لندة واضح: جامعة الحاج لخضر باتنة 1
وما أدراك ما الحداثة ؟ مفهوم اجتماعي يعبر عن تحولات معينة في المجتمعات الغربية الحديثة. وبالنسبة للمسيري الحداثة هي عملية مستمرة تعبيرا عن نظرة معينة إلى العالم، فليس المهم هو المظاهر القائمة في المجتمع، فهي متحولة بشكل مستمر، وإنما المهم هو النظرة إلى العالم، أو رؤية الكون، التي تكمن خلف مظاهر الحداثة. لذلك هو يعرف الحداثة باعتبارها عملية اجتماعية قائمة على فكر الاستنارة (أو التنوير).
ويرى المسيري أن الشعارات التي طرحها الفكر الأوروبي التي تعبر عن ما سمي بعصر التنوير أو الاستنارة، مثل شعارات حرية إعمال العقل ونقد القدماء ومسئولية الإنسان عن أعماله وتحرير الإنسان من الأنظمة التقليدية واستخدام العلم لمصلحة الإنسان هي شعارات من حيث المبدأ مقبولة. ولكن الواقع أظهر خلاف هذه الشعارات. ويرى أن المشكلة تكمن في ذيوع هذه الشعارات بما يوحي أنها قد تحققت، وهذا أمر غير صحيح.
المشكلة أن التعريفات النبيلة السهلة هي التي كتب لها الذيوع، وهي التي أصبحت إطار الحوار بخصوص هذه الحركة الفلسفية الغربية. وكل ما تدعو إليه هذه التعريفات نبيل للغاية ولا يمكن للإنسان أن يختلف معها، فمن ذا الذي يرفض حق الاجتهاد والاختلاف وتحكيم العقل في جميع القضايا. فالمشكلة لا تكمن في استخدام العقل أو عدم استخدامه وإنما في نوع العقل الذي يستخدم (عقل مادي أداتي أم عقل قادر على تجاوز المادة) وفي الإطار الكلي الذي يتحرك فيه هذا العقل والمرجعية النهائية التي تصدر عنه. (فكر حركة الاستنارة وتناقضاته: 4).
ويؤسس المسيري موقفه هذا على النقد المعروف للحداثة ومقولاته وعلى الرصيد المتراكم الآن لفكر نقد الحداثة وما بعد الكولونيالية، ويظهر اعتماده على هذه المقولات في النص التالي،
وبعد أربعة قرون من الاستنارة، اكتشف الإنسان الغربي أن الأمور ليست بهذه البساطة، لأنها لو كانت لكنا قد قضينا على الشر والأشرار (أو معظمهم على الأقل) منذ زمن بعيد، ولما ظهرت في العالم الغربي (الذي طبق مثل الاستنارة منذ أمد بعيد) حركة عنصرية كاسحة في القرن التاسع عشر، وتشكيل إمبريالي شرس أباد الشعوب وأذلها، ولما اندلعت حربان عالميتان (غربيتان)، ولما ظهر الحكم الاستاليني والنازي اللذان لم يدمرا العقل وحسب بل دمرا الروح والجسد، ولما ظهرت حركات ثورية تدافع عن الإنسان وتحولت إلى حكومات إرهابية تبيد الملايين، ولما وجدنا أنفسنا في مدن إيقاعها لعين نسير في طرقاتها نتلفت من حولنا، ولما استيقظنا في الصباح نسأل عن أخبار التلوث والانفجارات النووية والتطهيرات العرقية والرشاوى وعمولات السلاح والفساد والإباحية والإيدز وأخبار النجوم وفضائحهم ومعدلات تفكك الأسرة ومدى نهب الشمال للجنوب وحسابات حكام العالم الثالث في بنوك سويسرا، ولما ظهرت حركات عبثية لا عقلانية تناصب العقل العداء وتعلن بفرح وحبور تفكيك الإنسان ونهاية التاريخ، ولما شعرنا بالاغتراب حتى أصبح رمز الإنسان في الأدب الحداثي هو “سيزيف الذي يحيا حياة لا معنى لها” وأصبح رمز العصر الحديث هو الأرض الخراب، ولما قضى الإنسان الحديث وقته في انتظار جودو الذي لن يحضر. (فكر حركة الاستنارة وتناقضاته: 7).
وفي إطار نقده للحداثة يعرف المسيري الفكر الكامن خلف الحداثة، وهو فكر الاستنارة، بأنها رؤية مادية للكون،
ونحن نذهب إلى أن الاستنارة هي ببساطة شديدة (لكنها غير مخلة) رؤية مادية عقلانية تدور حول رؤية محددة للعقل وعلاقته بالطبيعة/المادة وتتفرع عنها رؤية للتاريخ وللأخلاق والجمال..الخ. وتدور أي منظومة فلسفية حول ثلاثة محاور: الإنسان والطبيعة والإله، وفي الاستنارة يحل العقل محل الإنسان في هذا الثالوث. (فكر حركة الاستنارة وتناقضاته: 12-13).
كما يعرف مفهوم “العقلانية” التي هي الفكرة المركزية في فكر الاستنارة بأنها الإيمان بأن العقل قادر وحده على معرفة الحقيقة الكاملة، وأنه بديل الإله،
ولكن هناك من يذهب إلى ان العقلانية هي الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة بمفرده دون مساعدة من عاطفة أو إلهام أو وحي، وبأن الحقيقة هي الحقيقة المادية المحضة التي يتلقاها العقل من خلال الحواس وحدها، وبأن العقل إن هو إلا جزء من هذه الحقيقة المادية فهو يوجد داخل حيز التجربة المادية محدودا بحدودها (لا يمكنه تجاوزها)، وأنه بسبب ماديته هذه قادر على التفاعل مع الطبيعة/المادة، ويمكنه انطلاقا منها (ومنها وحدها) أن “يؤسس” منظومات معرفية وأخلاقية ودلالية وجمالية تهديه في حياته ويمكنه على أساسها أن يفهم الماضي والحاضر ويفسرهما ويرشد حاضره وواقعه ويخطط لمستقبله. (الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ، – رؤية حضارية جديدة: 238). وكذلك،
فالعقل هنا هو بديل الإله في النظم الدينية وله أسبقية على كل الموجودات ويتمتع باستقلالية كاملة عن الطبيعة/المادة، بل ويعني أيضا استقلال كل فرد عن الكل الإنساني. (فكر حركة الاستنارة وتناقضاته:15)
ويرى المسيري أن الحداثة أدركت قصور النظرة الميكانيكية الآلية إلى الإنسان فاتجهت إلى النظرة العضوية، ولكن ذلك عند المسيري لم يحل المشكلة الجوهرية في الحداثة، وهي النظرة المادية،
والفلسفة العضوية هي آخر محاولات الإنسان الغربي تجاوز اغترابه الشديد في عالم مادي ميت، ينكر عليه مركزيته في الكون وخصوصيته الإنسانية. ولكن رغم كل التحوير والتدوير، نجد أن النموذج العضوي نموذج مادي ينكر التجاوز، ويدور في إطار المرجعية الكامنة. ولذا فهو يسقط في نفس المشكلات التي يسقط فيها النموذج الآلي، فيجابه الإنسان مرة أخرى بعالم مادي، قد يتسم بالحيوية والحركية والجدة، ولكنه مع هذا ينكر على الإنسان مركزيته في الكون، كما ينكر عليه خصوصيته وتركيبيته وحريته الإنسانية ومقدرته على التجاوز.( اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود:40)
إشكاليات وتناقضات الحداثة
يرصد الدكتور المسيري عدة إشكاليات واجهتها الحداثة الغربية عبرت عن التناقضات الكامنة في الفكر الكامن ورائها، أي فكر الاستنارة. والإشكالية الأولى هي عملية التفكك المستمر لهذا الفكر والابتداء من مركزية العقل ثم الانتهاء إلى مركزية المادة، وانخفاض سقف القيم بشكل تدرجي من قيم إنسانية عليا إلى قيم مادية جسدية ترتكز على اللذات المادية. وتتبدى الإشكالية في الصراع بين النموذج الواحدي المادي المتمركز حول الذات والذي يفترض أسبقية الإنسان على الطبيعة/المادة والنموذج الواحدي المادي المتمركز حول الطبيعة/المادة ويفترض أسبقيتها على الإنسان. فليس هناك في فكر الحداثة، حسب المسيري، مفهوم واحد للعقل وللإنسان والطبيعة وإنما مفهومان متناقضان متصارعان يؤديان إلى ظهور نوعين من أنواع الفكر، كلاهما يصنف على أنه “عقلاني”.
ولذا، نجد أن فكر حركة الاستنارة انقسم إلى قسمين يتبدى من خلالهما الصراع بين النموذج المتمركز حول الإنسان وذلك المتمركز حول الموضوع، قسم يمنح أولوية للعقل على الطبيعة/المادة (التمركز حول الإنسان)، وقسم يمنح الطبيعة/المادة أولوية على الإنسان (التمركز حول الطبيعة (فكر حركة الاستنارة وتناقضاته: 28). ثم،
وبعد أن يقوم الفكر الاستناري بتأكيد أهمية العقل الإنساني ومركزية الإنسان فإنه ينتهي إلى تفكيك العقل ورده إلى المادة والقوانين العامة للحركة بحيث يصبح العقل مادة طبيعية متلقية (سلبية وغير فعالة) للمعطيات المادية الحسية وتصبح مهمته هي رصد الطبيعة بأمانة شديدة واكتشاف ما فيها من توازن دون أي تدخل، ومن ثم يفقد الإنسان مركزيته (التي اكتسبها بسبب عقله الفعال). (فكر حركة الاستنارة وتناقضاته:30)
ويترجم هذا التطور على المستوى الفكري إلى تطورات مماثلة على المستوى الاجتماعي فيفقد الإنسان خصوصيته التي تميزه عن باقي الكائنات.
وهكذا يتم في نهاية الأمر تغليب الجانب المادي، الأقوى، وهو الجانب العام الذي يجسد قوانين الحركة. ومثلما ذاب العقل في الطبيعة، يذوب الخاص في العام ويذوي الاهتمام بالخاص والفردي ويفقد الإنسان خصوصيته، فليس هناك ما يميزه عن بقية الكائنات. وبدلا من الإنسان المليء بالأسرار، الفردي المتفرد، صاحب العقل والمركزية، يظهر الإنسان الذي يجسد القوانين التي يمكن رصدها ومعرفتها والتحكم فيها (التمركز حول الذات الذي يرد إلى انتصار الموضوع). (فكر حركة الاستنارة وتناقضاته:35). وهذا ينتج الإنسان ذو البعد الواحد،
من هنا يتراجع الإنسان القومي المتعين المرتبط بزمان ومكان محددين والذي يأكل الأطعمة التقليدية ويرتدي الملابس الوطنية ويعمل في خدمة الوطن ويعبر عن روح أمته وتاريخها، ويظهر البعد الإنساني الطبيعي أو العالمي أو المادي (الإنسان المتشيئ ذو البعد الواحد الذي يوجد خارج أي سياق تاريخي أو اجتماعي (أو هكذا يظن) لا خصوصية له (بما في ذلك الخصوصية الإنسانية). (فكر حركة الاستنارة وتناقضاته ص37)،
وفي النهاية يظهر الإنسان الطبيعي الذي يرد إلى أكثر صفاته أولية واشتراكا مع باقي الكائنات الطبيعية،
ومع ظهور المنظومة العلمانية الشاملة، ومع استبعاد الماوراء ظهرت فكرة الإنسان الطبيعي، الذي يوجد في الطبيعة/ المادة ويرد إليها. في هذا الإطار ظهرت الصور المجازية العضوية، ثم ظهر الجسد كصورة مجازية أساسية. ثم تطورت الصور مع تطور المجتمع، ومع تصاعد معدلات الحلولية والعلمنة، ظهرت قبالاه مسيحية تربط بين الجنس كصورة مجازية ورؤية الكون، كما ظهرت حركات “دينية” ترخيصية. وبعد أن كان الإنسان يرد إلى الطبيعة/المادة، ثم إلى الجسد، أصبح يرد إلى القاسم المشترك بين الإنسان وكل الكائنات الطبيعية الأخرى، وهو الأعضاء التناسلية. (اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود:73).
والمشكلة الثانية التي يرصدها المسيري هي مشكلة الشك والنسبية باعتبارها مشكلة كامنة بشكل دائم في فكر الحداثة. وهنا يستخدم المسيري أحد نماذجه التحليلية وهو مفهوم “المدلول المتجاوز”، كجزء من مشكلة الدال والمدلول وقضية المعنى،
وقد تمت مناقشة الإشكاليات الفلسفية الكبرى من خلال مناقشة إشكالية قد تبدو وكأنها إشكالية لغوية محضة، وهي إشكالية علاقة الدال والمدلول، والمرتبطة تماما بمفهوم “المدلول المتجاوز”. وحتى نفهم المعنى الدقيق لهذا المصطلح الأخير سنطرح فكرة بسيطة جدا، وهي أن لكل شيء مركز، وبدون هذا المركز، فإننا لن نعرف للشيء بداية أو نهاية أو اتجاه، أي أنه ستسود الفوضى والنسبية. واللغة لا تختلف عن أية ظاهرة إنسانية، إذ لا بد أن يكون لها مركز، وإن لم يكن لها مركز فإن الكلمات (الدوال) ستكون في حالة فوضى كاملة. ولنضرب مثلا.. إن قلنا جملة بسيطة مثل “سأذهب إلى الكلية غدا”. هذه الجملة تفترض أيضا وجود حاضر ومستقبل، وإرادة إنسانية، وسبب ونتيجة. ولكن ما ضمان صدق هذا الافتراض، وما ضمان مطابقته للواقع؟ الضمان الوحيد هو وجود شيء متجاوز للحاضر والمستقبل والإرادة الإنسانية والسبب والنتيجة، يضمن وجود هذه العناصر واستمرارها رغم تجاوزه إياها. هذا الشيء هو “المدلول المتجاوز” – الركيزة الأساسية (المبدأ الواحد-اللوجوس) لكل الدوال، يقف خارج لعب الدوال، فهو موجود قبل وجودها، وهو “غير ملوث” بهذا اللعب، وهو ليس جزءا من اللغة، التي لا يمكن أن تصبح أداة للتواصل إلا بتوقف لعب الدوال وانزلاقيتها وانفصالها، عن المدلولات. ووجود مدلول متجاوز (مفارق) هو الطريقة الوحيدة لكي نخرج من عالم الحس والكمون والصيرورة ونوقف لعب الدوال إلى ما لا نهاية، ونحرز التجاوز والثبات، ونؤسس منظومات فلسفية معرفية وأخلاقية (اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود: 131).
وتظهر تناقضات الحداثة هذه، عند المسيري، في مجالات متعددة، مثل نظرية المعرفة، وعلاقة الفرد بالدولة، وفي النظام الاقتصادي، وفي دور التكنولوجيا في المجتمع، ومفهوم التاريخ وفكرة التقدم، وفي النظرية الأخلاقية. (فكر حركة الاستنارة وتناقضاته: 27-60).
اترك رد