سرور الحشيشة: أستاذة بكلية الآداب بصفاقس- دكتوراه في اللسانيات
مقدّمة
إنّ المعنى في اللّغة كامن في المفردة والعبارة. وهو علاقة نامية بين اللّغة والعالم ينتج عنها درجات من الدّلالة تنتظم من البساطة كما تمثّلها الفردانيّة النّمطيّة إلى التّعقيد كما يمثّله تعدديّة العناصر و العلائق في مستوى الأوضاع وكذلك في مستوى اللّغة.
ومسألة المعنى مطروحة ههنا في إطار إشكاليّة قديمة مدارها على مطلق المعنى أين يكمن، هل المعنى في العالم أم هو في الذّهن أم هو في ما تنتجه العلاقة بين العالم و الذّهن بوصفها علاقة تصوّريّة. ومهما تكن الإجابة عن هذا السّؤال فإن ّاللّغة مكمن من مكامن المعنى بصرف النّظر عن علاقتها بالعالم الخارجيّ وما يحفّ بهذه العلاقة من مسائل تتنزّل في صلب نظريّة المعنى مثل أسبقيّة المعنى على اللّغة ولاحقيّة اللّغة للعالم الخارجيّ حامل المعنى….
ولئن كانت العبارة في معناها المباشر تأليفا بين حدث لغويّ واصف وحدث غير لغويّ موصوف فإنّ الدّلالة اللّغويّة تأليف داخليّ يتمّ في سياق البنية اللّغويّة نفسها بين بنية معجميّة تتكوّن من سلسلة انتقائيّة من الوحدات و بنية تركيبيّة منجزة معجميّا. و إذا كانت الدّلالة اللّغويّة مقتضى جمعيّا داخل البنية النّحويّة فإنّ الخلاف محصور في مسألة الأسبقيّة. ونتناول هذه المسألة في إطار النّحو التّوليديّ. فقد ظهر وعي جديد بضرورة مراجعة التّنظيم الدّاخلي للنّحو وما يكون من العلاقة بين مختلف مكوّناته المكوّن المعجميّ والمكوّن التّركيبيّ والمكوّن الدّلاليّ. وفي هذا السّياق المعرفيّ ظهر في أعمال تشومسكي (1965) النّموذج المعيار Standard Modèle الّذي اتّجه إلى اعتبار المكوّن الدّلاليّ أحد مستويات البنية العميقة واعتباره لذلك مرتبطا بالمعجم والقواعد المقوليّة.
وينتمي المكوّن الدّلاليّ في تمثيل النّموذج المعيار إلى المكوّن التّركيبيّ الذي تتفرّع عنه مجموعات من القواعد منها القواعد المقوليّة والقواعد المعجميّة . وهاتان المجموعتان تمثّلان البنية العميقة وعنهما تتفرّع قواعد الإسقاط الّتي يتولّد عنها ما يسمّى بالتّمثيلات الدّلاليّة ثمّ القواعد التّحويليّة الأحاديّة الّتي بمقتضاها يتمّ الانتقال من المكوّن التّركيبيّ إلى المكوّن الصّوتيّ ومن البنية العميقة إلى البنية السّطحيّة.
ومنذ 1967 اقترح تشومسكي ضمن هذه النّظريّة جملة من المراجعات أدرجها تحت اسم النّظريّة المعيار الموسّعة Théorie Standard Etendue وتتّجه هذه المراجعات إلى الحدّ من القواعد التّحويليّة الّتي شهد الموقف المعجميّ في مقابل تراجعها نموّا قويّا مهّد لظهور النّظريّة المعجميّة.
ويفصل في الأنحاء التّوليديّة باعتبار الدّلالة أحد مكوّنات النّحو بين نموذجين أساسيّين. أوّلهما النّموذج التّوليديّ التّأويليّ générative interprétative الّذي يقول بمركزيّة التّركيب مكوّنا من مكوّنات النّحو، والتّوليد في هذا النّموذج خاصّة التّركيب وطاقة كامنة فيه وحده. و أمّا المكوّنان الصّوتي و المعجميّ فتأويليّان. فالدّلالة التي يولّدها التّركيب نفسه يؤوّلها الصّوت والمعجم. وهذه التّركيبيّة القويّة.
والنّموذج الثّاني هو النّموذج الدّلاليّ التّوليدي sémantique – générative . وتعدّ عمليّة الاقتران بين الجملة و المعنى عمليّة غير مباشرة لأنّها تمرّ عبر البنية التّركيبيّة و المعنى المعجميّ مرورا تصير له تصير البنية الدّلاليّة حاصل ما استقرّ من معاني الوحدات المعجميّة و ما تنتجه البنى التّركيبيّة من دلالة المركّبات الّتي لا تخلو من كونها دلالة معجميّة محلّها المدخل التّصوّريّ للوحدة المعجميّة .(انظرالفاسي الفهري، اللّسانيّات و اللّغة العربيّة، نماذج تركيبيّة ودلاليّة، ج2، ص 193). وتأويل العبارة دلاليّا رهين وحداتها المعجميّة والعلاقات النّحويّة الوظيفيّة في مستوى البنية التّحتيّة بوصفها بنية معجميّة تصوّريّة. و المعجم بهذا المعنى مولّد دلاليّ فنحويّ و ليس هو بلاحق على النّحو من جهة التّاويل . وهذه المعجميّة القويّة.
ويتوضّح هذا التّوجّه المعجميّ في الإقرار بأنّ النّموذج التّوليديّ منذ صيغة الأولى لم يكن نموذجا مركّبيّا صرفا، إذ يعالج تشومسكي مشكل تأويل المتواليات ذات السّامات المركّبيّة المتطابقة، فيعتبر أنّ اختلاف دلالاتها يفسّره اختلاف البنى المعجميّة مع تماثل التّركيب. وقد بدأ المكوّن الدّلاليّ يأخذ مكانه ضمن مكوّنات النّحو و يبرز بوصفه مكوّنا مستقلاّ بالتّوازي مع بروز الموقف المعجميّ، وهو موقف زامن الأنحاء المعجميّة التي تعاظم دورها لما تبنّته النّماذج التّوليديّة نفسها منذ تاريخ 1965 وما بعده من كون المعجم مكوّنا من مكوّنات النّحو لما له فيه من صلة قويّة بالدّلالة اللّغويّة تتجاوز التّأويل إلى التّوليد.
وفي إطار النّماذج المعجميّة القويّة تذهب بريزنن Bresnan (1978) إلى أنّه لا يحتفظ بالتّحويلات إلاّ في حال معالجة قواعد تركيبيّة لا تعالج في مستوى المعجم. و قد ظهرت بعد بريزنن أعمال في إطار النّظرية المعجميّة تنفي وجود مستوى للتّمثيل التّركيبيّ نظرا إلى ما صار إليه نصيب المعجم في التّمثيل.
اترك رد