3- التأويل عند الإمام الغزالي

بقلم: د. مجدي عزالدين

أستاذ الفلسفة بجامعة النيلين

مفهوم التأويل:

يورد الغزالي مفهومه للتأويل في كتابه (المستصفى في علم الأصول) بقوله:” التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر ويشبه أن يكون كل تأويل صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز”[i] وإذا قارناه مثلا مع تعريف أبو منصور الماتريدي (ت333هـ) وهو من علماء التفسير والكلام أيضا، وله كتاب في تأويلات القرآن حيث يعرفه بقوله: ” التأويل هو ترجيح أحد المحتملات بدون القطع”[ii] لاعتبرنا تعريف الماتريدي محاولة مبكرة في وضع مصطلح التأويل ولعرفنا إلى أي مدى تطور ونضج المعنى الاصطلاحي للتأويل مع الغزالي.

ومن جهة أخرى إذا قارناه، بأحد لاحقيه، مثلا بالتعريف الذي أورده ابن تيمية(ت728هـ) للتأويل الذي سبق وأن أوردناه، حيث يعرّف فيه ابن تيمية التأويل كما ورد عند المتأخرين، بقوله هو ” صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به” وإذا علمنا أن ابن تيمية تفصله عن الغزالي ثلاثة قرون، لخرجنا بنتيجة مفادها التأثير الكبير الذي أحدثه الغزالي فيمن جاء بعده، فهم في الغالب لم يخرجوا من عباءته في هذا المضمار.

ويظهر أيضا متابعة ابن رشد (ت595هـ) له في تعريفه للتأويل حيث يقول: ” معنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز، من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عُدِّدت في تعريف أصناف الكلام المجازي”[iii] ويظهر هذا التأثير جليا إذا قرأنا قول الغزالي:” الآيات والأحاديث لا يتعذر الاهتداء إلى معرفة معانيها الصحيحة إذا راعينا هذا المنهج في تأويلها، واتبعنا في ذلك ما جرت عليه عادة العرب في استعمالهم لألفاظ اللغة العربية استعمالا حقيقيا أو مجازيا”[iv]

التفسير والتأويل:

التفسير في اللغة هو ” الإيضاح والتبيين والكشف، وإظهار المعنى المعقول تقول فسر الشيء وفسره أي أبانه”[v]أما في الاصطلاح فقد عرفه الزركشي ” بأنه علم يُفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه”[vi]

هناك من نظر إليهما باعتبار أن مدلولهما واحد، في المقابل هناك من يُجري تفرقة بين التفسير والتأويل. الفريق الأول: عندهم التأويل بمعنى التفسير وبيان المعنى وهذا ما عناه ابن جرير الطبري في تفسيره بقوله:” القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا، وبقوله أيضا: اختلف أهل التأويل في هذه الآية ونحو ذلك ومراده التفسير”[vii] وهو الأمر عينه الذي أكده ابن تيمية بقوله: ” التأويل في لفظ السلف:…. تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا”[viii]

الفريق الثاني: يقسمون القران الكريم إلى قسمين: آيات محكمات وأُخر متشابهات وقد قاموا بنسب التفسير إلى المحكم ” وعلى هذا فإن التفسير يكون قاصرا على آيات كتاب الله المحكمات التي تتناول العبادات والمعاملات فقط”[ix]. أما التأويل فمجاله المتشابه. إلا أن الغزالي له رأي آخر، إذ يقول: ” في القرآن محكم ومتشابه كما قال تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات آل عمران(70) واختلفوا في معناه وإذا لم يرد توقيف في بيانه فينبغي أن يفسر بما يعرفه أهل اللغة ويناسب اللفظ من حيث الوضع. ولا يناسبه قولهم المتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور، والمحكم ما وراء ذلك. ولا قولهم المحكم ما يعرفه الراسخون في العلم، والمتشابه ما ينفرد الله تعالى بعلمه. ولا قولهم المحكم الوعد والوعيد والحلال والحرام، والمتشابه القصص والأمثال، وهذا أبعد. بل الصحيح أن المحكم يرجع إلى معنيين أحدهما المكشوف المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال واحتمال، والمتشابه ما تعارض فيه الاحتمال. الثاني أن المحكم ما انتظم وترتب ترتيبا مفيدا على ظاهر أو على تأويل ما لم يكن فيه متناقض ومختلف، لكن هذا المحكم يقابله…الفاسد دون المتشابه. وأما المتشابه فيجوز أن يعبر به عن الأسماء المشتركة.. كقوله تعالى (الذي بيده عقدة النكاح) البقرة(237) فإنه مردد بين الزوج والولي، وكاللمس المردد بين المس والوطء. وقد يطلق على ما ورد في صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه ويحتاج إلى تأويله. فإن قيل قوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ( آل عمران(7) الواو للعطف أم الأولى الوقف على الله، قلنا كل واحد محتمل، فإن كان المراد به وقت القيامة، فالوقف أولى، وإلا فالعطف، إذ الظاهر أن الله تعالى لا يخاطب العرب بما لا سبيل إلى معرفته لأحد من الخلق. فإن قيل فما معنى الحروف في أوائل السور، إذ لا يعرف أحد معناها. قلنا أكثر الناس فيها وأقربها أقاويل، أحدها أنها أسامي السور حتى تعرف بها، فيقال سورة يس وطه. وقيل ذكرها الله تعالى لجمع دواعي العرب إلى الاستماع لأنها تخالف عادتهم، فتوقظهم عن الغفلة حتى تصرف قلوبهم إلى الإصغاء، فلم يذكرها لإرادة معنى. وقيل إنما ذكرها كناية عن سائر حروف المعجم التي لا يخرج عنها جميع كلام العرب، تنبيها أنه ليس يخاطبهم إلا بلغتهم وحروفهم … فقد ثبت أنه ليس في القرآن ما لا تفهمه العرب”[x]

فرق الباحثين في التأويل:

يرى الغزالي إشكال(المعقول والمنقول) قد قسّم الخائضون فيه إلى خمس فرق:الفرقة الأولى: هم الذين جردوا النظر إلى المنقول،…، فهؤلاء صدّقوا بما جاء به النقل تفصيلا وتأصيلا، وإذا شوفهوا بإظهار تناقض في ظاهر المنقول وكلفوا تأويلا امتنعوا وقالوا: إن الله قادر على كل شيء. الفرقة الثانية: تباعدوا عن هؤلاء إلى الطرف الأقصى المقابل لهم، وجردوا النظر إلى المعقول، ولم يكترثوا بالنقل. فإن سمعوا في الشرع ما يوافقهم قبلوه.الفرقة الثالثة: جعلوا المعقول أصلا، والمنقول تابعا. الفرقة الرابعة: جعلوا المنقول أصلا، والمعقول تابعا. الفرقة الخامسة:الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول، الجاعلة كل واحد منهما أصلا مهما، المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقا، ومن كذب العقل فقد كذب الشرع، إذ بالعقل عرف صدق الشرع وكيف يكذب العقل بالشرع، وما ثبت الشرع إلا بالعقل. وهؤلاء هم الفرقة المحقة”[xi] وواضح من سياق النص أن الغزالي ينسب نفسه إلى هذه الفرقة الأخيرة وهو يقصد بها أهل السنة.

ويفصل أكثر في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) بقوله:” ” وأنى يستتب الرشاد لمن يقنع بتقليد الأثر والخبر وينكر مناهج البحث والنظر، أو لا يعلم أنه لا مستند للشرع إلا قول سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وبرهان العقل هو الذي عرف به صدقه فيما أخبره. أو كيف يهتدي للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر، وما استضاء بنور الشرع واستبصر، فليت شعري كيف يفزع إلى العقل من حيث يعتريه العي والحصر أو لا يعلم أن حظى العقل قاصر وأن مجاله ضيق منحصر، هيهات قد خاب على القطع والبت، وتعثر بأذيال الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع والعقل هذا الشتات”[xii] وبالتالي فإن مشكل التأويل الذي اختلف الخائضون فيه يقودنا إلى التساؤل عن التأويل صلاحيته وشروطه، مجاله ومواضعه.


[i] أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ص196

[ii] أورده السيوطي في الإتقان 2/173، طاش كبرى زاده في مفتاح السعادة 2/96، نقلا من السيد أحمد عبد الغفار، ظاهرة التأويل وصلتها باللغة، مرجع سابق الذكر، ص17

[iii] أبو الوليد بن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، دراسة وتحقيق: محمد عمارة، دار المعارف، القاهرة، ط3، د.ت، ص32

[iv] أبو حامد الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، الجزء الأول، شرح إبراهيم محمد إبراهيم، القاهرة، ط1، 1983م، ص164

[v] محمود المراكبي، ظاهر الدين وباطنه، مرجع سابق الذكر، ص28

[vi] نفس المرجع السابق، ص28

[vii] ابن تيمية، الإكليل في المتشابه والتأويل، مصدر سابق الذكر، ص28

[viii] ابن تيمية، الإكليل في المتشابه والتأويل، مصدر سابق الذكر، ص28

[ix] محمود المراكبي، ظاهر الدين وباطنه، مرجع سابق الذكر، ص22

[x] أبو حامد الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ص84

[xi] أبو حامد الغزالي، قانون التأويل، مصدر سابق الذكر، ص18-19

[xii] أبو حامد الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، مصدر سابق الذكر، ص5-6


نشر منذ

في

من طرف

الآراء

  1. الصورة الرمزية لـ لمياء
    لمياء

    ما معني تأويله في الإمام؟

اترك رد