معنى روحانيا لا جسمانيا. فتعلم أن روح القلم وحقيقته التي لا بد من تحقيقها إذا ذكرت حد القلم هو الذي يكتب به، فإن كان في الوجود شيء يتسطر بواسطته نقش العلوم في ألواح القلوب فأخلق به أن يكون هو القلم، فإن الله تعالى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وهذا القلم روحاني إذ وجد فيه روح القلم وحقيقته ولم يعوزه إلا قالبه وصورته. وكون القلم من خشب أو قصب ليس من حقيقة القلم، ولذلك لا يوجد في حده الحقيقي، ولكل شيء حد وحقيقة هي روحه، فإذا اهتديت إلى الأرواح صرت روحانيا، وفتحت لك أبواب الملكوت، وأهلت لمرافقة الملأ الأعلى وحسن أولئك رفيقا. ولا يستبعد أن يكون في القرآن إشارات من هذا الجنس، وان كنت لا تقوى على احتمال ما يقرع سمعك من هذا النمط ما لم تسند التفسير إلى الصحابة، فإن كان التقليد غالبا عليك، فانظر إلى تفسير قوله تعالى كما قاله المفسرون:}أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله{الرعد:17… وأنه كيف مثل العلم بالماء، والقلوب بالأودية والينابيع، والضلال بالزبد، ثم نبهك على آخرها فقال كذلك يضرب الله الأمثال. ويكفيك هذا القدر من هذا الفن، فلا تطيق أكثر منه. وبالجملة فاعلم أن كل ما يحتمله فهمك فإن القرآن يلقيه إليك على الوجه الذي لو كنت في النوم مطالعا بروحك اللوح المحفوظ لتمثل ذلك لك بمثال مناسب يحتاج إلى التعبير. واعلم أن التأويل يجري مجرى التعبير فلذلك قلنا يدور المفسر على القشر إذ ليس من يترجم معنى الخاتم والفروج والأفواه كمن يدرك أنه أذان قبل الصبح”[xvi]
ويبين لنا أيضا ضرورة التأويل من خلال رسالة (إلجام العوام عن علم الكلام) بقوله: ” فقد سألتني أرشدك الله عن الأخبار الموهمة للتشبيه عند الرعاع والجهال من الحشوية الضلال حيث اعتقدوا في الله وصفاته ما يتعالى ويتقدس عنه من الصورة واليد والقدم والنزول والانتقال والجلوس على العرش والاستقرار، وما يجري مجراه مما أخذوه من ظواهر الأخبار وصورها، وأنهم زعموا أن معتقدهم فيه معتقد السلف. وأردتُ أن أشرح لك اعتقاد السلف، وأن أُبين ما يجب على عموم الخلق أن يعتقدوه في هذه الأخبار، وأكشف فيه الغطاء عن الحق، وأميز ما يجب البحث عنه عما يجب الإمساك والكف عن الخوض فيه”[xvii] وواضح من خلال مقدمة رسالته هذه أن الغزالي يبين هنا خطأ المجسمة والمشبهة وهم الفرق والطوائف الذين تقيدوا بظاهر النص كما هو دونما تأويل وتطرفوا في الأخذ بحرفية النص القرآني والنبوي، وهؤلاء ” راعوا مجرد اللفظ … من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به ولسياق الكلام ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة”[xviii] وهي دعوة صريحة بضرورة التأويل وصرف اللفظ من معناه الظاهر إلى معنى أخر.
وأخيرا لنستمع إلى الغزالي وهو يقول في رسالة(المضنون به على غير أهله) ” وكم من المنامات عرضت على رسول الله من رؤيا لبن أو حبل. فقال: اللبن هو الإسلام والحبل هو القرآن، إلى أمثال لا تحصى، وأي مماثلة بين اللبن والإسلام والحبل والقرآن إلا في مناسبة، وهو أن الحبل يتمسك به للنجاة والقرآن كذلك، واللبن غذاء تُغذى به الحياة الظاهرة والإسلام غذاء تُغذى به الحياة الباطنة”[xix]
ويؤكد الغزالي أن ” ما من فريق من أهل الإسلام إلا وهو مضطر إليه. فأبعد الناس عن التأويل أحمد بن حنبل… والحنبلي مضطر إليه وقائل به، فقد سمعت الثقات من أئمة الحنابلة ببغداد يقولون إن أحمد بن حنبل صرح بتأويل ثلاثة أحاديث فقط: أحدها قوله (صلى الله عليه وسلم):(الحجر الأسود يمين الله في الأرض). والثاني قوله (صلى الله عليه وسلم): (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن). والثالث قوله (صلى الله عليه وسلم): (إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمين). فانظر الآن كيف أوّل هذا حيث قام البرهان عنده على استحالة ظاهره،…فانظر كيف أضطر إليه أبعد الناس عن التأويل… وإنما اقتصر أحمد بن حنبل على تأويل هذه الأحاديث الثلاثة لأنه لم تظهر عنده الاستحالة إلا في هذا القدر، لأنه لم يكن ممعنا في النظر العقلي ولو أمعن لظهر له ذلك في مما لم يتأوله(…) وليس الغرض تصحيح أحد التأويلين، بل لتعلم أن كل فريق وإن بالغ في ملازمة الظواهر فهو مضطر إلى التأويل إلا أن يجاوز الحدّ في الغباوة والتجاهل… ومن ينتهي إلى هذا الحدّ من الجهل فقد انخلع من ربقة العقل”[xx] الآن وقد عرفنا ضرورة التأويل. فما هو مفهوم التأويل عنده؟
[i] السيد أحمد عبد الغفار، ظاهرة التأويل وصلتها باللغة، مرجع سابق الذكر، ص6-7
[ii] أبو حامد الغزالي، قانون التأويل، مصدر سابق الذكر، المقدمة، ص6
[iii] السيد أحمد عبد الغفار، ظاهرة التأويل وصلتها باللغة، مرجع سابق الذكر، ص21-22
[iv] أبو حامد الغزالي، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، راجعها وحققها: إبراهيم أمين محمد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، د.ت، ص257
[v] ابن تيمية، مقدمة في أصول التفسير، ص11
[vi] محمد إبراهيم الفيومي، المعتزلة تكوين العقل العربي: أعلام وأفكار، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 2002م، ص18
[vii] ابن تيمية، الإكليل في المتشابه والتأويل، مصدر سابق الذكر، ص28
[viii] أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية، راجعه: محمد علي القطب، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت، 2001م، ص21
[ix] نفس المصدر السابق، ص59-60-61
[x] ابن تيمية، مقدمة في أصول التفسير، ص10
- · المعاجم اللغوية المتقدمة: منها معجم تهذيب اللغة لصاحبه أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري المتوفى 370هجرية/ معجم مقاييس اللغة لصاحبه أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا المتوفى 395هجرية/ معجم الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية) لصاحبه إسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى393هجرية
[xi] أبو حامد الغزالي، قانون التأويل، مصدر سابق الذكر، المقدمة، ص5
[xii] نفس المصدر السابق، المقدمة، ص7
[xiii] ابن تيمية، الإكليل في المتشابه والتأويل، مصدر سابق الذكر، ص27
- · رواه الترمذي رقم (2141) في الإيمان: باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله/ وأحمد في المسند (2/213) / وابن ماجه (4300) في الزهد: باب ما يرجى من رحمة الله عز وجل يوم القيامة.
- ·· رواه البخاري رقم (4730) ومسلم رقم (2849).
[xiv] أبو حامد الغزالي، قانون التأويل، مصدر سابق الذكر، ص21-22
[xv] أبو حامد الغزالي، جواهر القرآن، ص29
[xvi] أبو حامد الغزالي، جواهر القرآن، ص30-33
[xvii] أبو حامد الغزالي، إلجام العوام عن علم الكلام، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، راجعها وحققها: إبراهيم أمين محمد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، د.ت، ص319
[xviii] ابن تيمية، مقدمة في أصول التفسير، ص10
[xix] أبو حامد الغزالي، المضنون به على غير أهله، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، راجعها وحققها: إبراهيم أمين محمد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، د.ت، ص359
[xx] أبو حامد الغزالي، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، مصدر سابق الذكر، ص260-261
اترك رد