د. رمزي بن دبكة
قلم يكتب على الورق تلك هي مُهمّته. يُقرّ لها ما يؤرّقه، ويسوّدها بما يُشغله ويعرفه. يبدّل صفاء البياض بصفاء ما يُفكّر، ويكسّر حاجز غروره بخروج سواده، فيسمح لحامله بأن يحرّر ما وجب أن يُذكر، وبأن يُفسّر ما يستلزم أن يُبرّر. إنّ القلم أراد عيش الصفاء، ولذلك ارتمى في كنف الصفوة من النخبة والعلماء. أراد العيش مع الورقة التي لهُ خُلقت. ولكنّه يُخرج السّواد فسمّم التي لهُ خُلقت. تظاهر بالعلم فخرج منه التعالم، وأحبّ في الورقة البياض ولكنّه جعل من قارئها يشعر بالندم. ندم على ما أصبح يُكتب، وعلى ما أصبح يُدوّن من دون أن يُعجب. وندِم بالأخص على تلكم اللغة التي ذهب رونقها وزينتها.
عجز القلم أخيرا في أيادٍ حوّلته عن الذي يعرفه، يُحبّ الوصايا والحقائق والنصح ولكن كلّ ذلك صار لا يُتقنه. استعمِل لتحرير الجهّال لا، بل لتقييد العقول. تطاول على النخبة والعلماء لأنّه على مذهب حامليه، وأنّ لحامليه أن تكون لهم حُظوة ومكانة عند من كان يُحبّهم ويُجلّهم القلم. لقد صار هذا القلم تائهاً وسط الأيادي التي تتقاذفه من كلّ جانب. معبّرا عن كلّ أصناف الانحطاط، وعن كلّ مذموم من الخصال والصفات. لقد صار القلم يشعر بالسّكر وما هو بسكران ولكن صعُبت عليه الصّحوة كما صعُبت على حامليه المخلصين.
صار لا يعرف دوره فتكلّم في الدّين من غير علم، وتكلّم في الدنيا من غير فهم. ثابت على المنكر عاجز عن تغييره، غائب عن المعروف قاصر عن تثبيته وإظهاره. يصعب على قلم كان حاملوه من العظماء ثمّ فجأة انتقل وتغيّر حاله فصار حاملوه من الدهماء. كيف لهذا القلم أن يكون صاحياً واعياً وهو أداة أصبحت في يد من هبّ و دب. كيف لا يوصف بالتخدير وهو الآن يُعبّر في نقصٍ بعد أن كان أداة علم وأدب.
خاب ظنّنا في القلم ومعه الخيبة في حامليه. هذا الذي أصبح يُعمّم الخاص ويُخصّص العام، يقيّد المطلق ويُطلق المقيّد. يرفع أقواماً لا يستحقّون بسرعة البرق، ويحطّ الأكابر عن قصد. لا يعجز في استصحاب النقص، ولا يملّ من قياس الفاسد من الأمثلة. باسم راية الاجتهاد خُرّب الاجتهاد، وباسم رفع راية العلم سطع نور الجهل المركّب الحارق. صرنا نقرأ سوادا على ورق تمنّينا لو أنّ صاحبها تركها بيضاء صافية نقيّة. فإذا لم يتحقّق صفاء ما يُكتب، كان صفاء الأصل منه أولى بالبقاء.
رجاؤنا بأن يصحو القلم من تخديره وغفوته، ويستوعب حقيقة دوره ومكانته. لا نطلب منه أعمالا زائدة ولكن نطلب منه حقائق خالدة. نتمنّى أن يذكر حقيقته ودوره بعيدا عن السواد. حُقّ له بأن يلتزم الصمت ويُقرّر السكوت وله في ذلك خير مثال. السكوت الذي قرّرته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أيّام الحرب العالميّة الثانية. قال البشير الإبراهيمي رحمه الله أن أسكت خيرٌ من أن أكتب ما يُطلبُ منّي أو أن أكتب باطلاً لا أعتقده. لم يدخل القلم حينها في عطلة حتّى يُقال له عاطل عن العمل. وإنّما دخل في نقاهة حتّى يُصان عن الفواحش والزّور ، بل حتّى يُصان على أن يُسوّد بياض من خُلقت له بكتابةٍ ليست صافية الأفكار فلا تتحمّلها وتصير تلك الورقة العظيمة المعبّرة عن الرقي كارهة لمن خُلقت له، فتكره القلم.
اترك رد