بقلم د. خوصيه خوليان رودريغث
ترجمة: مصطفى عاشق ..باحث في سلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس الرباط
يشارك في كل عمل ترجمي ثلاثة أشخاص، على الأقل، ألا وهم المُرسِل، والذي لديه ما يريد إبلاغه كتابة بلغة ما؛ والمترجم، والذي يعرف هذه اللغة، ويفهم ما يريد المرسل إبلاغه ويعيد كتابته بلغة أخرى، ثم المرسل إليه، والذي يعرف اللغة التي يكتب بها المترجم ويقرأ الترجمة التي قام بها هذا الأخير، وبذلك يتمكن من فهم المعنى الذي يود المرسل إبلاغه.
قلنا إن الأشخاص الذين يشاركون في العمل الترجمي هم ثلاثة، وليس اثنان (مرسل ومترجم)؛ لأن العمل الترجمي لن يكون مكتملا، إلا إذا قرأ المرسل إليه وفَهِم النسخة المُعَادة كِتَابَتُها. ذلك أن المرسل إليه لا يقل أهمية عن المُرسِل والمترجم في العملية الترجمية، بل يصبح أحيانا أكثر أهمية منهما. وكل واحد من هؤلاء الثلاثة يجب أن تتوفر فيه بعض الشروط، التي سنمر عليها مرور الكرام، لأننا سنستعين بها في هذا المقال للوصول إلى الموضوع الأساس.
يجب على المرسل أن يكون لديه مَا يريد إبلاغه، ويجب أن يعرف كيف يبلغه ويكتبه بلغة ما؛ إذ عندما يقوم بذلك فهو يروم إحداث تأثير ما في القارئ. وبعبارة أدق، يجب أن تكون له غائية تواصلية. فعندما نجمع العناصر الثلاثة، نجد أن المرسل يجب، وجوبا قطعيا، أن يعرف ماذا، وكيف، وإلى من ، ومتى، وأين، ولماذا، ومن أجل ماذا، أو يستلزم عليه، حسب المصطلح المشهور، التعمق في المقام التواصلي الذي أنشأه هو نفسه، استجابة لغائيته التواصلية.
وفي المقابل يطلب من المترجم أن يكون قادرا على استيعاب كل هذه المعلومات في لغة المرسل، التي يجب عليه أن يتقنها إتقانا تاما. وإلى العوامل السابقة يمكن إضافة “من”. ربما لأن النسق الذي بدأ يستوعب فيه المترجم جوهر النص هو “من، أو كيف ، أو إلى من، أو ماذا، أو متى، أو أين، أو لماذا، أو من أجل ماذا. أو ربما لا، أو ربما حسب ماذا، أو من، أو لمن، أو لأجل ماذا”. وعند إدراك هذا الجوهر، فإن المترجم يصبح هو ” من”، وتبدأ العملية من جديد بلغة أخرى. فيصبح المترجم مُرسِلا. أو يحسن القول ، يتحول إلى مرسل: ليس من الضروري الإشارة إلى اتجاه التحول، علاوة على كوننا لسنا متأكدين من أن العملية في اتجاه الأعلى.
ومهما يكن الأمر، فنحن مع من يقول إن في الترجمة عمليتين من التواصل اللغوي، يتوسطمها المترجم، الذي هو في الوقت نفسه المرسل إليه والمرسل.
من هنا تبرز فكرة أن العملية ليست عملية مزدوجة، والتي قد تكون عملية تواصل ثنائية اللغة، بل عمليتين مستقلتين استقلالا نسبيا، كل واحدة منهما هي عملية تواصل أحادية اللغة. وفي واقع الأمر هي فكرة راجت في الآونة الأخيرة. ولكن، ما أصعب أن نبين الفرق بين المفهومين! وسيكون أن لا فرق يوجد من الأساس. يجب على المرسل إليه، إذن، أن يكون قادرا على استيعاب ذلك الجوهر، وذلك المضمون وتلك الغائية التواصلية نفسها التي ينتجها المرسل الأصلي، المتعمق في التحليل، والذي وصل إليه بفضل عمل المترجم. وبعبارة أوضح، فبفضل كون المترجم كل الوقت واعيا بمن، وكيف، ولمن، وماذا، ومتى، وأين، ولماذا، ومن أجل ماذا، أصبح بإمكان المتلقي استيعاب من أجل ماذا، التي كانت الأصل في كل العملية الإبداعية في عقل المرسل.
لماذا لكي يفهم المتلقي يجب أن ينتبه، ويعاني، ويضحك، ويتفاعل، ويغير نظام قيمه، وينفعل، ولا ينفعل، ويحافظ على قيمه، ولا يتفاعل، ولا يعاني. فأن يقوم المتلقي أو لا يقوم بهذه الأفعال ليس جزءا من العملية الترجمية. إذ يكفي أن يدرك الغاية التي كتب من أجلها هذا النص في الأصل. ويكفي أن يكون المترجم قادرا على نقل غائية المرسل، ووظيفة النص، إلى المتلقي. فقد وصل (المترجم) إلى ذلك لأنه لم يغفل ولو للحظة من لحظات العملية الترجمية عن العوامل الثلاثة المتقدم ذكرها، والتي تشكل في إدماجها المتناسق وضعية التواصل.
انطلاقا مما سبق، سنركز في الفقرات اللاحقة على “ماذا”. أو بالأحرى على ” لما لا”. لأننا نفكر في أن نشير إلى مضمون النص المترجم، ولكن ليس إلى المضمون المعبر عنه هناك تعبيرا صريحا، بل المضمون الخارجي، أي الضمني، الذي قرر المرسل عدم التصريح به لأنه غير ضروري، أو مناسب، أو لا يتوافق مع الذوق العام. ويتعلق الأمر بمعرفة العالم الذي يواجه به المترجم النص أو الذي يبحث عنه في مختلف المصادر، بفضل المضمون المعبر عنه تعبيرا صريحا أو الذي اقترحه النص، والذي يحدده أيضا بصفته المنتج النهائي الذي يحصل عليه المترجم.
في البيبليوغرافيا (قائمة المراجع)، تسمى هذه المعرفة بالمعرفة الموسوعية أو المكون الموسوعي للترجمة. ويبدو لنا أن المصطلحين كليهما مصطلحين ناجحين، بل تزينيين بعض الشيء. إذ يدفعان المترجم، مع ذلك، إلى أن يقصد الموسوعة لكي يبحث عن هذه المعرفة، وليس في المعاجم ثنائية اللغة ولا حتى أحادية اللغة؛ ذلك أن الصلة التأثيلية بالمفردة اللاتينية والإغريقية الموافقتين غير مرئية بالنسبة لأغلب الأشخاص.
أحيانا أخرى، نجد مصطلح “الكفاءة الموسوعية” للدلالة على هذه المعرفة الضمنية غير اللغوية التي يحيل إليها النص. ويتم ذلك من أجل تحقيق نوع من التوازن مع باقي كفاءات المترجم، ألا وهما الكفاءة التواصلية في كل لغة والكفاءة التواصلية بين لغتين. وهذا المصطلح لا يبدو لنا موفقا؛ ذلك أن معرفة العالم لا تعد كفاءة. لأن هذه المعرفة بكل بساطة ليست مجموع مؤهلات ولا مهارات محتملة تُفَعَّل في ظروف معينة. لذا فمعرفة العالم هي، كذلك، معرفة: تُسْتَحْضر في الوعي عند الضرورة، و”تُسْتَرْجَع”، وتُفَعَّل، مثل الكفاءات، ولكن على عكس هذه الأخيرة فهي لا تمارس، لأنها ليست مجموعا من المؤهلات والمهارات.
كنا قد قلنا إننا نفكر في “لـــمــا لا”، وتبع ذلك محاولة تحديد معنى المعرفة الموسوعية. وذلك لأننا نظن أن المعرفة الموسوعية هي تحديدا ما يلي: “لـــمــا لا” النصية؛ وهو ما لم يُكْتَب، والتي يقترحها النص ويجب معرفتها معرفة عميقة أو سطحية من أجل فهم معنى النص فهما صحيحا.
يعني ذلك أن المكون الموسوعي، نظرا لطبيعته، هو عنصر خارج نطاق اللغة، ولكن ليس كليا. والشيء نفسه يسري على المضمون المعبر عنه تعبيرا صريحا. ومن هنا تبرز ضرورة الإشارة إلى الطابع الضمني للمكون الموسوعي.
ومن الخصائص الأخرى للمكون الموسوعي أنه يُقتَرح في أجزاء معينة من النص والتي انطلاقا منها يزداد تطورا إلى ما لا نهاية. لذلك من المهم جدا أن نتعلم تحديد كم من هذه المعرفة الخفية في النص كافية من أجل فهم المعنى، حتى لا يبقى المرء غير فاهم فهما يقل عن المستوى المطلوب، وحتى لا ينساق أيضا وراء المعلومة ويذهب الوقت والطاقة سدى.
وتتجلى المميزات الأخرى للمكون الموسوعي في كون تأثيره الحقيقي في جودة الترجمة يبقى دائما نسبيا. ذلك أن الجهل بالمضمون الخفي يمكن أن يجعل الترجمة المحصل عليها ترجمة رديئة، وهذا ما يحدث دائما. ولكنه أيضا يمكن أن يتأثر فقط الأسلوب أو ما يتفرع عن الأسلوب أوالإيحاء؛ وحتى إن المرء ليدرك أن المترجم يجهل هذا المضمون أو ذاك وأنه لم يتمكن قط من فهم النص الأصلي.
ونشدد، في حصص الترجمة التي تعطى في الجامعة، على أهمية ضبط المحتوى الموسوعي الضمني في النصوص التي نسلمها للطلبة. كما نحاول أيضا أن يتعلم الطلبة التوقف عندما يبلغون مرحلة التوسع والتعمق اللازمين من أجل فهم المعنى فهما كليا. ولكنهم كما نحن نعلم أن ثمة حالات، ليست بالقليلة، يجهل فيها المترجمون بعض المضامين، ومع ذلك، يستطيعون أن يترجموا ترجمات جيدة لأنهم ينساقون وراء حدسهم المهني.وأيضا، وبطبيعة الحال، هناك حالات، عديدة، في الترجمة لا يطلب فيها من المرء أن يكون متخصصا لكي يكتشف أن المترجم لم يجد المعلومة الموسوعية اللازمة.
اترك رد